طوفان الأقصى قلب الأولويات في العالم وأعاد فلسطين إلى الواجهة بعد أن هُمشت وزالت من أجندات الدول
كان عام التناقضات لقضية فلسطين.. بدأ بحكومة هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل وانتهى بحرب أعادت فلسطين إلى المشهد العالمي بصورة ربما لم تحدث منذ عقود.. إنه 2023، عام القضية الفلسطينية.
ففي نهاية 2022 شكل بنيامين نتنياهو حكومة إسرائيلية من اليمين المتطرف ورموز الاستيطان والقومية الصهيونية وضعوا ملف الاستيطان وتهويد القدس على رأس أجندتهم.
دمج إسرائيل في المنطقة وتوسيع وتيرة التطبيع وتسكين دولة الاحتلال في المخططات الكبرى للشرق الأوسط والعالم كان العنوان الأبرز على مدى الأشهر العشرة الأولى من 2023، بينما تجاهلت جميع الأطراف أصحاب الأرض واختفى أو كاد ذكر فلسطين وأهلها من نشرات الأخبار في المنطقة والعالم.
ثم جاء طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليبدد أوهام الجميع ويعيد الدماء الحارة إلى عروق فلسطين، فيتذكر العالم أجمع أن هناك احتلالاً هو الأبشع في التاريخ، وأن هناك مقاومة لم ولن تموت، وأن هناك شعباً متمسكاً بأرضه وعازماً على إقامة دولته!
حكومة إسرائيل الأكثر تطرفاً
قبل أيام من بداية عام 2023، عاد بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل بعد عام ونصف من انتقاله إلى زعامة المعارضة. لكن عودته هذه المرة جاءت على رأس حكومة وصفها توماس فريدمان، الصحفي الأمريكي المخضرم، بأنها “الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية”، محذراً من خطورتها على إسرائيل والمنطقة بأسرها.
الائتلاف الذي شكله نتنياهو، السياسي الأطول بقاء في منصب رئيس الوزراء بإسرائيل، ضم ممثلين عن الأحزاب الدينية المتطرفة وممثلين عن المستوطنين، من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما من الشخصيات الأكثر تطرفاً والتي تنادي علناً ليس فقط بتهجير الفلسطينيين جميعاً من أراضي فلسطين بل بقتلهم جميعاً. وقام برنامج الحكومة الإسرائيلية على توسيع المستوطنات وإكمال تهويد القدس وضم الضفة الغربية بشكل كامل، إضافة إلى إحكام الحصار على قطاع غزة وتدميره أيضاً.
أثار تشكيل وبرنامج هذه الحكومة القلق هناك في واشنطن، وحذرت وسائل الإعلام الأمريكية من خطورة الموقف واحتمال انفجاره في أي لحظة؛ إذ نشرت صحيفة نيويورك تايمز، أواخر يناير/كانون الثاني 2023 أي بعد شهر واحد من تشكيل تلك الحكومة، تقريراً يرصد كيف أن استفزازاتها تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة.
لكن هذا القلق الأمريكي لم يكن نابعاً من معاناة وقمع الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال، وإنما من التأثير السلبي الذي ينتج عن انفجار الأوضاع والتغطية على الموقف في أوكرانيا، حيث حشدت إدارة الرئيس جو بايدن العالم الغربي لدعم كييف في مواجهة موسكو، التي كانت قد شنت هجوماً تصفه بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما تصفه واشنطن والغرب بأنه “غزو عدواني غير مبرر”.
أراد بايدن وإدارته مواصلة التركيز على دعم أوكرانيا واستنزاف روسيا من جهة، وعلى احتواء الصين من جهة أخرى، خشية فقدان واشنطن مقعد القيادة العالمي لصالح بكين. وفي هذا السياق، جاءت تحركات إدارة بايدن. فزار وزير الخارجيةأنتوني بلينكن إسرائيل وطلب علناً من نتنياهو وقف خطط توسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، لكن الحكومة الإسرائيلية واصلت مساعيها على أية حال.
ابتلاع الضفة الغربية
رغم أن دولة الاحتلال لا تكن احتراماً يذكر للقرارات الدولية، إلا أن إسرائيل كانت، حتى ما قبل تولي “حكومة السوابق” برئاسة نتنياهو المسؤولية، تتقدم بخطوات حذرة في مسألة ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة وتوسيع الاستيطان.
