خيار الفراغ في لبنان والرهان على ما بعده


تحويل الصراع الوطني والسياسي إلى منحى طائفي وصفة لأزمة أعمق لا أحد يملك حلاً لها

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

“الأزمة التي لا حل لها ليست أزمة” كما كان يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز، لكن أطرافاً قوية في لبنان تتصرف على أساس أن الأزمة العميقة التي تكمل انهيار البلد هي الحل، لماذا؟ لسببين: أولهما أن “ستاتيكو” الأزمة مريح للطرف الذي يمارس التسلط من دون مراقبة ولا محاسبة، وثانيهما أن انهيار النظام باكتمال الأزمة هو فرصة لتركيب نظام آخر بموازين القوة الحالية ضمن ما يخدم المشروع الإقليمي الإيراني.

من هنا يبدو خيار “حزب الله” الأول هو الفراغ الدستوري، أما الخيار الثاني فإنه انتخاب رئيس عبر تكريس الهيمنة على رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة، وأما الحجة فإنها ربط مصير لبنان بدور “المقاومة الإسلامية” ومصلحتها التي لها الأولوية في كل شيء.

ذلك أن “الثنائي الشيعي” المؤلف من “حزب الله وحركة أمل” يصر على منع أي مرشح شيعي خارجه من الفوز بالنيابة، كما يصر على تكريس رئاسة البرلمان للرئيس نبيه بري الذي يتولاها منذ ثلث قرن. وحين تمكن “حزب الله” من إيصال حليفه في “تفاهم مارمخايل” زعيم “التيار الوطني الحر” الجنرال ميشال عون إلى القصر الجمهوري بعد أن فرض الشغور الرئاسي على مدى عامين ونصف عام، فإنه خرج من الحاجة إلى “التقية” وبدأ يلعب أوراقه مكشوفة، لا في مجال واحد بل في كل مجال تقريباً.

والمشهد ناطق بالنسبة إلى تنويع النشاطات والأهداف، من إكمال الهيمنة على رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان بالهيمنة على رئاسة الحكومة إلى استخدام الوسائل والألعاب القانونية والتهديد المباشر لمنع القضاء من إكمال التحقيق للكشف عن الحقيقة في المسؤولية عن جريمة العصر في تفجير مرفأ بيروت. ومن التصدي للحراك الثوري الشعبي عام 2019 المطالب بتغيير التركيبة السياسية الحاكمة إلى حماية أركان الفساد في النظام بداعي الحفاظ على الاستقرار ومنع أي تهديد للأمن القومي والأمان الاقتصادي، واتهام الثوار بأنهم “صيصان سفارات” والشيعة من بينهم بأنهم “شيعة سفارات”.

من إدارة اقتصاد خاص وإقامة مصرف مالي مركزي خاص والوجود في المرافق الشرعية والسيطرة على المعابر غير الشرعية إلى لعب دور إقليمي أسهم في مشكلة للبنان مع الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين، ومن تأسيس جيش أيديولوجي مذهبي كامل الأوصاف مرتبط بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومزود بعشرات آلاف الصواريخ على أساس التصدي لأي اعتداء إسرائيلي على لبنان إلى المشاركة في حرب سوريا وتحويل لبنان جبهة أمامية في استراتيجية “وحدة الساحات” ضمن “محور المقاومة” للدفاع عن طهران ومشروعها الإقليمي.

وكل شيء يوحي بأننا نشهد سياسات مرحلة “التمكين” بعد سنوات من ممارسة سياسة “تمسكن حتى تتمكن”، فلا مجال للتخلي عن الإمساك بكل السلطات. ولا رئيس بعد تجربة الجنرال ميشال عون وحمايته الشرعية للسلاح ونفوذ الميليشيا، إلا إذا كان من النوع الذي يكمل تجربة عون وعهده الذي قاد البلد إلى “جهنم”. وليس الإصرار على ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية الذي ترفضه الأحزاب المسيحية الأساسية الكبيرة سوى رهان على الشغور الرئاسي من أجل هدف أبعد، وما اتهام وزير المال السابق والمدير الإقليمي في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور مرشح التوافق بين القوى المسيحية مع انفتاح حلفائها السنة والدروز بأنه مرشح “تحد” سوى تعبير عن الحرص على إلغاء اللعبة الديمقراطية.

ولا شيء من دون قراءة في التحولات الداخلية والخارجية، قراءة “الثنائي الشيعي” تنطلق من تصور التحولات الجارية حاسمة في خدمة “المقاومة الإسلامية” في لبنان و”محور المقاومة بقيادة إيران في الشرق الأوسط الذي تسميه “غرب آسيا” وتعمل على شعار طرد أميركا منها. وقراءة خصومه تبدأ من تصور مختلف، فلا تفاهم في الداخل من دون تنازلات متبادلة، ولا مهرب من موازين المصالح إلى جانب موازين القوى. ولا اتفاق بين القوى الإقليمية برعاية دولية مثل الاتفاق السعودي – الإيراني بضمان الصين يمكن أن يأخذ فيه طرف واحد كل ما يريد ويحافظ على كل ما في يده تاركاً للطرف الآخر مجرد تخفيف التوتر.

ولا أحد ينكر ما في النظام اللبناني من نواقص، لكن الكل يجب أن يعرف، وإن لم يعترف بعض منهم، أن الممكن هو إكمال النواقص عبر التطبيق الحقيقي لاتفاق الطائف. فلا وارث للبنان، كما أكدت التجارب قديماً وحديثاً. وتحويل الصراع الوطني والسياسي إلى صراع يأخذ الطابع الطائفي هو وصفة لأزمة أعمق لا أحد يملك حلاً لها. وكفى دفع لبنان إلى الفراغ القاتل وسط معاناة اللبنانيين ثقل أزمات مالية واقتصادية واجتماعية خطرة من أجل أهداف داخلية وخارجية يبقى تحقيقها مهمة مستحيلة.

المقالة تعبر عن راي كاتبها

اندبندنت