} سعادة مصطفى أرشيد*
قبل عقد ونيّف من الزمان وصل إلى الحكم في تركيا حزب العدالة والتنمية، وأخذ قادة تركيا الجدد بالظهور بشكل مغاير لما عُرف عن القادة الأتراك، وتمّ اختيار البروفيسور الجامعي الشاب أحمد داوود أوغلو ليعمل مستشاراً لشؤون السياسة الخارجية في الحكومة التركية ثم وزيراً للخارجية، كان أوغلو قد أصدر كتاباً لقيَ الاهتمام بعد أن تحوّل من شخصية أكاديمية إلى شخصية سياسية عنوانه العمق الاستراتيجي وموقع تركيا ودورها على الساحة الدولية.
عندما أصبح وزيراً للخارجية والمسؤول الأول عن دبلوماسيتها، أصبحت أفكار الكتاب ممكنة التحقيق ومصدر استيلاد مواقف وسياسات مبنية على المنطلقات العقائدية التركية الجديدة، والتي أخذت تنقلب بالكامل على تلك السياسات التي سادت طوال ثمانية عقود ونيّف من سيطرة الأتاتوركية على الدولة والمجتمع، والمتماهية بشكل ذيلي مع السياسات الغربية والمعادية لجوارها وبيئتها الإقليمية، كانت محصلة تلك السياسات (الأتاتوركية) أنها جعلت من تركيا دولة عميلة للغرب بنظر الكتلة الشرقية وحلف وارسو ومعادية لبيئتها برأي جوارها؛ وفي الوقت نفسه نظر الغرب إليها بمنطق وظيفي استخدامي فوقي، فهي بنظره دولة شرقية مهما حاولت أن تتشبّه بالغرب المتحضر، ولكنها لن تصلح أن تكون جزءاً منه إلا في جانب الخدمات العسكرية واللوجستية من خلال قبولها عضواً في حلف شمال الأطلسي، ولكن محظور عليها أن تكون جزءاً من أوروبا ومنظماتها الإقليمية.
أما سياسات أحمد داوود أوغلو فقد اعتمدت عناصر جديدة كثيرة. شاهدُنا في هذا المقال مبدأ تصفير المشاكل مع دول الجوار، ثم مبدأ أن يكون لتركيا تأثير إيجابي في الأقاليم المجاورة في أوروبا، حيث اليونان وألبانيا والبلقان وفي آسيا باتجاه إيران والأرمن وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ذات الشعوب التركية القومية، والأهمّ نحو الإقليم السوراقي ـ العربي.
وعلى جري عادة السياسة فما لبث الإخوان أن اختلفوا عندما اشتدّ عود رجب طيب أردوغان فانقلب على رفقاء دربه، أوغلو وعبد الله غول وغيرهم، والأهمّ أنه انقلب على تلك السياسة واعتمد سياسة 100% مشاكل، وأصبح الدور التركي في أقاليم الجوار دوراً سلبياً، كلّ ذلك اعتماداً على فائض القوة التي أنتجتها السياسات الحكيمة السابقة.
أسهمت السياسات الانقلابية لرجب طيب أردوغان على المبادئ التي سارت عليها الدبلوماسية التركية في عهدها الأول في تخريب كلّ ما كان قد تمّ إنجازه، فكان الدور التركي مؤذياً وتخريبياً في الأزمة السورية، ولم يطل الدولة السورية والأرض السورية فحسب، وإنما امتدّ وتشعب ليطال تهجير السوريين ومحاولة ضرب المجتمع السوري وتقسيمه والتأثير على ثقافته، وعلى الاقتصاد وعلى الدعم الحكومي الرسمي لعصابات قامت بتفكيك المصانع والمشاغل ونقلها إلى تركيا، وفي التحالف المالي مع العصابات الكردية التي تسرق النفط السوري وتبيعه للأتراك بأسعار متدنية وتذهب أثمانة لجيوب رؤساء العصابات في معظمها وما يتبقى للصرف على المسلحين المعادين للشرعية السورية.
لكن دوائر الدنيا تدور وكما يقول العجائز: لا يبقى على ما هو، إلا هو، وكلّ ما عدا ذلك فهو عرضة للتغيير في عالم سُنته التبدّل والتقلب. فتركيا ومعها الإقليم على موعد في أيار المقبل القريب مع موعد الاستحقاق الانتخابي لموقع الرئاسة التركي، وهو الاستحقاق الأصعب أمام رجب طيب أردوغان والذي أصبح جزء مهم من مصيره الانتخابي في أيدي دمشق، بعد أنّ ظن ظناً آثماً قبل سنوات أنّ مصير دمشق بين يديه، وأنّ موعد دخوله دمشق فاتحاً قد أصبح قريباً مبشراً القطريين والأميركان وربما الإسرائيليين بأنه سيؤمّ المصلّين في جامع بني أمية الكبير.
هكذا تبدو صورة ما يجري في الإقليم، فالأدوار الإيرانية والروسية والصينية تعمل بجدّ ومثابرة على تجسير الفجوة بين دمشق وأنقرة بما يعود بالنفع على البلدين، فيما آخرون يعملون على توسيعها وتعميقها، واشنطن بدعمها للعصابات الكردية التي تبدي جاهزية لتكون وقوداً للسياسات غير القومية والمعادية، ثم لمحاولة إظهار عصابات التكفير التي عادت لها وظيفة في هذه الظروف، وتل أبيب بضرباتها وعدوانها وبعملائها، وسابقاً بحلفائها من عرب التسويات والتطبيع والاستسلام.
عند الصين… قد نجد الخبر اليقين، فقد عملت الدبلوماسية الصينية بأناة وهدوء على نزع صواعق التوتر في الخليج بإنجازها المصالحة الإيرانية ـ السعودية، واستطاعت إبعاد الرياض عن واشنطن وإنْ بمقدار لا يزال يبدو ضئيلاً ولا ندري إلى أيّ حدّ سيصل، وهي تعمل على إنهاء الحرب العبثية بين صنعاء والرياض داعمة الدور العُماني، وأخيراً رأينا من تلك النتائج وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في الرياض، وإنْ هي إلا أيام وإذا بوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في دمشق حاملاً رسائل طيبة من الرياض وعاد حاملاً مثلها، ثم القرارات النفطية الأخيرة لشركة «أرامكو» السعودية التي أدهشت عالمي السياسة والاقتصاد، وأعادت الذاكرة لما جرى عقب حرب تشرين 1973.
قد يكون من المبكر الظنّ أن يكون ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد قرأ كتاب أحمد داوود أوغلو (العمق الاستراتيجي) أو التفاؤل بأنه قد آمن بنظرياته، وبأنّ مصلحة بلاده هي في جوارها وبيئتها لا في تقديم الخدمات لأعدائها، لكن بعض الظنّ إثم وبعض الظن ليس إثماً، وتفاءلوا بالخير فقد تجدونه…
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.
المقالة تعبر عن رأي كاتبها
البناء