كل طرف قادر على إلحاق الأذى بالطرف الآخر ولا أحد يستطيع حماية بلده لا “حزب الله” ولا إسرائيل
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
يقول المفكر الاستراتيجي الصيني القديم سن تزو “المحاربون المنتصرون يربحون الحرب ثم يذهبون عن القتال. والمحاربون المهزومون يذهبون إلى الحرب ثم يبحثون عن النصر والربح”. لكن الذين يرفضون تعلم هذا الدرس المهم فإنهم يأخذون شعوبهم إلى جحيم يتصورون أنهم لن يحترقوا هم فيه.
معادلة الرد على تجاوز تل أبيب للخطوط الحمر على جبهات الإسناد محددة، استهداف موقع نوعي مهم في قلب إسرائيل من دون التسبب بالانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة. “حزب الله” اختار يوم أربعين الإمام الحسين وموعد مفاوضات الهدنة في القاهرة للرد المنتظر على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر. وبقي رد إيران على اغتيال إسماعيل هنية في طهران وردود الجبهات الأخرى.
ما قام به “حزب الله” كان عملية مركبة ودقيقة، إطلاق 340 صاروخ “كاتيوشا” على معسكرات في الجليل والجولان تشاغل الدفاعات الإسرائيلية، بحيث تعبر المسيّرات إلى هدفها الأساس في قاعدة “غليلوت” التي تضم استخبارات “أمان” والوحدة 8200 في ضواحي تل أبيب على بعد 110 كيلومترات من الحدود اللبنانية، وما قامت به إسرائيل كان عملية استباقية بقصف جوي مكثف. “حزب الله” أعلن بلسان السيد حسن نصرالله أنه أصاب الهدف، وتل أبيب ادعت أنها أحبطت عملية المقاومة ودمرت “آلاف الصواريخ”، ولا أدلة مادية ملموسة على الأمرين، حتى إشعار آخر.
لكن اللافت هو قدرة “حزب الله” على الوصول إلى هذا العمق وسط إسرائيل والحصول على معلومات استخباراتية مهمة، واللافت أكثر هو سقوط ما كان يسمى “توازن الردع” وصعود ما يمكن أن يسمى “توازن الإيذاء” و”توازن اللاحماية”. فكل طرف قادر على إلحاق الأذى بالطرف الآخر، ولا طرف يستطيع حماية بلده. لا “حزب الله” قادر على حماية لبنان، ولا إسرائيل قادرة على حماية مستوطنيها في الشمال والجنوب، والمفارقة أن حرب الإسناد لـحركة “حماس” في غزة، لا سيما على جبهة الجنوب اللبناني تكاد تصبح مركز الثقل في الصراع مع إسرائيل، ذلك أن حرب غزة استهلكت نفسها، كما يقول الجنرالات والخبراء العسكريون. ووصلت إلى الذروة وصار استمرارها يأكل من أهدافها، ولكنها مستمرة، ومفاوضات الهدنة في حرب غزة التي ترتبط بها جبهات الإسناد استهلكت نفسها أيضاً من دون نتيجة حاسمة ولكنها مستمرة، والمشكلة ليست في كون المفاوضات تدور على أرض المعركة وتدار بمواقف حادة معلنة، على عكس المثل القائل إن “التفاوض مثل الفطر لا ينمو إلا في الظلام”. المشكلة أنها مفاوضات في صراع له طابع الوجود، فما يهم “محور المقاومة” هو هدنة بشرط الحفاظ على “حماس” واستمرارها في حكم غزة، وما يهم إسرائيل هو إنهاء حكم الحركة وسلاحها، وإن لم تكن قادرة هي على حكم غزة أو راغبة في ذلك، وليس لديها تصور عن “اليوم التالي” في القطاع.
ومن الصعب على طهران الإمساك بورقة القضية الفلسطينية من دون “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة، والأصعب هو “بناء شرعية دولية” لـ”محور المقاومة” يرى وزير الخارجية الإيراني الجديد عباس عراقجي ضرورة العمل له، إن لم يكُن شعار تحرير فلسطين مالئ الخطاب السياسي. وعراقجي ليس المسؤول الإيراني الوحيد الذي يعترف بأن “محور المقاومة هو أهم مكوّن لقوة الجمهورية”. لكن تكرار الاعتراف بهذا الواقع يؤكد أن الفصائل المرتبطة بـ”الحرس الثوري” الإيراني عبر “وحدة الساحات” ليست قوة لبلدانها بل للمركز القيادي في إيران.
واللعبة صارت، ولعلها كانت من الأساس، أكبر من غزة وحربها، وأهداف اللاعبين متنوعة، فـ”حماس” تريد وقف النار، وكانت ولا تزال تدعو إلى “فتح كل الجبهات” على العدو، كما جاء في بيان الإعلان عن عملية “طوفان الأقصى” بلسان القائد العسكري محمد الضيف، إذ ترى في توسيع الحرب بداية التغيير الجدي على الطريق إلى تحرير فلسطين، ونتنياهو يرفض وقف النار ويريد توسيع الحرب لإنقاذه وإخراج إسرائيل من مأزقها عبر توريط أميركا في حرب مع إيران. أما الأخيرة التي تضغط من أجل وقف النار في حرب غزة وتعلن أنها لا تريد التورط في حرب واسعة، فتراهن عملياً على الأزمات والفوضى. لماذا؟، لأنها تربح في إدارة حرب في المنطقة وتخسر في خوض حرب مع أميركا ولا تريد حرباً مع إسرائيل. وأما أميركا في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، فإنها تريد وقف النار في حرب غزة وإنهاء حروب الإسناد عبر لبنان والعراق واليمن، والدفاع عن إسرائيل من دون أن تمارس الضغط القوي الذي لا يستطيعه أحد سواها على نتنياهو. وفي مثل هذه الحال، فإن ما يستطيعه الوسيطان العربيان مصر وقطر هو قليل جداً.
وليس بعد الردود الحتمية، بصرف النظر عن تصوير بعضهم للانتظار بأنه نوع من “انتظار غودو” الذي يأتي ولا يأتي، سوى العودة للشغل كالمعتاد، حرب استنزاف دخلت شهرها الـ11 وكثر ضحاياها وخسائرها. والواقع أن استراتيجية “وحدة الساحات” ضمن “محور المقاومة” هي مقاومة كل ما يعرقل المشروع الإقليمي الإيراني، لا إسرائيل وحدها بل أيضاً الوجود العسكري الأميركي وما يسمى “الغرب الجماعي”، والدولة الوطنية العربية صاحبة الشرعية، حيث الساحات لفصائل من خارج الشرعية، وهي مقاومة دفاعية ضد أي تحرك يستهدف المصالح الإيرانية، وهجومية حين تريد طهران ذلك لتقدم مشروعها.
يقول المفكر الاستراتيجي الصيني القديم سن تزو “المحاربون المنتصرون يربحون الحرب ثم يذهبون عن القتال. والمحاربون المهزومون يذهبون إلى الحرب ثم يبحثون عن النصر والربح”. لكن الذين يرفضون تعلم هذا الدرس المهم فإنهم يأخذون شعوبهم إلى جحيم يتصورون أنهم لن يحترقوا هم فيه.
المقاله تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت عربيه