“علمونا التعميم القاتل وألا فرق بين الفرنسي وبين الاستعمار الفرنسي”
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
لقد أصبحنا أفراداً وجماعات مصابين بجائحة الكراهية العابرة للقارات والثقافات والديانات واللغات واختلاف ألوان البشرات، “باثولوجيا” الكراهية المعاصرة هي أكثر الأمراض انتشاراً في العالم الذي من حولنا وفينا، ونار الحروب العمياء المعلنة والنائمة وقودها الأمثل حطب الكراهية المتنوعة، وكل هذه الحروب التي نشارك فيها أو تلك التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ولا تزال تنام بسكينة في الرماد فاتحة عينيها بقوة، على استعداد للقيام في أية لحظة.
هذه الحروب المقدسة أو المدنسة، الحديثة أو القديمة، الحداثية أو الكلاسيكية، الطبقية أو الهوياتية، حروب السيف أو السيبرنتيك، في الشمال أو الجنوب، جميعها تحضر في مطبخ وعلى نار هادئة لا ينطفئ جمرها الأيديولوجي أبداً، إنه مطبخ الكراهية.
في تاريخ الإنسان في شمال أفريقيا والشرق الأوسط الشيء الوحيد الذي لم تختلط به الكراهية هو حليب الأمومة، فبعد أن يجف ثدي الرضاعة يبدأ مسلسل مصل الكراهية، كل عمر وكراهيته.
شربنا كأس الكراهية المعتقة الأولى في المدرسة، وعلى مقاعدها تذوقنا طعم الكراهية للمرة الأولى مُرّة كالعلقم كانت، ولا تزال الأجيال الجديدة جيلاً بعد جيل من بعدنا، ترشف من نصوص الكتب المدرسية المقررة علينا الكراهية في شكلها الشعري والديني والأخلاقي واللغوي، وهكذا كنا نكبر وتكبر فينا ومعنا الكراهية، لمدة عشرية ونصف العشرية تقريباً، والتي هي عمر سنوات المدرسة، كنا صباح مساء نستحم في الكراهية حتى أضحت وكأنها من جيناتنا من دمنا.
ثم حين كبرنا قليلاً وتوسع العالم من حولنا في الجغرافية وفي الوعي توسعت الكراهية أيضاً وكبرت فينا ومعنا لتصل إلى الآخر المختلف عنا فتلتهمه، فتحول كل آخر في مخيالنا إلى وحش وذئب وأفعى وقاتل وسفاح ومغتصب ومجرم، كل آخر هو استعمار في الماضي أو استعمار متوقع يجب مقاومته وكرهه ورفض العيش معه.
علمونا التعميم القاتل، علمونا ألا فرق بين الفرنسي وبين الاستعمار الفرنسي. علمونا بألا فرق بين جان بول سارتر وبين الجنرال السفاح بيجار.
علمونا بألا فرق بين حملة الحقائب المساندين لحرب تحرير الجزائر وحملة موريس بابون ضد الثوار الجزائيين الذين ألقي بهم في نهر السين بباريس. علمونا بألا فرق بين الثنائي الرئاسي بوش الأب والابن والروائي هنري ميللير أو هيمنغواي.
علمونا بألا فرق بين الفيلسوفين موسى بن ميمون وسبينوزا وبين الجنرال شارون ورئيس حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف ابن غفير.
هكذا نغرق في مستنقع الكراهية من خلال التعميم الأعمى. إن الجهل بالآخر ينتج الخوف منه، والجهل والخوف ينتجان الكراهية.
المختلف عنا، أي الآخر، يخيفنا لأننا ضعفاء من الداخل، لأن مقاومتنا ليست مقاومة التاريخي المنتج، مقاومة الفاعل، مقاومة الذكاء، إنها باختصار مقاومة “رد الفعل الغاضب” التعميمي الذي تنتجه طبقات ثقافة الكراهية المتراكمة.
وشيئاً فشيئاً تتوسع مساحة الكراهية فتصل إلى الفضاء الديني المقدس، فيجلس الجميع منصتين خلف رجل الدين الذي يفترض أن يكون صوت الروح والروحاني، المحبة والتآزر، فيسمع الجميع في خطب الجمعة وخطب الأعياد وفي الدروس اليومية، دروس ما بين صلاة العصر والمغرب، وفي الدعاء للميت في المقابر وعلى المنابر، يسمع الجميع وباستمرار من رجل الدين دعاء ضد المسيحيين وضد اليهود وضد العلمانيين وضد الشيوعيين وضد الملاحدة، فتكرس هذه الخطابات ثقافة الكراهية، وتصبح الكراهية “أكلاً” يومياً، “علفاً” بشرياً مبتذلاً، رد فعل عادي جداً.
