مـن رحــم النكــبة ولـــدت.. قصة الأونـــروا التي يصر الاحــتلال على محوها للقضاء على حق عود ملايين اللاجئين
من رحم النكبة وُلدت، وباتت الآن أحد أهم أهداف إسرائيل من حربها على قطاع غزة.. إنها الأونروا.
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التي أسستها الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل 74 عاماً، فلماذا يسعى الاحتلال الإسرائيلي للتخلص منها؟ وماذا لو غابت الأونروا فعلاً؟
أسئلة كثيرة تتردد، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط حيث تواصل إسرائيل ما توصف بأنها “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين في غزة، ولكن الأونروا باتت مصطلحاً يتردد في جنبات المعمورة بعد أن أصبحت هدفاً لأكاذيب الاحتلال وادعاءاته.
في هذا التقرير نرصد القصة الكاملة للأونروا منذ تأسيسها والهدف منها وتمويلها ومصادره والخدمات التي تقدمها للاجئين الفلسطينيين، وأسباب كراهية إسرائيل لتلك الوكالة ورغبتها الجامحة في تفكيكها والتخلص منها.
تقسيم فلسطين
وتأسيس الأونروا
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1949، القرار رقم 302 الخاص بتأسيس وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى، أو “الأونروا” والتي يشار إليها اختصاراً باسم “الوكالة”، وذلك “لتنفيذ […] برامج إغاثة وتشغيل مباشرة” للاجئي فلسطين.
تمتلك الأونروا، بموجب ذلك القرار الأممي والقرارات الصادرة في السنوات التالية، تفويضاً إنسانيا وتنمويا هدفه تقديم المساعدة والحماية للاجئي فلسطين، وذلك حتى يتم “التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم”.
وتستمد الأونروا تفويضها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، الجهاز الأم للوكالة، والجمعية العامة وحدها هي التي يمكنها تحديد تفويض الأونروا. ولم يتم تحديد ولاية الوكالة في مصدر أو وثيقة واحدة، لكن ولاية الوكالة مستمدة في المقام الأول من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
في ذلك الوقت، كان المخطط الغربي لتقسيم فلسطين قد تحقق بالفعل، وتم الإعلان عن زرع “إسرائيل” على أرض فلسطين يوم 15 مايو/ أيار 1948، وهو اليوم نفسه الذي يعرف فلسطينيا باسم “النكبة”. تم تهجير غالبية الشعب الفلسطيني ليتحول إلى نازحين ولاجئين إما داخل فلسطين نفسها (في القدس والضفة الغربية وغزة)، وإما خارجها في دول الجوار (الأردن ولبنان وسوريا).
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، “النكبة تطهير عرقي وإحلال سكاني وسيطرة على الأرض” وشكلت أحداث النكبة وما تلاها من تهجير “مأساة كبرى للشعب الفلسطيني”، إذ أدت إلى “تشريد 957 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل مليون و400 ألف فلسطيني كانوا يقيمون في 1300 قرية ومدينة في فلسطين التاريخية عام 1948”.
ماذا تقدم الأونروا
للفلسطينيين؟
يوجد للأونروا مقران رئيسيان، أحدهما في العاصمة النمساوية (فيينا)، والآخر في العاصمة الأردنية (عمّان)، كما توجد لها مكاتب تمثيل في كل من القاهرة ونيويورك وواشنطن وبروكسل.
وتتمثل مهام الأونروا في تنفيذ برامج إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين مباشرة بالتعاون مع الحكومات المحلية، وكذلك التشاور مع الحكومات المعنية بخصوص تنفيذ مشاريع الإغاثة والتشغيل والتخطيط. وتقتصر مسؤولية الأونروا على توفير الخدمات لمجموعة واحدة من اللاجئين، وهم الفلسطينيون المقيمون داخل مناطق عمليات الأونروا، في حين تكون المفوضية السامية للاجئين مسؤولة عن اللاجئين في بقية أنحاء العالم.