وتغير هذا الوضع مع هذه الحكومة اليمينية المتطرفة، التي تضم في تشكيلتها أكبر مؤيدي التوسع الاستيطاني، وهو ما أدى إلى مصادرة الاحتلال لأكثر من مليون دونم من الأراضي الفلسطينية أعيد تصنيفها على أنها “أراضي دولة إسرائيلية”، وذلك خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023.
ففي عام 2017، نشر من يوصف بأنه “بطل الاستيطان الإسرائيلي” مقالاً عنوانه “خطة الحسم”، قال فيه: “من خلال تطبيق السيادة الإسرائيلية الكاملة على أجزاء الوطن في يهودا والسامرة، وإقامة مدن ومستوطنات جديدة وجلب مئات الآلاف من المستوطنين الإضافيين للعيش هناك، سنوضح للعرب وللعالم بأسره أن الواقع في يهودا والسامرة لا رجعة فيه، وأن الحلم العربي بإقامة دولة في يهودا والسامرة قد تلاشى مرة واحدة وإلى الأبد”!
أما من هو؟ فهو بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، الذي أسهمت صلاحياته الحكومية الواسعة في تعزيز الأجندة الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة. فقد أعطى، بصفته وزيراً للمالية تعليمات للمكاتب الحكومية بالاستعداد لتوطين نصف مليون مستوطن آخر في الضفة، وهو ما يماثل تقريباً عدد المستوطنين الحاليين في المنطقة، متعهداً بتوفير ميزانيات ضخمة جديدة تصل إلى مليارات الشواكل لتطوير البنية التحتية لتلك المستوطنات، بحسب ما نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وفي الثامن عشر من يونيو/حزيران 2023، أقرت الحكومة الإسرائيلية خطة تهدف إلى تقصير الفترة الزمنية اللازمة لإصدار موافقات البناء في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، وتمنح الخطة سموتريتش الصلاحية الكاملة للموافقة على خطط بناء المستوطنات دون الحاجة إلى انتظار موافقة رئيس الوزراء ووزير الدفاع. كان وزير المالية المتطرف قد تم تعيينه أيضاً في فبراير/شباط الماضي رئيساً للإدارة المدنية، ليصبح بذلك -حرفياً- “حاكماً للضفة الغربية” بحكم القانون الإسرائيلي.
ويعني هذا المنصب، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي، تغيير هيكل الحكم الرسمي للضفة الغربية من خلال نقل العديد من السلطات الإدارية من القيادة العسكرية لجيش الاحتلال إلى القيادة المدنية التي أصبح يمثلها سموتريتش.
خطوات حكومة نتنياهو نحو ابتلاع الضفة الغربية المحتلة وضمها رسمياً تعتبر الأسرع في تاريخ الاحتلال، ففي مارس/آذار 2023، وافقت تلك الحكومة على مشروع قانون يسمح للإسرائيليين بالعودة إلى 4 مستوطنات في الضفة، وذلك من خلال تعديل قانون فك الارتباط الصادر عام 2005 الذي أمر بإخلاء المستوطنين من هذه المستوطنات ومن قطاع غزة، بحسب هآرتس.
اقتحامات الأقصى وتهويد القدس
منذ احتلال الكيان الصهيوني للقدس وباقي أراضي فلسطين في الضفة وغزة عام 1967، كان الوضع في المسجد الأقصى بشكل خاص يمثل خطاً أحمر ليس للفلسطينيين فحسب، بل للعرب والمسلمين جميعاً. فالوضع القائم لترتيب الأماكن المقدسة في مدينة القدس الشرقية يعود لقرون مضت ويخضع للحماية بموجب القانون الدولي.
وبالنسبة لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، فإن الوضع القائم هو الوضع الذي ساد منذ إقراره في العهد العثماني، واستمر خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين (1920-1947)، ثم في العهد الأردني، وحتى ما بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية عام 1967.
وينص هذا الوضع إجمالاً على أن المسجد الأقصى مكان مقدس للمسلمين فقط، وتحت إدارتهم. واستناداً إلى دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، فإن الوضع القائم للأماكن المقدسة بدأ عام 1852 ميلادية، حينما أقره السلطان العثماني عبد المجيد الأول.
لم يتجرأ مسؤول إسرائيلي على الإخلال بالوضع القائم في المسجد الأقصى حتى عام 2000، حينما اقتحم رئيس الوزراء الإسرائيلي، أريئيل شارون، المسجد الأقصى، وهو ما تسبب في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى)، التي استمرت أكثر من 5 سنوات.
