في واشنطن وعواصم أوروبا نقاشات صاخبة ورفض للمواقف الرسمية من تغطية العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
في كتاب “مشكلة من الجحيم” تقول سامنتا باور التي عملت في إدارة الرئيس باراك أوباما، وتعمل في إدارة الرئيس جو بايدن، “من أكبر أخطاء أميركا فشلها في وقف الإبادة الجماعية في رواندا”. اليوم، تبدو أميركا التي هرول رئيسها بايدن وكبار مساعديه إلى إسرائيل بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى” حامية لحرب “الإبادة” التي تشنها الدولة العبرية على غزة. وليس معروفاً إن كانت سامنتا باور موافقة أو غير موافقة على رسالة من 40 وكالة أميركية رسمية بعث بها نحو 500 مسؤول، بقيت أسماء بعضهم غير معلنة، إلى بايدن يحذرونه من خسارة واشنطن أي تأييد في العالمين العربي والإسلامي، ويطالبون بالتخلي عن الانحياز الأعمى إلى إسرائيل والضغط عليها لوقف النار، لكن المؤكد أن التوحش الإسرائيلي في حرب غزة وقتل الأطفال والنساء والمسنين بالآلاف سلط الأضواء على ثلاثة أمور، أولها الانكشاف الكامل للوجه العنصري في الغرب والمعايير المزدوجة تحت عناوين الليبرالية وحقوق الإنسان وحماية المدنيين. وثانيها عجز المنظمة الدولية عن تطبيق المبدأ المهم الذي أضيف قبل سنوات إلى ميثاق الأمم المتحدة حول “مسؤولية الحماية” بما يسمح بالتدخل ضد ظلم نظام لشعبه وحماية المدنيين من الآلة العسكرية لعدو، أو أقله تطبيق “اتفاقيات جنيف” والقانون الدولي الإنساني في الحروب. وثالثها ممارسة النفاق السياسي والدبلوماسي، بحيث حمى الغرب أو أقله صمت عن المجازر الإسرائيلية في حق المدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية، بعدما دان القصف الروسي للمدنيين والبنية التحتية في أوكرانيا، وفي المقابل كانت المواقف من حربي أوكرانيا وغزة هي العكس في موسكو وبعض الشرق.
وإذا كان مدير الاستخبارات المركزية الحالي، الدبلوماسي السابق وليام بيرنز يقول في كتاب “القناة الخلفية” إن الرئيس دونالد ترمب مارس “الهمجية الدبلوماسية”، فإن إدارة بايدن تمارس في دعم إسرائيل ما يتجاوز الهمجية السياسية والدبلوماسية، إذ أجرى الحكام الجدد في الغرب فصلاً كاملاً بين السياسة والأخلاق، حتى إن أكاديمياً ومسؤولاً سابقاً مثل البروفيسور جوزيف ناي عنون واحداً من كتبه الأخيرة بسؤال هو “هل الأخلاق مهمة لإرساء سياسة خارجية؟”، وهو يرى أن “العقلانية الأخلاقية معقدة لأن خيارات السياسة الخارجية محكومة بتوازن الغايات والوسائل والانعكاسات على المدى الطويل”.
لكن الغرب ليس كتلة صماء. وتعبير “الغرب الجماعي” الذي درج استخدامه أخيراً هو نوع من تعبير أيديولوجي. ففي واشنطن وعواصم أوروبا نقاشات صاخبة ورفض للمواقف الرسمية من تغطية العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني انتقاماً من حركة “حماس”. وما شهدته العواصم هو تظاهرات عارمة ترفع أعلام فلسطين، وتدعو إلى وقف الحرب على غزة. حتى في الأوساط اليهودية برز ناشطون ضد المجازر الإسرائيلية في غزة. والواقع أن الغرب “غربان”، واحد سياسي وعسكري رسمي يمارس الإمبريالية بأشكال مختلفة. وآخر شعبي متحرر يضم جيلاً جديداً في الوسط واليسار يرفض الحرب على المدنيين، ويدين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويدعو إلى تسوية سياسية على أساس “حل الدولتين”، فضلاً عن الجانب الحضاري والثقافي والفكري اللامع الذي تأثر به العالم كله في الفلسفة والرواية والشعر والموسيقى والنقد.
من سلبيات الغرب أنه أنتج الفاشية والنازية وهتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار، لكن من إيجابياته أنه أنتج هيغل وماركس وهايدغر وسارتر ومالرو وشتاينبك وفوكنر وسواهم، من بعد سقراط وأفلاطون وأرسطو. أما الشرق، فإنه يبدو بالقوة والتسلط كأنه “واحد” مع أنه متعدد ومتنوع ووارث حضارة عربية وإسلامية مهمة. فالأنظمة السلطوية تمنع أي صوت غير صوتها. والتيارات الدينية السياسية المتطرفة تنشر ثقافة “التكفير بدل التفكير”، والقتل بدل الحوار. وليس في المنطقة سوى قليل من النقاش الذي لا بد منه حول ما حدث وما يجب أن يحدث في فلسطين وسواها للتحرير والتحرر وبناء المستقبل، لكن من الوهم حجب الوجه الحقيقي للشرق، والذي يمثله جيل جديد متعلم مثقف لديه تصور رائع للمستقبل ويعرف كيف يتعامل مع التكنولوجيا بعد مرحلة الاتكال على الأيديولوجيا والبيولوجيا.