وتقدم الأونروا المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم في أقاليم رئيسية هي: الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وفي الأردن ولبنان وسوريا.
وتتمثل الخدمات الأساسية في المقام الأول في مجالات التعليم الأساسي والرعاية الصحية الأولية ورعاية الصحة العقلية والإغاثة والتشغيل وتقديم القروض الصغيرة والمتوسطة. لكن مهام الأونروا أو “الوكالة” تطورت على مر السنين، لتمتد إلى توفير خدمات الطوارئ للأشخاص في منطقة عملياتها من النازحين.
كما تطور تفويض الوكالة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لاستيعاب الاحتياجات المتغيرة والوضع السياسي للاجئي فلسطين، بما في ذلك ما يتعلق بأنشطة الحماية.
وفي الوقت الحالي، تقدم الأونروا خدماتها لنحو ستة ملايين لاجئ فلسطيني، يعيش نحو الثلثين منهم في 58 مخيماً معترفاً به للاجئين في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. وفي عام 2022، بلغ عدد الطلاب المسجلين في مدارس الأونروا 544 ألفاً و710 أشخاص.
كما يتبع الوكالة 140 مركزاً للرعاية الصحية الأولية، موزعة في غزة والضفة وسوريا والأردن ولبنان، وتستقبل أكثر من 7 ملايين حالة مرضية سنوياً، وقد دعمت احتياجات الغذاء والتغذية الطارئة لدى أكثر من مليون ومئة ألف لاجئ في قطاع غزة وحده خلال 2022.
وتحت إشراف المفوض العام للوكالة والمندوب العام لها في مكتب عمان، تدير مفوضية الأونروا قطاعات خدمية تشمل مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية والمخيمات، وتشرف على ذلك كله مراكز في عدد من المناطق من بينها غزة والضفة وسوريا ولبنان.
مدارس الأونروا
تدير الأونروا أكثر من 700 مدرسة للتعليم الأساسي، منها نحو 300 مدرسة في قطاع غزة ونحو 100 مدرسة في الضفة الغربية، منها مدرستان في القدس الشرقية. أما في الأردن فتمتلك الأونروا وتدير نحو 170 مدرسة للتعليم الأساسي يتعلم فيها أكثر من 120 تلميذ فلسطيني سنوياً. وفي لبنان، توفر مدارس الأونروا التعليم الأساسي لأكثر من 39 ألف تلميذ فلسطيني سنوياً من خلال مدارسها البالغ عددها 69 مدرسة. وفي سوريا، تدير الأونروا نحو 102 مدرسة توفر التعليم الأساسي لأكثر من 50 ألف تلميذ فلسطيني سنوياً.
وبشكل إجمالي تقريبي توفر مدارس الأونروا التعليم الأساسي لأكثر من نصف مليون فلسطيني سنوياً، ويعمل في النظام التعليمي التابع للوكالة أكثر من 17 ألف موظف، وهو ما يمثل واحداً من أضخم نظم التعليم غير الحكومي في الشرق الأوسط.
وخلافاً لما قد يتوقعه البعض من إدارة تعاني من قصور في الموارد تخدم تلاميذ من اللاجئين الذين يواجهون بشكل مستمر عدداً لا يُحصى من المعوقات، فإن تلاميذ الأونروا يتفوقون على تلاميذ المدارس العامة في المناطق الثلاث؛ الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن، بما يعادل حصيلة عام من التعليم، وبشكل عام، يحقق اللاجئون الفلسطينيون نواتج تعليمية أعلى من المتوسط على الرغم من الظروف المعاكسة التي يعيشون في ظلها.