ورغم أن محاولات إسرائيل لتهويد القدس الشرقية وتغيير هوية البلدة القديمة وتهجير الفلسطينيين منها لم تتوقف تقريباً، إلا أن الحكومات المتعاقبة كانت تسعى إلى عدم القيام بتحركات كبيرة وعلنية في هذا الشأن تجنباً لإثارة الغضب بين الفلسطينيين أو في المنطقة. وكان الوضع القائم في المسجد الأقصى بمثابة خط أحمر تسعى حكومة الاحتلال إلى عدم هدمه مرة واحدة حتى لا تنفجر الأوضاع.
إيتمار بن غفير.. “متطرف” بدرجة وزير
لكن مع تولي الحكومة الإسرائيلية، التي تضم متطرفين، ويسعون إلى هدم المسجد الأقصى وليس فقط تغيير الوضع القائم فيه، منذ أواخر عام 2022، بدأت الأمور تتغير بصورة متسارعة ومثيرة للقلق من انفجار الأوضاع.
وفيما يتعلق باقتحام المسجد الأقصى، لابد من التوقف عند ما قام به إيتمار بن غفير تحديداً. فوزير الأمن الداخلي في حكومة نتنياهو هو أحد أبرز رموز التطرف حتى بالمقاييس الإسرائيلية والأمريكية. إذ بدأ بن غفير في سن مبكرة نشاطه في الحركة التي أسسها الحاخام مائير كاهانا، وكان أحد مساعدي القيادي في الحركة نوعم فريدمان في مستوطنة “كريات أربع” المقامة وسط الخليل.
بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، ظهر بن غفير يلوح للكاميرا بشعار سيارة الكاديلاك الخاصة برئيس الوزراء حينها إسحق رابين، وقال: “بمقدورنا الوصول إليه”. وبعد أقل من شهر في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، تعرض إسحق رابين لإطلاق نار خلال مهرجان خطابي، ثم فارق الحياة متأثراً بإصابته.
وحركة كاخ اليمينية المتطرفة هي التنظيم السياسي الإسرائيلي الوحيد الذي تم تصنيفه في قائمة المنظمات الإرهابية في إسرائيل والولايات المتحدة وتم حظرها. وكانت عنصرية الحركة وتطرفها لا يحتملان حتى من قبل حزب الليكود؛ حيث كان نواب الحزب يخرجون من الكنيست عندما كان يتحدث كاهانا، الذي تم اغتياله عام 1990 في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة.
ولكن بعد حظر كاخ، واصل بن غفير أنشطته المتطرفة والعنصرية ضد الفلسطينيين، ووجهت له تهم بالقيام بأعمال عنف ضد الفلسطينيين والتحريض ضدهم ثماني مرات، ومن بينها تهم إثارة الكراهية العنصرية ودعم منظمات إرهابية.
وكان بن غفير يعلق في منزله في مستوطنة كريات أربع في الضفة الغربية صورة باورخ غولدشتاين الذي قتل 29 فلسطي
اقتحامات بن غفير للمسجد الأقصى
نياً خلال الصلاة في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل عام 1994. وفي عام 2007، أدين بن غفير بالتحريض على العنصرية بسبب حمله لافتة كتب عليها “اطردوا العدو العربي”.
هذا المتطرف أصبح زعيماً لحزب “القوة اليهودية”، الذي أسسه عدد من أتباع كاهانا عام 2012، وهو الحزب الذي فشل في دخول الكنيست في انتخابات عام 2013 و2015 سواء بالتحالف مع أحزاب أخرى أو بمفرده.
لكن بعد حصول الحزب على 14 مقعداً في الكنيست في الانتخابات الأخيرة ليصبح ثالث أكبر تجمع حزبي، أصبح بن غفير وزيراً للأمن الداخلي وعضواً في مجلس الوزراء المصغر “الكابينت”، ليبدأ فصل خطير للغاية في تاريخ القدس والمسجد الأقصى!
بعد ساعات فقط من توليه منصبه رسمياً مطلع عام 2023، اقتحم بن غفير المسجد الأقصى وسط حراسة مشددة من شرطة الاحتلال، مطلقاً تصريحات من قبيل “جبل الهيكل مفتوح للجميع”، مستخدماً الاسم اليهودي للإشارة إلى مجمع المسجد الأقصى، ومتحدياً الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم أجمع.
