هل بدأ ثاني أكبر اقتصاد في العالم في التراجع؟

مؤشرات التباطؤ في الصين تنذر بنهاية حقبة  معجزة النمو

أحمد مصطفى صحافي متخصص في الشؤون الدولية

من أهم أهداف حكومة حزب “العمال” الحالية تنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات النمو، لذلك يسعى ستارمر إلى تقوية العلاقات مع الصين

تسعى الحكومة البريطانية تحت راية حزب “العمال” إلى التقارب مع الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلف الولايات المتحدة، إذ قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في مكالمة هاتفية استمرت 45 دقيقة إلى الرئيس الصيني شي جينبينغ إن بلاده ترغب في علاقات أوثق مع بكين.

وتعد الصين أحد أهم الشركاء التجاريين لبريطانيا على رغم أن العلاقات  تدهورت ما بين البلدين في الأعوام الأخيرة من حكم حزب المحافظين السابق على حكومة العمال وستارمر.

وكان رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون سعى مطلع العقد الماضي إلى تعزيز العلاقات مع بكين على أمل جذب استثمارات صينية وزيادة حجم التبادل التجاري في محاولة لإنعاش الاقتصاد البريطاني.

ومن أهم أهداف حكومة حزب “العمال” الحالية تنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات النمو، لذلك يسعى ستارمر إلى تقوية العلاقات مع الصين.

 إلا أن مدير السياسات العامة والاتصالات في معهد الشؤون الاقتصادية ماتيو ليش كتب مقالاً في “سيتي إيه إم” نهاية يوليو (تموز) الماضي يصف فيه الاقتصاد الصيني بأنه في “حال اختناق” في ظل حكم الرئيس شي جينبينغ، محذراً من أن بكين ليست الوجهة المثالية حالياً للتعاون معها لمن يريد لاقتصاده النمو.

فالاقتصاد الصيني حالياً لم يعد كما كان قبل نهاية العقد الثاني من القرن الحالي، الأسرع نمواً والأقوى تطوراً في العالم، فعلى مدى 20 عاماً الأولى من القرن الـ21 كان ثاني أكبر اقتصاد في العالم ينمو بمعدل أكثر من 10 في المئة، لكن الأعوام الأخيرة شهدت تراجع معدل النمو هذا إلى النصف.

إلى ذلك، يعاني الاقتصاد الصيني الآن أزمة قطاع عقاري انفجرت فقاعته مما نتج منها ديون تهدد القطاع المالي.

مركزية السياسات والعقوبات

من الصعب القول إن الاقتصاد الصيني “ينهار”، لكنه بلا شك يتراجع ولم يعد توسعه ومعدلات نموه كما كانت قبل عام 2019.

فمعدل النمو حالياً في حدود الخمسة في المئة، أي أقل من نصف ما كان عليه قبل أزمة وباء كورونا، ومع أن الوباء بدأ من الصين، التي شهدت أطول فترة إغلاق لاقتصادها لمنع تفشي فيروس كوفيد-19، فإن الأزمة كانت عالمية وتأثرت فيها كل اقتصادات العالم.

ويرجع بعض المحللين أسباب التدهور في نمو الاقتصاد الصيني إلى العقوبات والقيود التي بدأت تفرضها الولايات المتحدة، وبعض الدول الغربية، على الصادرات الصينية وعلى الاستثمارات الأجنبية في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وذلك مع تصاعد الحرب التجارية مع الصين التي بدأت برسوم جمركية 25 في المئة على صادراتها فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عام 2018 واستمرت فيها ثم زادت عليها إدارة الرئيس جو بايدن منذ مطلع عام 2021.

لكن أزمة وباء كورونا، وحتى العقوبات الأميركية والغربية، ليست السبب الأساس لتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، إذ يرى كثير من المحللين والمعلقين في الغرب أن سياسات الرئيس شي وراء تباطؤ النمو وتدهور الاقتصاد ومن ثم بروز مشكلاته البنيوية مثلما حدث في القطاع العقاري والمالي وشركات التكنولوجيا، خصوصاً التكنولوجيا المالية.

وعن ذلك قال ليش إن “الرئيس الصيني لجأ إلى زيادة مركزية السلطة ووضع السياسات الاقتصادية وتنفيذها، مما سبب مضايقات للشركات والمستثمرين الأجانب وزاد قمع المنتقدين في الداخل ووفر الدعم للإنتاج المحلي”، مضيفاً أن “ذلك  جاء بعد أعوام من تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي الذي كان له أثر في استمرار النمو القوي للاقتصاد”.

وهناك بعض تلك السياسات تبررها السلطات في بكين بضرورات “الأمن القومي”، إلا أن ماتيو ليش وغيره من المعلقين والمحللين يرون أن حقيقة الأمر هي سعي الرئيس الصيني إلى إحكام قبضة الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد على شؤون الاقتصاد.

ومن وجهة نظر هؤلاء أن تلك الإجراءات “معادية لليبرالية الاقتصادية” التي يرونها من أهم عوامل النمو والتطور سابقاً في الصين.