وتفتح الأونروا الباب أمام الطلاب الخريجين من مدارسها الثانوية للعمل كمدرسين في مدارس الأونروا، كجزء من برامج التشغيل أيضاً. كما تجتذب كليات معلمي الأونروا أفضل خريجي المدارس الثانوية كي يلتحقوا مجاناً مع ضمان التوظيف عند الانتهاء من الدراسة. وقبل توظيفهم، يتم إجراء مقابلات مع مدرسي الأونروا ولابد لهم من اجتياز امتحان كتابي، ونتيجة لذلك، يبدو أن نظام الأونروا التعليمي نجح في خلق رقابة جودة ذاتية سليمة يفتقر إليها النظام التعليمي العام، بحسب تقرير للبنك الدولي.
الصحة والتشغيل والنظافة
يمثل التعليم نموذجاً لما تقدمه الأونروا من خدمات للاجئين الفلسطينيين في مناطقها الخمس (الضفة وغزة والأردن ولبنان وسوريا)، حيث توفر الوكالة أيضاً الخدمات الصحية من خلال 140 مركزاً للرعاية الصحية الأولية، موزعة في غزة والضفة وسوريا والأردن ولبنان، وتستقبل أكثر من 7 ملايين حالة مرضية سنوياً، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة عن عام 2022.
وتعمل برامج الأونروا بشكل عام تحت مظلة أهداف رئيسية تتمثل في تحسين الظروف المعيشية للاجئي فلسطين من خلال تخطيط وتصميم وإنشاء مرافق ومساكن ومدارس ومراكز صحية، وأيضاً من خلال التخطيط الشامل لقطاع الصحة البيئية. كما تعمل برامج الوكالة أيضاً على ترميم أعمال المجاري والصرف الصحي وآبار المياه ومعالجة المياه العادمة في مخيمات اللاجئين والمناطق المحيطة بها.
فعلى سبيل المثال، تعرضت مخيمات اللاجئين في الأردن لأزمة تراكم القمامة بسبب تقليص عدد العاملين في جمعها ووجود مشاكل في صيانة شاحنات جمع القمامة، وكلها أمور تتعلق إما بنقص التمويل أو سوء الإدارة في بعض الأحيان.
وقامت الوكالة بتنظيم حملات لإزالة أطنان القمامة في مخيم إربد للاجئين الفلسطينيين بالأردن، خلال ديسمبر/كانون الأول عام 2022، بعد أن تراكمت القمامة وأصبحت تمثل مشكلة بيئية وصحية خطيرة.
كان أهالي المخيم يعانون من أزمات بيئية كبيرة، جراء تراكم النفايات لأسابيع وأحياناً لأشهر في شوارع المخيم، نظراً لما يعتبره الأهالي “إهمالاً” من قبل أقسام وكالة “أونروا” المعنية، وإدارة المخيم. ويسكن مخيم إربد، نحو 25 ألف لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الأونروا، وهي المسؤولة عن الخدمات التعليمية والصحية والبيئية للاجئين فيه.
وفي قطاع غزة، ورغم الحصار الإسرائيلي على القطاع، تولت الأونروا بعد تأسيس آلية تنسيق، عمليات إدخال مواد البناء إلى غزة في عام 2010، حيث بدأت الأونروا العمل بخطة إنعاش وإعادة بناء. ومنذ ذلك الوقت، تم بناء 34 مدرسة وثلاثة مراكز صحية، وذلك إلى جانب مشروع واسع النطاق يهدف لبناء 752 وحدة سكنية في رفح بتمويل من حكومة المملكة العربية السعودية. وتشمل المبادرات الأخرى مشاريع إعادة إسكان بتمويل من اليابان وهولندا والإمارات العربية المتحدة، والتي تم بموجبها بناء 650 وحدة في خان يونس.
من أين يأتي تمويل الأونروا؟
تكلف هذه الخدمات أموالاً طائلة بطبيعة الحال، ويعتمد تمويل الأونروا على تبرعات طوعية تقدمها بلدان وهيئات عالمية، وأبرز المانحين هم الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية والمملكة المتحدة والسويد، ودول أخرى مثل بلدان الخليج والدول الإسكندنافية واليابان وكندا.
