الميزة الأكثر بروزاً للمشهد هي المنافسة المفتوحة لجميع الأطراف على النفوذ والسلطة والموارد
محمد خالد اليحيى كاتب وباحث سعودي
في كلمته الافتتاحية خلال قمة جامعة الدول العربية التي عقدت أخيراً في مدينة جدة السعودية الجمعة الماضي، رحب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالقادة العرب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ثم برئيس النظام السوري بشار الأسد الذي أعيد قبوله في الجامعة بعد 12 عاماً من القطيعة.
وفي حين أعيد قبول عميل روسيا في صفوف جامعة الدول العربية، منح خصم بوتين منبراً لعرض قضيته أمام العالم العربي. مرحباً بكم في الشرق الأوسط الجديد.
لقد تعرضت عودة سوريا للجامعة العربية خلال القمة العربية التي عقدت في جدة لانتقادات، باعتبارها حملة تقودها السعودية “لإعادة تأهيل” بشار الأسد، زعيم سوريا الممزقة الذي أشرف على قتل نصف مليون من مواطنيه وتشريد 11 مليوناً تحت غطاء جوي روسي وتوجيه وقيادة تكتيكية من قادة الحرس الثوري الإيراني وميليشياته على الأرض.
غير أن هؤلاء النقاد يخفقون في تقدير حقيقة النظام الذي يتشكل في المنطقة، في غياب المظلة الأمنية الأميركية الحامية التي قبلها الأصدقاء والأعداء كحقيقة من حقائق الطبيعة على مدى نصف القرن الماضي.
وسواء كان قادة أميركا وحكماء دافوس على صواب أو خطأ في الرهان على الاختفاء الوشيك للوقود الأحفوري كمورد إستراتيجي، فقد تلقت المنطقة الرسالة بصوت عال وواضح، انتهى الأمر. وبما أنه لا يمكن نقل الدول بسهولة مثل ناقلات النفط والسفن الحربية، فإن القادة الإقليميين لا يملكون خياراً سوى محاولة إيجاد طريقة للتعايش، حتى لو كان ذلك يعني “تناول العشاء” مع مجرمي الحرب.
من خلال استخدام القوة الغاشمة والدعم الذي لا يتزعزع من رعاته، روسيا والصين، تمكن بشار الأسد من الانتصار في حربه ضد شعبه، وتحقيق نصر إستراتيجي للمحور الروسي- الإيراني الذي سيسمح له برئاسة سوريا الممزقة والمحطمة إلى أجل غير مسمى. إن إعطاء سوريا مقعداً على الطاولة هو اعتراف بالواقع الذي صاغه الديكتاتور السوري بالقوة والقهر. كما أنه يعد انتصاراً لرعاته الذين سهلوا سلوكه الدموي.
من المعقول أن نتوقع أن يولي الرجال العرب الأقوياء المحتملون في المستقبل اهتماماً وثيقاً لهذه الدروس السيئة.
الرئيس فولوديمير زيلينسكي كان موجوداً أيضاً في جدة. إن وجود خصم روسي قوي ورمز للديمقراطية في المملكة لحضور قمة جامعة الدول العربية في الوقت نفسه الذي يظهر فيه بشار الأسد يوضح الجانب الآخر من الشرق الأوسط الجديد.
وفي حين ركزت المبادرات التي قادها حلفاء الولايات المتحدة بالماضي على الحفاظ على النظام الأمني الأميركي، فإن قمة جامعة الدول العربية هذه تلم شمل المنطقة التي لم يعد من الممكن تقسيمها بسهولة إلى معسكرات واضحة المعالم يحرسها رعاة القوى العظمى.
الميزة الأكثر بروزاً لهذا المشهد الجديد هي المنافسة على النفوذ والسلطة والموارد، منافسة مفتوحة لجميع الأطراف.
وفي حين أن المنافسة المفتوحة ليست في حد ذاتها أمراً سيئاً، فإن احتمال نشوء منطقة مفتوحة للجميع ينطوي على أخطار كبيرة، سواء بالنسبة إلى المصالح الأميركية أو الاستقرار الإقليمي. ومن دون تحالفات وقواعد واضحة، سيزداد خطر نشوب صراع مسلح.
في الوقت نفسه، تفتقر الولايات المتحدة إلى إستراتيجية متماسكة لإدارة مصالحها الكبيرة المتبقية في المنطقة، وحتى لو كان الهدف الأميركي على المدى الطويل هو ببساطة محو المنطقة من خرائط المخططين العسكريين والاقتصاديين الأميركيين، فإن المغادرة بطريقة عشوائية ومجزأة هي وصفة لزيادة الفوضى التي ستؤثر سلباً في مصالح واشنطن، وفي الوقت ذاته ستضر بالمنطقة على نحو من المرجح أن تكون له تداعيات عالمية، وليست محلية فقط.
على الجانب الآخر، استفادت بكين من فراغ السلطة الذي خلفته الولايات المتحدة، وكان آخره التوسط في اتفاق بين الرياض وطهران. العداوة بين هاتين العاصمتين تعود في الغالب لتصور إيران للسعودية كعميل للنظام الأميركي في الشرق الأوسط. وفي ظل غياب هذا النظام، لماذا يجب أن تكون هناك عداوة؟ صحيح أن الإيرانيين تراجعوا عن الاتفاقات مرات عدة في الماضي، لكن الضمانات الصينية قدمت مستوى جديداً من الثقة للسعوديين. وفي الوقت نفسه، من الواضح أن الصينيين يفتقرون إلى القدرة الأميركية على دعم التزاماتهم بالقوة.
إن إعادة السعودية العلاقات الدبلوماسية مع دمشق لا تعني أن الرياض تغض الطرف عن الجرائم المرتكبة في سوريا، والأمر ذاته ينسحب على تحالفها الآن مع طهران أو مع بكين. بدلاً من ذلك، تدرك السعودية أنه في غياب بنية أمنية متماسكة تدعمها الولايات المتحدة في المنطقة، فلا داعي من الناحية الإستراتيجية أن تتعامل مع أطراف إقليمية فاعلة باعتبارها أطرافاً منبوذة، أياً كانت.
وختاماً، يمكن القول إن حلفاء الولايات المتحدة لا يبتعدون عنها، بل يسعون إلى تحقيق مصالحهم الوطنية الخاصة. لا شيء يوضح الحقائق الجديدة في الشرق الأوسط أفضل من استضافة السعودية كلاً من فولوديمير زيلينسكي وبشار الأسد بالقاعة نفسها في جدة. إن فرص وأخطار المنطقة التي تترك لإدارة مشكلاتها ومنافساتها، من دون ضمانات وإرشادات القوى العظمى، لا يمكن أن تكون أكثر وضوحاً من الآن.
نقلاً عن موقع العربية نت