تكشف وثائق بريطانية نشرتها شبكة “بي بي سي” الإخبارية، الإثنين 15 يناير/كانون الثاني 2024، أن بريطانيا دعت إلى وضع خط أحمر لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكبح جماحها لمنع تصعيد انتقامها من عمليات الفلسطينيين ضدها في ذروة الانتفاضة الثانية، التي عرفت بانتفاضة الأقصى.
كما تكشف الوثائق، التي رفعت رئاسة الحكومة البريطانية السرية عنها أخيراً، عن حوارات غاضبة بين الأوروبيين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، عبر فيها عن شعوره بـ”الاكتئاب” من “إذلال” الإسرائيليين له، وأنه يؤمن بالقضاء والقدر، ولا يخشى من أن يقتلوه.
احتواء تصعيد بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية
تتناول الوثائق شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 2001، الذي شهد تحركات مكثفة من جانب خافيير سولانا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي، وحكومة توني بلير البريطانية لاحتواء التصعيد الدامي بين إسرائيل وجماعات المقاومة الفلسطينية.
ففي الأول من ذلك الشهر، فجّر فلسطينيان من حركة المقاومة الإسلامية “حماس” نفسيهما في مركز تجاري بالقدس، وقتلا 10 أشخاص وأصابا 170. وفي اليوم التالي، نفذ نشطاء آخرون من الحركة هجوماً استشهادياً آخر في حافلة بمدينة حيفا، وقتلوا 15 شخصاً وأصابوا 40، رداً على قتل القوات الإسرائيلية أحد أعضاء حماس قبل ذلك بأسبوع.
عملية استشهادية في ملهى ليلي في تل أبيب
وقبل ذلك بستة أشهر، وقعت في شهر يونيو/حزيران عملية استشهادية في نادٍ ليلي بمدينة تل أبيب، قتل فيها أكثر من 20 إسرائيلياً.
وصعدت إسرائيل عملياتها الانتقامية من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والسلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
في الثالث من ديسمبر/كانون الأول عام 2001 أجرى سولانا ثلاث محادثات هاتفية مع الزعيم الفلسطيني. وفي اليوم التالي، أبلغ سولانا بلير أن أبو عمار “مكتئب للغاية”. ونقل عنه قوله إنه “لا يستطيع أن يفعل أكثر مما فعله بالفعل”، ثم أردف: “إذا أراد الإسرائيليون قتله، فليكن”.
وكان تقدير المسؤول الأوروبي هو أن الموقف “بالغ الخطورة”، وانتقد “تردد الولايات المتحدة في الانخراط بجدية” في مساعي التهدئة، وحذر من أنه تراجع في “مساحة المناورة”.
وزاد بلير بوصف الوضع بأنه “مريع”. وعبر عن اعتقاده أن الإسرائيليين “ينتقمون بقسوة، وسوف ينتهي بهم الأمر بقتل كثير من الناس”.
ورأى رئيس الوزراء البريطاني أن الطريق الوحيد للمضي إلى الأمام هو “أن يتخذ كلا الجانبين (الإسرائيلي والفلسطيني) خطوات أمنية مرتبة سلفاً”، وبمجرد أن يكون الوضع الأمني أهدأ تنطلق عملية تفاوض.
وفيما يتعلق بالجانب الفلسطيني، دعا بلير إلى ضرورة أن “يعتقل عرفات المتطرفين”، وفي المقابل، يتخذ الإسرائيليون “خطوات موازية”، محذراً من أنه بدون هذا “سوف تسوء الأمور بسرعة”.
الدعوة إلى وقف الانتفاضة
وافق سولانا على تصور بلير، مؤكداً أن على عرفات “الدعوة إلى وقف الانتفاضة” التي كانت إسرائيل والولايات المتحدة ترى أن من يقف وراءها جماعات إرهابية فلسطينية مثل حماس.
وأبلغ المسؤول الأوروبي بلير أنه نصح عرفات بأن يقدم على هذه الخطوة “فوراً بعد (أحداث) 11 سبتمبر/أيلول (في الولايات المتحدة)، اعتقاداً منه أن تلك كانت “فرصة ذهبية” متاحة للزعيم الفلسطيني.
وتدخل ديفيد ماننغ، مستشار بلير للسياسة الخارجية وسفير بريطانيا السابق لدى إسرائيل، معبراً عن اعتقاده أن “أيام عرفات باتت معدودة”.
ومع ذلك، فقد حذر من أن المطروح هو الاختيار بين “تحقيق استقرار وضع عرفات” و”ترك الموقف في الضفة الغربية ينحدر إلى لبنان آخر”.