وبحسب تقرير صادر عن الوكالة في يوليو/تموز 2023، وصل مجموع المبالغ المتعهد بها عام 2022 إلى 1.17 مليار دولار، منها دعم الأمانة العامة للأمم المتحدة الذي يمثل نسبة 3.9% فقط، في حين وصل الدعم المقدم من الشركاء التقليديين (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والسويد واليابان وكندا) 89.2%، ومن الشركاء الإقليميين 4.4%، أما الباقي فيتوزع بين الجهات المانحة المستجدة والشراكة مع القطاع الخاص.
ويتم إنفاق أموال الأونروا وفق برنامج محدد، إذ يتم تخصيص نسبة 54% لبرامج التعليم، و18% للصحة، و18% للخدمات المشتركة والخدمات التشغيلية، و10% لبرامج الإغاثة والخدمات الاجتماعية. وتخضع الأونروا وتمويلها وبرامجها لرقابة ومتابعة دقيقة ومستمرة من جانب الأمم المتحدة والمانحين الرئيسيين للوكالة.
وتستفيد الأونروا من التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهذه المصادر تمثل أكثر من 93.28% من التبرعات المالية للوكالة، والاستثناء الوحيد هو إعانة محدودة جداً من الميزانية العادية للأمم المتحدة، تستخدم حصراً لتغطية التكاليف الإدارية. وتقول الأونروا: “لم يكن من الممكن تنفيذ عمل الأونروا بدون تبرعات مستدامة من حكومات الدول والحكومات الإقليمية والاتحاد الأوروبي والشركاء الحكوميين الآخرين”.
وفي عام 2022، جاء 44.3% من إجمالي تعهدات الوكالة البالغة 1.17 مليار دولار أمريكي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي ساهمت بمبلغ 520.3 مليون دولار أمريكي، بما في ذلك من خلال المفوضية الأوروبية. وكانت الولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي والسويد أكبر المانحين الأفراد، حيث ساهموا بنسبة تراكمية بلغت 61.4% من إجمالي تمويل الوكالة.
كما تعد الولايات المتحدة أكبر مساهم منفرد في ميزانية الأونروا؛ حيث ساهمت في عام 2023 وحده بأكثر من 296 مليون دولار للأونروا، أي نحو ربع ميزانية الوكالة، وساهمت إدارة بايدن بحوالى مليار دولار منذ عام 2021، حسب السفيرة ليندا توماس غرينفيلد ممثلة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
وعندما أوقف ترامب الدعم الأمريكي للأونروا، رفعت الدول العربية مساهماتها في ميزانية الأونروا، لتصبح 25% من موازنة الأونروا في عام 2018، بما يعادل نفس نسبة التمويل الأمريكي تقريباً.
إسرائيل والأونروا..
علاقة معقدة
لا تمتلك الأونروا سلطة سياسية ولا دورَ لها في حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كما لا تقوم الوكالة بإدارة مخيمات اللاجئين سواء داخل فلسطين أو خارجها، وليست مسؤولة عن أمن المخيمات أو تطبيق القانون والنظام فيها. ولا تملك الوكالة تفويضاً للمشاركة في مفاوضات سياسية أو حلول دائمة.
وتنحصر مسؤولية الأونروا في إدارة برامج التعليم والصحة والإغاثة والخدمات الاجتماعية، سواء الموجودة داخل المخيمات أو خارجها. أما المناهج التعليمية نفسها فتخضع لسلطة الإقليم أو الدولة، أي إن مدارس الأونروا تدرس لطلابها المناهج التي يتم تعليمها في مدارس البلد الموجود به المخيم.
من ناحية أخرى، تحمل الأونروا عبئاً مادياً ثقيلاً عن كاهل إسرائيل. فبصفتها دولة احتلال، إسرائيل ملزمة بتوفير خدمات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والإغاثة للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال.