كيف جاء رد فعل رئيس الحكومة نتنياهو؟ دافع نتنياهو عما أقدم عليه بن غفير قائلاً في بيان إن وزراء سابقين قاموا بدخول المجمع من قبل، وبالتالي لا يعتبر ذلك إخلالاً بالوضع القائم.
كيف جاء رد فعل المنطقة والعالم؟ أصدرت الدول العربية والإسلامية بيانات غاضبة تعبر عن الرفض والاستياء، واستدعي الأردن السفير الإسرائيلي لديه وسلمه مذكرة احتجاج، بينما أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً تؤكد فيه أهمية الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة.
كيف كان تأثير ردود الأفعال على بن غفير؟ كرر وزير الأمن الداخلي اقتحامه للمسجد الأقصى أكثر من مرة، خلال مايو/أيار ويوليو/تموز 2023، وأصدر تصريحات تباهى فيها بأن “السيادة هنا للإسرائيليين فقط”.
من جانبها، أرسلت قيادات حركة حماس خطابات لقادة الدول العربية والإسلامية تحذر فيها من أن “الأقصى خط أحمر” وأن المقاومة لن تسكت على هذه الاستفزازات الخطيرة والمتكررة من جانب حكومة الاحتلال المتطرفة.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أرسل مُذكّرة لقادة وزعماء ومسؤولين عرب ومسلمين، طالب فيها بالتحرك من أجل “إنقاذ” المسجد الأقصى. وأكدبيان صادر عن الحركة أن هنية قال في المذكرة: “نود أن نضع أمامكم خطراً داهماً يهدد مقدساتنا في فلسطين، وعلى رأسها المسجد الأقصى، مع تولّي الحكومة الصهيونية اليمينية المتطرفة أعمالها”. ورأى هنية أن التصريحات العنصرية التي أطلقها بن غفير تُظهر نية الاحتلال بحكومته المتطرّفة فرض ما يسمّى “السيادة على المسجد الأقصى”. ووصف هذه المستجدات بأنها تطور خطير لا يمكن السكوت عنه أو القبول به، محذّراً من انفجار مواجهة جديدة في فلسطين تُلقي بارتداداتها على المنطقة. وبيّن هنية أن الشعب الفلسطيني ومقاومته لن يقبلا بالسيطرة على الأقصى أو فرض التقسيم عليه وتحويله إلى أمر واقع.
كيف تأثر مسار التطبيع مع إسرائيل؟
يمكن القول إن مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، الذي بدأ منذ عام 2020، لم يتأثر كثيراً، وربما لم يتأثر على الإطلاق، رغم إجراءات حكومة التطرف والعنصرية الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي وبسرعة قياسية.
كانت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان هي الدول الأربع التي انضمت رسمياً لقطار التطبيع الذي صممه ونفذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ونتنياهو، وكان الهدف الكبير هو أن تقدم المملكة العربية السعودية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
وبعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض وغياب نتنياهو عن منصبه لمدة عام ونصف تقريباً، تباطأت سرعة قطار التطبيع لكنه لم يخرج عن القضبان بشكل نهائي، وبدا أن تباطؤ التطبيع له أسباب تتعلق بالوضع الداخلي في إسرائيل والولايات المتحدة بشكل أساسي. فنتنياهو بعد عودته لمنصبه على رأس “حكومة السوابق”، بدا أكثر تركيزاً على المشاكل الداخلية التي أثارها تحالفه مع الأحزاب الدينية المتطرفة وأحزاب المستوطنين، وبخاصة التعديلات القضائية التي سعوا لتمريرها والتي وصفتها المعارضة بأنها “انقلاب قضائي”.
لكن توسيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، والمداهمات اليومية للبلدات والمدن الفلسطينية، وكلها باتت أمور تحدث بشكل يومي، لم يبدُ أن لها تأثيراً يذكر على العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة بشكل عام. وأصبح الحديث عن تسريع وتيرة دمج إسرائيل في الترتيبات الاقتصادية والأمنية في الشرق الأوسط علنياً ومستمراً، في الوقت الذي تجاهلت فيه جميع الأطراف ما يعانيه الفلسطينيون على أيدي جيش وشرطة الاحتلال والمستوطنين أيضاً.
وعلى الرغم من أن إدارة جو بايدن كانت قد أبدت قلقها مطلع عام 2023 من أن تؤدي إجراءات الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل بحق الفلسطينيين إلى انفجار الأوضاع أو اندلاع انتفاضة ثالثة، إلا أنه مع مرور الوقت وعدم وجود رد فعل فلسطيني تقريباً، بدأت واشنطن تكثف جهودها لإنجاز صفقة التطبيع الكبرى بين السعودية وإسرائيل، على أمل أن يكون ذلك بمثابة “إنجاز ضخم” في السياسة الخارجية لإدارة بايدن.
