لم يعد سراً أن الغرب الرسمي في معظمه والأميركي بخاصة يدعم تلك المسيرة الدامية في كل اتجاه
مصطفى الفقي كاتب وباحث
سئم الجميع اللغة التي ظللنا نلوكها على امتداد 80 عاماً، وحان وقت اللجوء إلى لغة مبتكرة تقوم على حلول واقعية ومبادرات بناءة.
هي عبارة أسرفنا كثيراً في تكرارها ولم نتوقف عن استخدامها حتى اختفى مضمونها وغاب تأثيرها وأصبحت روتينية تشير إلى وحدة الصف العربي، وترمز لمضمون لم يعد له وجود إلى حد كبير، ويجب أن نعترف هنا أن العمل العربي المشرك قد بلغ قمته في حرب 1973 حين وقف الملك فيصل داعماً للرئيس الراحل السادات ومباركاً للانتصار وقائداً للحظر النفطي عن الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
يومها وصلت العلاقات بين الدول العربية إلى ذروة التوافق القومي والتفاهم العربي، لكن الأمور تبدلت بعد ذلك وتغيرت عندما ذهب الرئيس السادات إلى القدس، بقرار مصري، مما أدى إلى حال من التشرذم والانقسام على الساحة العربية، ونحن نقول ذلك مدركين أن ما فعله السادات هو اجتهاد يحسب له إذا حقق نفعاً ولا يحسب عليه إذا لم يجد فتيلاً، فعلى المرء أن يسعى، لكن ضمان النجاح أمر بيد الخالق وحده.
ونؤكد هنا أن إسرائيل تعتمد على حركة عنصرية سرطانية ليس من السهل اقتلاع جذورها أو تغيير مسارها إلا بعد مفاوضات جادة، وشاقة تدرك فيها كل الأطراف أهمية السلم والأمن الدوليين في المنطقة، فما من صراع في التاريخ جرى حسمه إلا على مائدة المفاوضات شرط أن يكون ذلك تحت مظلة شرعية دولية عادلة لا تنحاز لطرف ولا تتأرجح ضد الحق والحقيقة.
إنني أكتب هذه السطور في ظل مرحلة شديدة الصعوبة في تاريخنا العربي والقومي، بل هي من أكثرها تعقيداً في العصر الحديث، فالدماء ما زالت تسيل والعدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة يتصاعد يوماً بعد يوم ومحاولات السلام كلها يجري إجهاضها بصورة ملحوظة بل وممنهج.
ولم يعد سراً أن الغرب الرسمي في معظمه والأميركي بخاصة يدعم تلك المسيرة الدامية في كل اتجاه، بل وأجازف لأقول إن نتنياهو الذي يقود ذلك العدوان الغاشم على الشعب الفلسطيني يحظى حتى الآن بغالبية بسيطة من الرأي العام الإسرائيلي خصوصاً اليمين الديني المتطرف، ولذلك فإنه ليس صحيحاً القول إن نتنياهو نغمة نشاز منفردة في إسرائيل أو أنه يغرد خارج السرب، بل الصحيح أنه نتاج للتطرف الإسرائيلي الذي وصلت إليه الحال داخل الدولة العبرية.
وعلى رغم أننا كعرب نملك كروتاً كثيرة لكنها للأسف معطلة بسبب نتائج الدعم الأميركي المطلق للحكومة الإسرائيلية بل وإمدادها المستمر بالذخائر والأموال وحرصها الدائم على الدفاع عنها تحت كل الظروف، كما أن العقل العربي المشترك لم يتمكن حتى الآن من حشد قواه الحقيقية لمواجهة ما يجري، فليس المطلوب هو مزيد من الصياح أو عبارات الشجب والإدانة إنما المطلوب حقاً وصدقاً هو إبراز الاستهجان الرسمي من الإدارات الدولية المختلفة خصوصاً في عواصم الغرب.
ولا أزال أدعو إلى مزيد من المبادرات البناءة بلغة جديدة لم يألفها الخصم، فإن واجبنا الآن هو فتح قنوات للاتصال مع من يختلفون معنا في الرأي على المستويات كافة، وفي كل المجالات السياسية والاقتصادية الثقافية والاجتماعية، الشبابية والرياضية، كما يجب أن ندرك أن الحرية غالية الثمن وأن تحقيقها واجب مقدس، ولا يتم بين ليلة وضحاها ولا يمكن التخلي عنه أو التفريط فيه، وإنني أدعو مخلصاً هنا إلى عدد من الأفكار التي تستحق الدراسة ومنها أولاً التركيز على التفاوض بعيد المدى للحل الجذري لذلك الصراع بحيث لا يمكن أن يكون هدفنا الوحيد هو وقف القتال في غزة، بل لا بد من أطروحات موازية لتسوية القضايا المعلقة مع إدراك تام بأن التفاوض مع اليهود صعب للغاية، ولكنه ليس مستحيلاً إذا شعروا بأن لدى العرب إرادة حديدية لتغيير الوضع الراهن والتقدم نحو حلول براغماتية بلغة جديدة وأساليب لم يعهدها الطرف الآخر.