لكن على الرغم من ذلك، تكره إسرائيل الأونروا وتسعى بشتى السبل لتفكيكها والقضاء عليها تماماً؛ إذ يرى السياسيون الإسرائيليون في الأونروا جهة دولية تحافظ على “حق عودة اللاجئين الفلسطينيين” إلى وطنهم، وهو ما يمثل تهديداً لاستمرار اليهود كأغلبية داخل إسرائيل، بحسب تحليل نشره موقع ذا نيو هيومانيتريان.
إذ يبلغ تعداد إسرائيل اليوم 9.8 مليون نسمة، منهم 7.2 مليون يهودي وأكثر من 2 مليون من عرب الداخل (فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية منذ 1948)، ويعيش في الضفة الغربية أكثر من 3.25 مليون فلسطيني ونحو 2.3 مليون آخرين في قطاع غزة، بحسب موقع الجهاز المركزي للإحصاء التابع للسلطة.
وليس سراً أن المسؤولين الإسرائيليين يرغبون في تفكيك الأونروا للتخلص من مسألة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة. وخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أصبح التخلص من الأونروا هدفاً معلناً، وتم توجيه اتهامات للوكالة بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى العسكرية التي قام بها مقاومون من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس رداً على الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى وتهويد القدس وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم والتوسع في الاستيطان في ظل أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً برئاسة بنيامين نتنياهو.
نتنياهو يريد “تفكيك” الأونروا
يوم 27 يناير/كانون الثاني 2024، أعلن وزير خارجية إسرائيل، يسرائيل كاتس، أن “مكتبه يعمل على الترويج لسياسة تفكيك الأونروا في غزة وألا يكون لها وجود في اليوم التالي للحرب”. ووجه كاتس، عبر منصة إكس، التحية للولايات المتحدة وكندا ودول أخرى قررت تعليق تمويل الأونروا.
أما نتنياهو فقد كان سباقاً في توجيه تلك الادعاءات بأن الأونروا في غزة شاركت في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، معلناً أن “مهمة الأونروا لابد أن تنتهي”.
وقبل الخوض في هذا الفصل من فصول كتاب “صيد الساحرات” الذي يطبقه نتنياهو وقيادات إسرائيل تجاه الأونروا، دعونا نتذكر فصلاً سابقاً من الكتاب ذاته. و”صيد الساحرات” مصطلح يشار به إلى ما شهدته أوروبا في العصور الوسطى من اضطهاد الكنيسة لأي شخص يحاول تعلم القراءة أو التفكير أو التمرد على تعاليم الكنيسة، فيوصم بأنه ساحر ويتم حرقه.
وعلى هذا المنوال، ظل نتنياهو يطارد الأونروا ويلفق لها الاتهامات دائماً. ففي يونيو/حزيران من عام 2017، طالب نتنياهو بتفكيك الأونروا ودمج أجزائها في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للمنظمات الدولية.
وفي لقاء مع السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت، نيكي هيلي، اتهم نتنياهو الأونروا بإطالة أمد قضية اللاجئين وباستغلال تمويل الوكالة الأممية في نشر “كراهية إسرائيل”، إضافة إلى تشغيل بعض المنتمين لحركة حماس.
وفي الشهر التالي من العام نفسه، قامت إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بتعطيل مشروع في الأمم المتحدة، يهدف إلى زيادة موازنة الأونروا. ونقل موقع “واللا” العبري حينئذ عن سفير تل أبيب بالأمم المتحدة، قوله: إن “السنوات الأخيرة كشفت مراراً وتكراراً كيف تستعمل وكالات الأونروا الأموال التي تصلها من المنظمات الدولية والإنسانية لأعمال وفعاليات معادية لإسرائيل، وإنتاج مواد تحريضية وتشغيل عناصر من حركة حماس في صفوفها”.