في الأسبوع الماضي، كتب المتخصص في العلوم السياسية بجامعة تافت والباحث في معهد “إنتربرايز” الأميركي مايكل بيكلي مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز” عما وصفه بأنه “غيبوبة ما بعد النشوة” التي دخل فيها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

نهاية المعجزة

على أية حال، هناك شبه إجماع بين الاقتصاديين والمعلقين في الغرب على أن “معجزة” النمو الصيني الذي يقود نمو الاقتصاد العالمي انتهت، ليس لبروز اقتصادات أسرع نمواً في آسيا مثل الهند وفيتنام وحسب، وإنما لأن السياسات الصينية أصبحت أكثر مركزية وهناك تضييق على القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، فضلاً طبعاً عن تراجع الاستثمارات نتيجة القيود الأميركية والغربية عليها وأيضاً مخاوف المستثمرين والشركات من العقوبات الأميركية إذا استمرت تعمل في الصين أو توسع نشاطها هناك.

وبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 ضخت الصين ما يصل إلى 29 تريليون دولار في اقتصادها على مدى تسعة أعوام لتحافظ على توسعه ونموه بمعدلات عالية.

وأصبح الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم لكنه الأول في قيادة النمو الاقتصادي العالمي، وفي الفترة من 2008 إلى 2021 شكل الاقتصاد الصيني أكثر من 40 في المئة من النمو الاقتصادي العالمي.

أدى ذلك إلى غليان فقاعة دين في الصين ذاتها، وأصبح التوسع في النشاط الاقتصادي الممول بالاقتراض يشكل خطراً بأن ينفجر في أية لحظة أو يقود تراجع الائتمان الحكومي والدعم المباشر وغير المباشر إلى تقلص النشاط وربما الانكماش.

ومع التغير في السياسات وسعي بكين إلى “ضبط” الاقتصاد وإعادته تحت التخطيط المركزي أكثر بدأت تنفجر مشكلات القطاع العقاري والتكنولوجيا المالية وغيرها.

الديون والاعتماد المتبادل

ولم تكن “معجزة” الصين الاقتصادية مقصورة على اقتصادها وحسب، بل غطت فوائدها معظم دول العالم، خصوصاً الاقتصادات النامية والصاعدة.

وبحسب صندوق النقد والبنك الدوليين، أصبحت الصين أكبر دولة مقرضة في العالم للدول الأخرى، خصوصاً في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، إذ بلغت تلك القروض أكثر من تريليون دولار، جاءت معظم تلك القروض ميسرة مع بعض البنود التي تضمن توسع الشركات الصينية في الخارج، وفي العقدين الأخيرين كانت ثلث مشاريع البنية التحتية في قارة أفريقيا تنفذها شركات صينية.

في غضون ذلك، يرى كثيرون من الاقتصاديين أن موجة الإقراض الصينية للدول النامية لم تراع الآثار البعيدة المدى لتراكم الديون.

وحين بدأت تلك الاقتصادات في أفريقيا وغيرها تواجه أزمة ديون في الأعوام الأخيرة، حولت الصين بعض القروض إلى استثمارات أو إعادة التمويل، ولكن بقروض قصيرة الأجل وحسب لتأجيل المشكلة.

ربما يعكس ذلك مدى تأثير أي تغيير في وضع الاقتصاد الصيني في بقية العالم، خصوصاً في ما يتعلق بأزمة الديون العالمية.

img-20240822-wa0009_720_720.jpg

بالطبع ليس التأثير الصيني وحسب بسبب مشكلة الدين العالمي وحجم إقراضها للدول النامية والصاعدة واعتماد اقتصادات تلك الدول على الصين، إنما هناك تأثير آخر لا يقل أهمية وهو حساسية اقتصادات الشركاء التجاريين للصين، أي معظم دول العالم وفي مقدمتها أميركا والغرب والدول الآسيوية المهمة، لأي تغير في الاقتصاد الصيني نتيجة هذا الاعتماد المتبادل، ذلك أن البضائع والسلع الصينية أو المنتجة في الصين أصبحت جزءاً أساساً من اقتصاد معظم الدول.

ويشير كثير من الدراسات الاقتصادية والبحوث في مراكز الغرب إلى أن تراجع الاقتصاد الصيني واحداً في المئة يعني أن اقتصادات الشركاء التجاريين تتراجع بالنسبة ذاتها تقريباً.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك الاقتصاد الألماني، أكبر اقتصاد في أوروبا ومحرك نمو دول منطقة اليورو الأول، إذ يعتمد الاقتصاد الألماني إلى حد كبير على العلاقة الاقتصادية والتجارية مع الصين، لذا فإن أي تراجع بسيط في النشاط الصناعي الصيني أو أي اختناقات في سلاسل الإمدادات من الصين تضر بالاقتصاد الألماني بشدة.

وربما لا يكون الاقتصاد الصيني في أزمة حالياً، لكن مؤشرات التباطؤ والتراجع تعزز القول إن معجزة النمو الكبير والمستمر في نهايتها، ولا يمكن توقع أثر ذلك في الاقتصاد العالمي بصورة دقيقة حتى تستقر موجة الهبوط الحالية في نمو الناتج المحلي الصيني.