قراءة – د. طلال الحربي
منذ توليه ولاية العهد قبل سبع سنوات، أصبح سمو الأمير محمد بن سلمان محط أنظار المحللين السياسيين ووسائل الإعلام العالمية المختلفة، وصار ينظر إليه كرائد للتغيير ليس في المملكة فحسب، بل وفي منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تأثيره في القضايا السياسية المصيرية على مستوى العالم، لقد كان اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لسمو الأمير محمد لتولي أمانة ولاية العهد لشاب يتمتع بموهبة فطرية في التأثير في المحيط الخاص والعام، ولديه قناعات ترسخت طوال سنوات نشأته بضرورة رمي حجر في المياه الراكدة وأن لا مستحيل مع الإيمان لأن “كلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الحمقى”، كما قال نابليون بونابرت.
كان على اقتناع بأن الكثير من العادات و”المتوارث” التي تحولت إلى ما يشبه العبادات والمقدسات بحاجة إلى تغيير في المفاهيم، وكان يدرك بأن المهمة صعبة وبأنه سوف يصطدم بقوى الجذب العكسي – المملكة كحاضنة للرسالة السماوية التي جاءت لاجتثاث الجاهلية من حياة الناس ونشر العدل والمساواة بينهم على قاعدة “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” بعيدًا عن اعتبارات العرق والثروة والجنس والانتماء الضيق.
وفي الحقيقة أن الناظر إلى المشهد العام قبل تولي الأمير محمد لولاية العهد، يعلم أن تغيير ذلك الواقع المتجذر كان يحتاج إلى تغيير لا يمكن أن يقدم عليه إلا إنسان شجاع يؤمن بحتمية التغيير مع الحفاظ على الأصالة واحترام حقوق الناس، لهذا قبل الأمير هذا التحدي، وطرح رؤيته التي نضجت لديه في سنوات تأمله في الواقع وسنوات الخبرة، التي استمدها من مدرسة الملك سلمان الذي عرف بحكمته وقيادته في جميع المناصب القيادية التي تولاها.
قبل خمس سنوات، وفي 27 سبتمبر 2018، بثت وكالة “رويترز” تقريرًا عن سمو الأمير، شارك فيه أربعة من كبار المراسلين: كيتي بول وتوم أرنولد ومروة رشاد وستيفن كالين، قالت فيه إن سمو الأمير كان لصيقًا بالشأن العام “منذ سنوات الصغر وكان يحضر بانتظام الاجتماعات مع والده الذي كان آنذاك أمير منطقة الرياض”، ونسبت إلى مستشار غربي القول، إنه كان فطنًا يفهم عقلية المواطن السعودي العادي، وفي حين كان أمراء آخرون يسافرون إلى الخارج ويرتدون الملابس الغربية، بقي الأمير محمد في السعودية، وحصل على شهادة جامعية في القانون، وظل يرتدي الزي الشعبي معتزًا بهويته الوطنية.
نزاهة الملك القائد انتقلت إلى الأمير، الذي تربّى في مدرسته، لذلك أقدم عند توليه ولاية العهد يوم 26 رمضان 1438هـ، الموافق 21 يونيو/حزيران 2017 على خطوة أذهلت الكثيرين وجعلت آخرين يحبسون أنفاسهم ويتحسسون رؤوسهم.
كان سموه يعرف أن كثيرين استغلوا ألقابهم ومناصبهم للتغول على المال العام، فلجأ إلى تطبيق قاعدة “من أين لك هذا؟” مستهدفًا بذلك المال الحرام والمنهوب، فكان لابدّ من محاسبة من تجرؤا على الكسب غير المشروع في غياب المساءلة والمحاسبة، وكان يعتبر ذلك خيانة لله والوطن والشعب، لهذا جاءت عملية التطهير في عام 2017 وشملت أفرادًا من الأسرة الحاكمة ووزراء ومجموعة من كبار رجال الأعمال، وجرى فيها استرداد 100 مليار دولار من الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة، بحسب تقرير النائب العام، من خلال تسويات قانونية حفظت للمتورطين حريتهم من دون المساس بكرامتهم.
حظيت حركة التطهير هذه باهتمام كبير من الأوساط الاقتصادية والسياسية في العالم، فقد كانت حربًا على الفساد وإشارة إلى إرادة قوية لا تعرف المهادنة أو التهاون على الرغم من حملة التشكيك والتضليل من جهات متضررة لا تتمنى الخير لهذا البلد، لكن الحملة كانت مبشرة لخطوات لاحقة وضعت المملكة مجددًا على خريطة الاهتمام العالمي.