كما تقوم إسرائيل بالتضييق على الأونروا وخنقها حتى لا تواصل عملياتها بشكل طبيعي، فيتماحتجاز حاويات شحن تحمل دقيقاً يكفي احتياجات أكثر من مليون شخص في ميناء أسدود الإسرائيلي لمدة أكثر من 5 أشهر، ويتم إلغاء الإعفاءات الضريبية التي تتلقاها الأونروا شأنها شأن الوكالات التابعة للأمم المتحدة، أو محاولات إغلاق مكاتب الأونروا ومؤسساتها فيالقدس الشرقية. إضافة إلى خطوات أخرى منها تقصير مدة تأشيرة الإقامة للموظفين الدوليين في الأونروا، كما قام بنك إسرائيل مؤخراًبتجميد حساب الأونروا.
التحريض
وتلفيق الاتهامات للأونروا
لكن الفصل الحالي من “صيد الساحرات” والذي يستهدف الأونروا شهد تصعيداً في نوعية الادعاءات، فقد زعمت إسرائيل، خلال يناير/كانون الثاني 2024 أن 12 موظفاً يعملون في الأونروا شاركوا في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وانطلقت آلة البروباجاندا الإسرائيلية تعمل بأقصى طاقتها ضد الأونروا، التي يعمل فيها 13 ألف موظف، بهدف اتخاذ خطوات لإضعاف الأونروا وصولاً إلى مرحلة حل الوكالة، من خلال الترويج لحملة داخل إسرائيل وخارجها، بمساعدة المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، تستهدف الإضرار بسمعة الوكالة جنباً إلى جنب مع الكشف عن تورط العاملين في الوكالة مع حركة حماس ومع الذراع العسكرية للحركة.
فتحت إدارة الأونروا على الفور تحقيقاً في المزاعم الإسرائيلية وكذلك فعلت الأمم المتحدة، وذلك على الرغم من عدم تقديم إسرائيل أي دليل على مزاعمها، بل وقامت الوكالة بفصل نحو 12 موظفاً لديها (من بين 13 ألف موظف) بعدما اتهمتهم إسرائيل بالتورط في هجوم حماس.
وبعد أكثر من شهر من المزاعم الإسرائيلية، خلُص تقرير استخباراتي أمريكي إلى أنه لا توجد أي أدلة على وجود علاقات تنسيق من أي نوع بين الأونروا وبين حماس أو فصائل مقاومة فلسطينية أخرى في غزة.
وأعدت الأونروا، في فبراير/شباط، تقريراً خلُص إلى أن بعضاً من موظفيها الذين أُطلق سراحهم من السجون الإسرائيلية في غزة بعد الاحتجاز قالوا إنهم تعرضوا لضغوط من السلطات الإسرائيلية ليدلوا بأقوال كاذبة بأن الوكالة على صلة بحركة حماس وأن موظفين بها شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وذكر التقرير، الذي اطلعترويترز على نسخة منه، أن عدداً من الموظفين الفلسطينيين في الأونروا احتجزهم الجيش الإسرائيلي، وتعرضوا لمعاملة سيئة وانتهاكات، علاوة على الضرب المبرح، والإغراق إلى حد الاختناق، والتهديد بإيذاء ذويهم.
تعليق تمويل الأونروا
لكن حلفاء إسرائيل، الذين تتقدمهم الولايات المتحدة الأمريكية، لا يحتاجون لأدلة على ما يبدو؛ إذ سارعت تلك الدول بوقف أو تعليق تمويلها للأونروا دون تحقق من المزاعم الإسرائيلية. فسارعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إعلان تعليق تمويلها للأونروا؛ إذ أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها “أوقفت التمويل الإضافي مؤقتاً” للوكالة، وتبعتها 7 دول غربية أخرى، هي: ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، فنلندا، هولندا، أستراليا، كندا. وتسببت المزاعم الإسرائيلية في حرمان الوكالة من تمويل بقيمة 450 مليون دولار.
بينما أعلنت دول أخرى، منها سويسرا والنرويج، أنها لن توقف أو تعلق تمويل الوكالة إلا بناء على نتائج تحقيق أممي مستقل ومحايد بشأن الادعاءات الإسرائيلية.