واقترح ماننغ ضرورة إقناع الولايات المتحدة بـ”تحقيق الاستقرار في وضع عرفات، وأن نجعله هو النقطة المرجعية الثابتة بشأن الوضع في الضفة الغربية”.
غير أنه اشترط أن يكون مقابل النجاح في تعزيز موقف عرفات، هو مطالبته بأن “يتخذ خطوات جادة بشأن الأمن”، في إشارة إلى ضرورة ضمان وقف أنشطة المقاومة الفلسطينية التي تهدد أمن إسرائيل.
تحقيق استقرار وضع عرفات
هنا سأل بلير عن تأثير إعلان عرفات انتهاء الانتفاضة. ورد ماننغ بأن حدوث مثل هذا سيكون “غير واقعي على الأرجح في الوقت الحالي”. ونصح بأن تكون الخطوة العاجلة الفورية هي “الحصول على موافقة الولايات المتحدة على تحقيق استقرار وضع عرفات”، ثم “جعل عرفات يقمع المتطرفين”، وإذا تحقق تقدم في هذا الشأن، فإنه يمكن إعلان وقف إطلاق النار.
لكن بلير أبدى تشاؤماً بشأن احتمال تصرف الولايات المتحدة “بحسم” كشرط لتحقيق أي تقدم. وعبر عن اعتقاده أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن لن تفعل ذلك “ما لم يتغير الوضع الحالي”.
وأعاد بلير الأمر إلى عرفات. وقال إن التصور الأمريكي هو أن الزعيم الفلسطيني “لم يؤد المهمة المطلوبة منه”. وتوقع أنه ما لم يكن عرفات “مسيطراً” على الموقف في الأراضي الفلسطينية فإن الولايات المتحدة “لا يمكن أن ترى جدوى من التواصل معه”. وأضاف أنه إذا كان عرفات مسيطراً، فإن الأمريكيين “يسألون أنفسهم عن سبب عدم اتخاذه إجراءات ضد المتطرفين”.
وخلص بلير إلى التصور التالي: هناك حاجة إلى إجبار عرفات على اتخاذ خطوات أحادية وجذرية قوية بشأن الأمن من شأنها أن ترسل رسالة واضحة بحدوث تغيير في موقفه. وتوقع بلير أن يحقق هذا السلوك من جانب عرفات ثلاثة أهداف هي: حدوث استجابة من جانب الولايات المتحدة، وكبح جماح أرئيل شارون لمنع تصعيد الانتقام، والمساعدة في خلق مجال للتفاوض بهدف تسوية القضية الفلسطينية.
تفجيرات القدس وتل أبيب
في نهاية المحادثات اتفق بلير وسولانا على أن يلتقي الأخير الزعيم الفلسطيني خلال أيام، و”توصيل رسالة صارمة بأن الخطوات الأحادية من هذا النوع (أي وقف الانتفاضة وقمع المتطرفين في الجانب الفلسطيني) هي الوحيدة التي يمكن أن تنقذ الموقف”.
وفي لقاء آخر مع لورد مايكل ليفي، مبعوث بلير الشخصي إلى الشرق الأوسط، حذر سولانا من أن الموقف أكثر صعوبة حتى مما كان عليه أيام تفجيرات القدس وحيفا وتل أبيب.
ونقل إلى ليفي قول وزير الخارجية الأمريكي كولين باول له إن “المفجرين يهاجمون عرفات كما يهاجمون إسرائيل”، في إشارة إلى أن عمليات المقاومة تضر بموقف عرفات كما تضر بإسرائيل. غير أن الوزير الأمريكي انتقد وجود صلات بين عرفات والمنظمات الفلسطينية، التي تعتبرها واشنطن إرهابية، قائلاً إن الزعيم الفلسطيني “لعب على كل الحبال لفترة طويلة”.
وحسبما أبلغ سولانا البريطانيين، فإنه “إذا لم يتصرف (عرفات) الآن ضد البنية الأساسية للجماعات الإرهابية، فإن الولايات المتحدة لن تضيع وقتها في البحث عن حل”. غير أن المسؤول الأوروبي انتقد الموقف الأمريكي.
بيانات محيرة من البيت الأبيض
في تقرير إلى بلير ووزير الخارجية البريطانية عن اللقاء، قال ليفي إن سولانا انتقد “البيانات المحيرة” الصادرة عن البيت الأبيض “المؤيدة لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، والتي تخاطر بإعطاء انطباع بأن أي عمل من جانب شارون يتمتع بمباركة بوش”. ووصف سولانا النهج الأمريكي بأنه “غير واضح”، الأمر الذي “جعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ أي خطوة”.