وفي مقابلة حصرية مع شبكةFoxnews الأمريكية بثت يوم 21 سبتمبر/أيلول 2023، أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن المحادثات بشأن تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل جارية “وكل يوم نقترب من ذلك”، مع تأكيد ولي العهد على أهمية “حل القضية الفلسطينية”.
الهدوء الذي يسبق العاصفة
رغم مواصلة حكومة إسرائيل تنكيلها بالفلسطينيين في القدس والضفة الواقعتين تحت الاحتلال، واستشهاد أكثر من 300 فلسطيني حتى يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، بينهم 32 طفلاً، واغتيال إسرائيل قادة “الجهاد الإسلامي” بغزة، في انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن الأمور بدت وكأن شيئاً لا يحدث على الإطلاق.
إذ ازداد الحديث عن قرب توقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وهناك في واشنطن ساد شعور بأن الشرق الأوسط أصبح “أكثر هدوءاً” مما كانت عليه الأمور خلال السنوات الماضية.
ففي فعالية استضافتها مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية نهاية سبتمبر/أيلول 2023، زعم مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، أن المنطقة أصبحت -في الوقت الحالي على الأقل- “أكثر هدوءاً اليوم مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن”، وعلى الرغم من أن “التحديات لا تزال قائمة، مثل برنامج الأسلحة النووية الإيراني، والتوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد قل كثيراً مقدار الوقت الذي يتعين عليّ أن أقضيه في الانشغال بأزمات الشرق الأوسط وصراعاته اليوم، خلافاً لجميع أسلافي في هذا المنصب منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول”.
ترسم تصريحات سوليفان هذه صورة لشرق أوسط يشوبه الهدوء، لكن اتضح، بعد أسبوع واحد تقريباً، أنه ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة. فهذه الصورة توضح أن جميع الأطراف قد نسيت تماماً أمر الفلسطينيين على مدى نحو عقدين من الزمان، وبالتحديد منذ انتهت انتفاضة الأقصى عام 2005 وتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية ورفع شعار “المفاوضات” مع الاحتلال على حساب “المقاومة” لذلك الاحتلال.
طوفان الأقصى تقلب الموازين!
رسخت كل هذه التطورات والأحداث شعور نتنياهو وحكومته وجيشه وشرطته ومستوطنيه بالتفوق المطلق والسيطرة التامة على الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واقتنع نتنياهو وحكومته بأن أقصى ما تطمح إليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هو الحصول على بعض المكاسب الاقتصادية لتخفيف الظروف المعيشية عن سكان القطاع المحاصر.
لكن جاء يوم السابع من أكتوبر/تشرين ألأول 2023 حاملاً معه مفاجأة استراتيجية لم يتوقعها أي من تلك الأطراف التي راهنت على نسيان الفلسطينيين وإسقاطهم من معادلات القوة في فلسطين والمنطقة، بحسب تقرير لموقع Vox الإخباري الأمريكي عنوانه “هذه الحرب في غزة لم تندلع من فراغ” رصد الأسباب التي أدت إلى عملية “طوفان الأقصى” العسكرية، التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
فقد نسفت عملية طوفان الأقصى الحسابات السياسية لإسرائيل والمنطقة والعالم وأعادت رسم التوجه الاستراتيجي لكيفية التعامل مع الاحتلال والشعب الذي يعاني منه على أراضي فلسطين. فمن الناحية العسكرية، كشف الهجوم الذي شنته المقاومة الفلسطينية عن مدى هشاشة أحد أكثر الجيوش تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم.
ولا يزال الخبراء يتداولون في دهشة وارتباك عمقَ الفشل الاستخباراتي لجهاز الأمن الإسرائيلي الذي يمتلك أعتى أدوات المراقبة في العالم -من طائرات مسيَّرة في السماء إلى أجهزة استشعار تكتشف الأنفاق تحت الأرض- للتجسس على قطاع غزة المكتظ بالسكان، والذي تسيطر عليه حركة حماس منذ عام 2007.