هذا التعليق للتمويل جاء في توقيت قاتل بالنسبة للاجئين الفلسطينيين بشكل عام ولهؤلاء المتواجدين في قطاع غزة بشكل خاص. فإسرائيل تشن حربها المدمرة، والتي توصف أممياً بأنها “إبادة جماعية”، على غزة منذ أكثر من 5 أشهر، وأصبح أكثر من مليونين من سكان القطاع مهددين بخطر المجاعة وانتشار الأوبئة بسبب الحصار الإسرائيلي ورفض دخول المساعدات الكافية لهم.
فيليب لازاريني، المفوض العام للأونروا وصف ما يحدث قائلاً “إنه لأمر صادم أن نرى تعليق تمويل الوكالة كرد فعل على الادعاءات ضد مجموعة صغيرة من الموظفين”، لا سيما في ضوء التدابير التي اتخذتها الوكالة الأممية التي “يعتمد عليها أكثر من مليوني شخص من أجل البقاء على قيد الحياة”.
لكن بعض الدول أعلنت، منتصف مارس/آذار 2024 (أي بعد شهرين تقريباً من تعليق التمويل) أنها ستستأنف تمويل الأونروا. ومن هذه الدول أستراليا، التي قالت إنها تشاورت مع الأونروا والدول المانحة الأخرى، وكانت راضية عن الضمانات الإضافية التي تم وضعها. وبحسب وزيرة خارجية أستراليا، “يوجد أطفال وأسر يتضوّرون جوعاّ ولدينا القدرة مع المجتمع الدولي على مساعدتهم. نعلم أن الأونروا مركزية وأساسية في تقديم تلك المساعدات”. وكانت السويد وكندا والاتحاد الأوروبي قد استأنفوا التمويل إلى حد ما، بينما أعرب لازاريني عن “تفاؤل حذر” بأن تستأنف الجهات المانحة الأخرى التمويل قريباً.
ماذا لو غابت الأونروا فعلاً؟
تقدم الأونروا خدماتها لنحو 6 ملايين فلسطيني في 58 مخيماً للاجئين تعترف بها الوكالة الأممية، في فلسطين وخارجها، وحققت الوكالة إنجازات حقيقية، في مجال التعليم والصحة بشكل خاص؛ حيث ساهمت في تمتع الشعب الفلسطيني بمستوى تعليم مرتفع وخدمات صحية جيدة رغم المحن والحصار والحروب.
ولـ”الأونروا” أهمية خاصة في قطاع غزة؛ إذ يعيش في القطاع نحو 2.3 مليون إنسان، 70% منهم، من اللاجئين الفلسطينيين الذين تقع على الأونروا رعايتهم وفق أنظمتها الداخلية. ويضم القطاع الصغير 8 مخيّمات ونحو 1.7 مليون نازح، أي الأغلبية الساحقة من السكان، وفقاً للأمم المتحدة.
ومنذ عام 2007 يعيش سكان قطاع غزة تحت العقاب الجماعي بحسب توصيف الأمم المتحدة، نتيجة للحصار البري والجوي والبحري المستمر منذ ذلك الحين وشن حروب عديدة على القطاع، وتعتبر وكالة الأونروا ملزمة بتقديم خدماتها لمعظم سكان القطاع، أي أن نحو 2 مليون شخص يعتمدون على “الأونروا” للبقاء على الحياة في غزة.
وقبل الحرب الإسرائيلية الحالية، كان 63% من سكّان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويعتمدون على المساعدات الدولية، ويعيش أكثر من 80% من سكان قطاع غزة تحت خطّ الفقر، بحسب بيانات الأمم المتحدة الصادرة في أغسطس/آب 2023.
وخلال الحرب، قالت الوكالة إن نحو 3.000 موظف أساسي من موظفيها من أصل 13.000 موظف في غزة يواصلون الحضور إلى عملهم، مما يمنح مجتمعاتهم شريان الحياة الذي يمكن أن ينهار في أي وقت بسبب نقص التمويل.