فلقد سأم الجميع اللغة التي ظللنا نلوكها على امتداد 80 عاماً، وحان وقت اللجوء إلى لغة مبتكرة تقوم على حلول واقعية ومبادرات بناءة إذا لم يستهوي بعضها الطرف الآخر، فإنه يستهوي في الأقل أطرافاً أخرى تبدو متأرجحة بين الطرفين، خصوصاً في دول أوروبا الغربية على اعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية هي المعقل الأخير لدعم إسرائيل في كل الظروف.
وثانياً أصبح من الضروري قيام حكومة فلسطينية موقتة تجمع الشمل وتوحد الكلمة تتخذ من أحد العواصم غير العربية مقراً لها، وليكن في إسطنبول أو عاصمة اليونان أو قبرص، بحيث نكون على تماس مباشر مع الاتحاد الأوروبي والدول المعنية في شرق البحر المتوسط، مع تقديم أفكار جديدة ترتبط بالتعايش المشترك والدولة الفلسطينية المنشودة، مع وجود ضمانات متبادلة للتهدئة والاستقرار بين الجانبين، ولا أزال أحلم بكيان فلسطيني واحد يضم “منظمة التحرير” وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وغيرهما من الفصائل، فلو شهد العالم المعاصر وحدة الكلمة الفلسطينية بلغة هادئة تتمسك بالثوابت وتقترب من سياسات منظمة التحرير الفلسطينية في بعض مراحلها عندما كان السلام يلوح في الأفق ويبدو غير بعيد المنال فالأمل الواقعي يفتح الأبواب.
ثالثاً إن الأوراق العربية الباقية وفي مقدمها التطبيع مع أكبر وأهم دولة إسلامية يمكن أن يقدم إغراء شديداً للمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل والرضوخ لما هو متاح من مظاهر الشرعية الدولية في إطار الحقوق الفلسطينية المشروعة وثوابت القضية الراسخة، مع فك ذلك الارتباط المعقد بين أزمة الشرق الأوسط في جانب والصراع العربي – الإسرائيلي في جانب آخر، وقد كنت أود لو أن طهران أعلنت أنها ستحتفظ بالرد حالياً على اغتيال هنية في مقابل التوقف الفوري عن العمليات العسكرية في غزة، ولكننا فصلنا بين السياقات المختلفة وكأن غرب آسيا والشرق العربي جزر منفصلة، بينما في ظني أنه يمكن توظيف دول الجوار وخصوصاً تركيا وإيران بطبعة حديثة ولغة مختلفة للوصول إلى نقطة تقترب من إمكان الجلوس على مائدة المفاوضات.
رابعاً إن حركة “حماس” قد أدت دورها عسكرياً، بما له وما عليه، وحان الوقت لتوظيف دورها بالتنسيق مع غيرها من الفصائل لخدمة لغة التفاوض المطلوب بين الأطراف، فلا يوجد هناك قتال دائم ولا تفاوض مستمر، ولكن المزيج بينهما هو الفيصل في حل النزاعات وإنهاء الحروب، ويمكن توزيع الأدوار العربية مثلما يفعل الإسرائيليون بين معتدل ومتشدد في إطار الثوابت القومية ومن دون التنازل عنها، وليتذكر الجميع أن السلام العادل طريقة وليس فقط مجرد حقيقة، ولدينا في عالمنا العربي عقول مضيئة في كل الاتجاهات يمكن أن يكون بينها تناغم يسمح بالوصول إلى ما نحتاج إليه من تسوية نهائية أو إيجاد طريق نحوها.
وخامساً إننا يمكن أن نوظف العلاقات العربية كذلك مع بعض الدول الآسيوية مثل الهند والصين، بل والأوروبية مثل إسبانيا وربما فرنسا، أيضاً لفتح جسور جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليست على نمط “أوسلو” ولكنها تكون أقرب إلى “مؤتمر جنيف” الذي لم يكتمل.
إننا نريد الخروج من المأزق وألا نظل حبيسي عنق الزجاجة، بل نكون قادرين على الاستفادة بكل الأوراق المتاحة والكروت الموجودة، وبقي أن أدعو هنا إلى نشاط مكثف داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها وخصوصاً من بعض الوجوه المقبولة تاريخياً، مثل الدبلوماسية الأردنية وبعض الدول الخليجية إلى جانب دور الأشقاء في شمال أفريقيا وخصوصاً في الصلات التاريخية التي تربطهم ثقافياً بالغرب الأوروبي، ولا شك في أننا سنصل من ذلك ذات يوم إلى وضع يدفعنا نحو وجود ركائز عربية وإسلامية مقبولة في الخارج مع القيام بعملية فك ارتباط كامل بين الإسلاموفوبيا من جانب والحقوق الفلسطينية في جانب آخر، فالقضية الفلسطينية ليست قضية دينية بل قضية سياسية بالدرجة الأولى لا تخلو من عنصرية مقيتة واستقطاب دائم لقوى مختلفة على طول الطريق.
هذه أفكار متناثرة وخواطر متعجلة تحتاج إلى مزيد من البحث والإنضاج بهدوء ووعي من أجل مستقبل أفضل للفلسطينيين والعرب، بل وربما الإسرائيليين أيضاً.
المقاله تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت عربيه