ونقل سولانا إلى ليفي بعضاً مما دار بينه وبين عرفات خلال المحادثات الهاتفية. وقال إن أبو عمار “شعر بالإذلال بتدمير طائرته”.
ويذكر أنه مع اندلاع الانتفاضة، أمر شارون بتدمير ثلاث طائرات هليكوبتر، كانت إسرائيل قد سمحت باستخدامها بعد اتفاقات أوسلو عام 1993، بعد أن زُعم أنها استخدمت لتهريب أسلحة وفلسطينيين مطلوبين. وأبلغ عرفات سولانا أنه “يؤمن بأن حياته مرهونة بالقضاء والقدر”.
موقف إسرائيل من الانتفاضة
تطرقت مباحثات ليفي وسولانا إلى موقف إسرائيل من السلطة الفلسطينية ودورها في ظل انتفاضة الأقصى. وكانت حكومة شارون قد اعتبرت السلطة “كياناً مؤيداً للإرهاب”. ورأى سولانا أن عدم اعتبار إسرائيل السلطة منظمة إرهابية “سمح لها بالحفاظ على خط رجعة للعودة إلى المفاوضات مع السلطة، إذا أنهت السلطة العنف”.
وحث ليفي سولانا على السفر إلى المنطقة في أقرب وقت، لأن “الموقف خطير، وهناك حاجة إلى تحرك عاجل”.
وطلب اللورد ضرورة أن يرسل الاتحاد الأوروبي إشارة واضحة بأن السلطة الفلسطينية “شرعية”، وأن سلطة فلسطينية قوية “في مصلحة الجميع”.
ووجّه المبعوث البريطاني انتقاداً واضحاً إلى الجنرال أنطوني زيني، المبعوث الأمريكي الخاص للسلام في الشرق الأوسط، لأنه “لا يحسن التصرف برفضه الحديث إلى الفلسطينيين”.
وفي إشارة إلى أنه لا يكفي أن يطلب من عرفات اتخاذ إجراءات دون معرفة ماذا يدور في ذهن إسرائيل، نبه لورد ليفي إلى أنه “يجب أيضاً أن نشجع الإسرائيليين على أن يحددوا بوضوحٍ رؤيتهم للمضي قدماً في حالة اتخاذ السلطة الفلسطينية إجراء فعالا ً ضد المتطرفين”.
وعبر عن اعتقاده بضرورة أن تضع إدارة بوش حداً للمدى الذي يمكن أن يصل إليه الرد الإسرائيلي على العمليات الفلسطينية.
وقال إنه “في ظل الغياب الظاهر لأي ضوء أحمر أمريكي لشارون، ربما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى أن يدرس فكرة أن يوضح للإسرائيليين الخطوط التي نعتبر أنه لا ينبغي لهم أن يتجاوزوها في ردهم على الهجمات الانتحارية” مؤكداً أنه بالتوازي، يجب أن “نرسل رسالة واضحة إلى الفلسطينيين بالحاجة الملحة لأن يقمعوا الإرهابيين”.
وردّ سولانا بأن “افتقاد الوضوح بشأن النهج الأمريكي يقلقه بشكل واضح”.
ولم يستبعد ليفي فكرة أن يطرح الاتحاد الأوروبي مبادرة تتضمن حوافز للسلطة مقابل “قمعها بفعاليةٍ الجماعات الإرهابية”، تشمل الإعلان عن مؤتمر للمانحين، ونشر مراقبين دوليين في الأراضي الفلسطينية.
لقاء عباس وشارون
في أوائل شهر فبراير/شباط عام 2005، التقى شارون ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، بوساطة مصرية وحضور العاهل الأردني في شرم الشيخ لتنتهي انتفاضة الأقصى، التي أسفرت، حسب التقديرات، عن مقتل نحو 4400 وإصابة قرابة 48500 فلسطيني، ومقتل نحو 1100 عسكري إسرائيلي ومستوطن يهودي وإصابة 4500 آخرين.
كما قتل أيضاً نحو 64 أجنبياً.وخلال الانتفاضة، اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس، وخليفته عبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كما اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال، مروان البرغوثي، أحد قادة حركة فتح البارزين، وأحمد سعدات، خليفة مصطفى في قيادة الجبهة الشعبية. كما اغتالت الجبهة رحبعام زئيفي، وزير السياحة الإسرائيلي.
عربي بوست