وحتى قبل تعليق مساعدات الدول الغربية، حذرت الأونروا من مجاعة في غزة حيث قال مفوضها العام لازاريني، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2023، إن الجوع هو أمر “لم يختبره سكان غزة قط” خلال تاريخهم المضطرب. ولكننا الآن نقابل المزيد من الأشخاص الذين لم يأكلوا منذ يوم أو يومين أو ثلاثة. يُضطر بعضهم لإيقاف شاحنات المساعدات وأخذ الطعام (قبل إيصاله إلى الملاجئ) ليأكلوا في الحال. لا علاقة لذلك بتحويل المساعدات عن مسارها، لكنه متعلق باليأس التام”.
معنى هذا أن غياب الأونروا يمثل كارثة على الشعب الفلسطيني في غزة، حيث يعيش محنة غير مسبوقة في تاريخه، دمرت فيها كل بنية غزة التحتية، ويعيش السكان على حافة الجوع، في ظل ضآلة المساعدات الإنسانية التي تدخل، والتي يأتي كثير منها عن طريق الأونروا أو يوزع عبر مرافقها. كما أن تحويل بعض المساعدات لمؤسسات أممية أخرى، قد لا يكون فعالاً لأنها لا تمتلك خبرة الأونروا، ومرافقها، وشبكة موظفيها المحليين.
ومن الصعب توقع أن الدول العربية سوف تسدد معظم ميزانية الأونروا، كما أن كثيراً من دول العالم الثالث بما فيها دول عربية وإسلامية قد تخشى توسيع التبرع خوفاً من مزاعم دعم الإرهاب.
إسرائيل تريد تصفية القضية
أما الأخطر هنا فهو أن إسرائيل سوف تستغل أي قرار لاستهداف الأونروا ومؤسساتها أكثر، ومحاولة تصفية عملها، كما أعلنت مراراً. فقد نشرت صحيفة هآرتس العبرية، منتصف مارس/آذار 2024، تقريراً يرصد خطة قدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي لحكومة نتنياهو يفترض أن تؤدي إلى حل الوكالة في غزة والضفة الغربية.
ورغم مرور 5 أشهر على بدء الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، لم ترد القيادة السياسية الإسرائيلية على طلب وزارة الحرب الإسرائيلية، الذي يستهدف العثور على بديل لوكالة الأونروا.
“عندما يتعلق الأمر بالأونروا هناك شيء واحد يتفق عليه الإسرائيليون والفلسطينيون وهو أن الوكالة تساعد على إبقاء الأمل في نفوس اللاجئين الفلسطينيين جيلاً بعد جيل حتى يأتي يوم ويتحقق فيه حلم العودة للأراضي التي أجبروا على مغادرتها عام 1948″، بحسب يورجين جينسهوجين، الباحث في معهد أبحاث السلام في أوسلو.
فبحسب القواعد المنظمة للأونروا، والنابعة من القرارت الدولية ذات الصلة، عندما يموت اللاجئ الفلسطيني يرث أولاده حقوقه ومنها حق العودة. وكما قال لازاريني لموقع The New Humanitarian: “الأونروا منظمة مؤقتة لكنها للأسف استمرت 75 عاماً. وهذه العقود الطويلة ليست إلا تعبيراً عن فشل المجتمع الدولي في التوصل إلى حل دائم وعادل للصراع العربي-الإسرائيلي”.
أما مزاعم إسرائيل بحق الوكالة والعاملين فيها فهي ليست الأولى من نوعها، بل هي أحدث فصل من فصول التوترات المستمرة منذ عقود بين إسرائيل والأونروا، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وبالتالي، فإن الفلسطينيين “ينظرون لأي إضعاف للأونروا على أنه إضعاف لحقوقهم وبخاصة حق العودة. وفي أي جدال أيديولوجي، إسرائيل لا تريد إلا شيئاً واحداً فقط من الأونروا وهو أن تختفي تماماً، على أمل أن هذا الاختفاء سيقوّض حق العودة للاجئين الفلسطينيين بشكل كامل”، بحسب جينسهوجين.