ومن الناحية السياسية والإعلامية، عادت قضية فلسطين إلى صدارة الملفات التي يتعين على جميع الأطراف في المنطقة والعالم أخذها بعين الاعتبار قبل التفكير في أمور أخرى من تطبيع مع الاحتلال أو محاولات لدمجه في المنطقة. وللمرة الأولى ربما منذ زرع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، أصبح العالم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين وحقهم المشروع في إقامة دولتهم المستقلة، حتى وإن كانت على جزء من أرض فلسطين التاريخية.
بدأ العام المنصرم 2023 وفلسطين وقضيتها وشعبها غائبون عن اهتمام المنطقة والعالم، لكنه انتهى وقضية فلسطين تتصدر المشهد، ليبدأ عام 2024 وجرائم الاحتلال المتواصلة في غزة والضفة والقدس، وهناك في لبنان حيث اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، صالح العاروري، تحت المجهر ويشاهدها العالم، حتى وإن لم يتحرك ضميره بعد لإيقافها.
فقد تقدمت جنوب أفريقيا بالفعل بدعوى أمام محكمة الدولية الدولية لمحاكمة قادة الاحتلال، وعلى رأسهم نتنياهو، بتهم ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وحددت المحكمة، ومقرها لاهاي، يوم 11 يناير/كانون الثاني 2024 لعقد جلستها الأولى بشأن تلك الدعوى.
إلى أين تتجه الأمور؟
نأتي هنا إلى سؤال ما بعد الحرب الإسرائيلية “المنفلتة” على غزة: وماذا بعد؟ أما الإجابة فهي تتلخص في أنه لا توجد خيارات جيدة بالنسبة لمستقبل عدوان إسرائيل على القطاع، بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية يرصد التداعيات المحتملة لأي مسار تختاره حكومة نتنياهو.
ينطلق تقرير فورين بوليسي من نظرة مستقبلية متخلية على الأوضاع يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2025، فيما يُعرف بنظرية سيناريوهات ما قبل الوفاة، وهي أداة من أدوات التحليل النفسي لغاري كلاين، عالم نفس شهير، وينصح بها دانيال كايمان الحاصل على جائزة نوبل، وهدف تلك الأداة هو تقليل مخاطر الفشل وفكرتها بسيطة. تخيل نتائج السياسة المتبعة حالياً في أسوأ سيناريوهاتها بعد أن تنتهي من تنفيذها، ثم تقوم بتحليل الأخطاء التي تم ارتكابها، فتكون النتيجة رصد الأخطاء المحتملة، ويقوم صناع القرار بدراستها في الوقت الحاضر بهدف تفاديها، ومن ثم تغيير السياسة المتبعة.
وانطلاقاً من هذه النظرية، يضع تقرير فورين بوليسي هذا السيناريو بعد عامين من اليوم: حماس تعود للسيطرة على قطاع غزة، وترتفع شعبيتها بشكل لافت في الضفة الغربية والقدس وفي المنطقة والعالم، بينما تعاني إسرائيل من عزلة دولية خانقة وتدهور بالغ في علاقتها مع الولايات المتحدة. وعلى المستوى الداخلي، تزداد الشروخ وتتسع هوة الانقسام السياسي والاجتماعي في إسرائيل عما كانت عليه قبل الحرب على غزة، وهو ما يشل دولة الاحتلال عملياً.
ففي ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع خلال عام 2024، كما أعلن نتنياهو وقيادات جيش الاحتلال، ترتفع بشدة احتمالات اتساع رقعة الصراع ليتحول إلى حرب شاملة في المنطقة، قد تشمل على الأرجح حرباً بين إسرائيل وحزب الله في لبنان وربما تتحول إلى مواجهة أوسع مع إيران تتورط فيها أيضا الولايات المتحدة، وهو السيناريو المرعب لجميع شعوب المنطقة والعالم بطبيعة الحال.
لكن حتى فيما يتعلق بغزة والأراضي الفلسطينية فقط، لا تمتلك قيادات الاحتلال أي تصورات واضحة عما قد تكون عليه الأوضاع في اليوم التالي لانتهاء الحرب، وهو ما يمثل كابوساً لإسرائيل يبدو أن نتنياهو يسعى جاهداً لعدم الاستيقاظ عليه سريعاً من خلال استمرار العدوان لأطول فترة ممكنة.
الخلاصة هنا هي أن قضية فلسطين عادت من جديد لتتصدر المشهد الجيوسياسي برمته، ليس فقط في المنطقة ولكن حول العالم، وهو ما يمكن أن يجعل من 2023 عام التناقضات لقضية فلسطين!
عربي بوست
التحليل على مسؤولية عربي بوست