لمحاربة هذه الكراهية الدينية علينا الانتقال من التفكير في الدين الواحد إلى التفكير في الديانات الكثيرة التي تعيش معنا ومن حولنا، الانتقال من دراسة الدين بصورة دينية إلى دراسة الأديان المقارنة بصورة تاريخية.
ثم شيئاً فشيئاً ينتمي الوطن إلى الحزب ويدخل الجامعة، وهما فضاءان متشابهان أو توأمان، فنبدأ في فصل جديد من سلسلة الكراهيات، نتعلم بأن لغتنا هي أجمل اللغات، هي أعظم اللغات، هي لغة الله ولغة الجنة، هي اللغة التي تغنينا عن اللغات الأخرى، وهي اللغة التي ستبقى بعد أن تندثر كل اللغات بلعنة من الله، ومثل هذه الخطابات السياسية القومجية والأيديولوجية أو الدينية الساذجة الخطرة هي ما سيكرس حس كراهية اللغات الأجنبية ويجعلنا ندور حول أنفسنا مبتهجين بذاتنا الفارغة، فنعمق حس كراهية تعلم لغة الآخر الذي هو جزء منا، هذا الحال هو الذي أوصل تعليم اللغات الأجنبية في الجامعات العربية جميعها إلى الحضيض الذي نعرفه، للأسف.
جميل بل وضروري أن تعمل كل أمة على تطوير لغتها، حتى نحارب التنميط ونوسع المخيال الإنساني الذي يقيم في ذاكرات اللغات المتنوعة، لكن لا يمكن الاستفادة من هذا الحرص على هذه اللغة أو تلك إلا إذا رأيناها في مرآة اللغات الأخرى. اللغات مرايا متعاكسة وعاكسة.
وتتوسع أخطار ثقافة الكراهيات فينا حين نشعل حروب “الهويات” من حولنا فيخرج كل واحد “سيف” هويته، ليظل متربصاً بهوية الآخر هدفه اغتيالها، وتعمل “الهوية” الغالبة التي تمسك بزمام السياسة والمدرسة والإدارة فترفع سيفها على الهويات الأخرى، فنعيش في مجتمع واحد في كراهية “هوياتية”.
حين أدقق النظر في تركيبة هذا العالم من شمال أفريقيا والشرق الأوسط أشعر بأن حروب الهويات لا تزال قائمة، وهي حروب لا تنثر سوى مزيد من الكراهية. الهويات المتعددة كما اللغات المتعددة، هي ثروة كبيرة في المجتمع الديمقراطي، في البلد الواحد ذي النظام التعددي العادل، وحين يتحقق العدل والحرية تتحقق الهويات على اختلافها كقوة عظيمة في المجتمع.
الحفاظ على هوية ما لا يقوم على جنازة هوية أخرى، ثم شيئاً فشيئاً يحدث هذا في مجتمعنا الغريب الغارق في مثالب الكراهية والواقع في مخالبها، نتعلم كراهية أخرى هي الكراهية الجنسية، كراهية المرأة، من جهة يعلموننا حب الأم، “الجنة تحت أقدام الأمهات” ومن جهة أخرى يعلموننا بأن المرأة هي مصدر الرذيلة، ناقصة دين وعقل، و”كيدهن لعظيم”، وكأن الأم ليست امرأة، وكأن النساء الأخريات، الجارة والأخت والعمة والمعلمة والطبيبة لسن بأمهات.
إن الكراهية قنبلة موقوتة ومزمنة تخرب الفرد والجماعة والوطن والثقافات، إنها تعمي عن الخطأ، تعمي عن نقد الذات ومراجعتها.
في المجتمعات التي تتعاظم فيها ثقافة الكراهية وتُتوارث من جيل لآخر، يتم التركيز فيها على استنهاض ذاكرة الحروب والصراعات الدموية، لا كدرس يجب تفاديه لكن كنموذج للشجاعة والفروسية يجب الإبقاء عليه، يتم استدعاء حروب الماضي لإخفاء هزيمة الحاضر.
إن المجتمعات التي تبحث عن التخلص من جائحة الحروب الرمزية أو الحقيقية هي تلك التي تركز في قراءتها لمستقبلها على تأمل فترات السلام والبناء والعيش المشترك مع الآخر، وشيئاً فشيئاً انتقل العالم من كراهية كلاسيكية مباشرة إلى كراهية “رقمية”، فبقدر ما تعددت وسائل التواصل الاجتماعي تفككت المجتمعات، وبقدر ما كثر التواصل تعددت التفرقة ومعها تعددت التفاهة وتفككت الرموز الإيجابية.
اندبندنت