كانت قضية حرية المرأة من القضايا التي تؤرق سموه، ومنها مسألة السماح للمرأة بقيادة السيارة في مجتمع ذكوري فرض الولاية والوصاية على نصف المجتمع وأخرجه من عملية البناء والنهوض، وهي وصاية لم يفرضها الشرع ولا القانون، فإذا كانت المرأة تركب راحلتها وتمتطي الخيل وتقاتل وتسافر منذ أكثر من 14 قرنًا، فلماذا تحرم من هذا الحق في القرن الحادي والعشرين، لهذا، كان السماح للمرأة بممارسة هذا الحق الإنساني الطبيعي وتحريرها من هذا القيد، خاصة وأن منظمات حقوق الإنسان في العالم والحركات النسوية والجندرية كانت تتخذ من هذه القضية ذريعة لمهاجمة المملكة.
أما القضية الشائكة الأخرى فكانت لمن يمارسون دور سلطات إنفاذ القانون باسم الدين، فكان لابدّ من تصحيح هذا الوضع من خلال التثقيف وزيادة نشر الوعي وإبراز الوجه السمح للدين الإسلامي مع الحفاظ على تقاليد المجتمع العربي الإسلامي وعاداته الأصيلة، فـ”الإسلام عقلاني وسهل، لكن هناك من يحاول اختطافه”.
كانت التفسيرات والاجتهادات الخاطئة من الإفرازات الخلافية للفكر الديني المتشدد بعد ترتيب الوضع الداخلي، تفرغ سمو ولي العهد لتحقيق رؤية المملكة 2030، لكن الجهات المجاهرة بعدائها للمملكة وتلك المتظاهرة بتحالفها وصداقتها معها نصبت فخاخًا كثيرة لإفشال تحقيق هذه الرؤية، وعلى الرغم من ذلك، نجح سمو الأمير محمد في تجاوز هذه الفخاخ، حيث عادت العلاقات مع قطر وتركيا إلى طبيعتها وتبادل الزيارات مع قادتها.
إلا أن النجاح الأكبر كان على الساحة اليمنية، فبدأت قيادة المملكة تهدئة الأوضاع على الجبهة، من خلال بدء حوار مع إيران وإعلان هدنة في اليمن.
وقد توّج هذا الحوار بإعادة العلاقات مع إيران برعاية صينية، والاتفاق على حل سلمي شامل للأزمة اليمنية، لقد كان قرار إعادة العلاقات مع إيران قرارًا سعوديًا سياديًا.
وكان موقف المملكة من الحرب في أوكرانيا وموقفها في مجموعة (أوبك+) بخفض إنتاج النفط قرارًا سياديًا آخر، وفي خطوة وضعت حدًا لأحلام إسرائيل في إقامة علاقات مع المملكة، استضافت المملكة قيادة حركة حماس في شهر رمضان بعد ست سنوات من الجفاء، في رسالة واضحة بأن اكتساب إسرائيل لـ”شرعية” احتلالها لفلسطين لا يمكن أن يتم إلا من خلال وحصول الفلسطينيين، على حقوقهم التاريخية المشروعة ودولتهم المستقلة.
ومن خلال ممارسة دور المملكة الطبيعي وحقها في إقامة علاقات مع الدول الكبرى، وعلى رأسها الصين، مد سمو ولي العهد يد الصداقة لمن يمدها بلطف، لكنه وجه لكمة قوية لليد المقبوضة التي تدّعي الصداقة.
وطوال هذه السنوات، نجح سموه في اختطاف الأضواء، وحظيت جولاته ومشاركته في المنتديات العالمية وقراراته الاقتصادية والسياسية بتغطية إعلامية غير مسبوقة، كما بدأ صنّاع القرار في العالم ينظرون إلى سموه نظرة تقدير وحذر، فقد نشرت صحيفة تايمز اليابان The Japan Times بحثًا مطولاً يوم Mar 24, 2023 مبنيًا على تقارير وكالتي AFP-JIJI الإخباريتين وصفت فيه سياسة سموه الأخيرة تجاه إيران بالتغيير الجذري ‘Sea change’ وهو تعبير اصطلاحي يشير إلى تغيير جوهري في المنظور، ووصفه محللون بأنه لاعب قوة براغماتي pragmatic power player وهو الشخص الذي يعرف أين هو وأين يريد الذهاب ولا يدع شيئًا يعترض طريقه في جعل رؤيته واقعًا وإذا كنت لا تساعده فمن الأفضل الابتعاد عن طريقه، ويقول عمر كريم الأستاذ في جامعة بيرمنغهام ” يُعدّ الاتفاق مع إيران تحولاً هائلاً في مقاربته السياسية” ما يشير إلى النضج والفهم الأكثر واقعية لسياسات القوى الاقليمية”، وضمن هذا الفهم جاءت الاتصالات مع النظام السوري لعودته إلى الجامعة العربية بعد الالتزام بتسوية سياسية للنزاع في بلاده، والهدف من وراء هذا التحول هو خفض التوترات والحروب بالوكالة في المنطقة من أجل التركيز على النمو الاقتصادي والإصلاحات الاجتماعية في الداخل، ومساعي المملكة في وقف الاقتتال في السودان، ونجحت في تأمين عمليات إجلاءالمواطنين السعوديين ورعايا دول أخرى واستحقت الثناء عليها.
ويقول أوليفييه دا لاج Olivier Da Lage، رئيس تحرير إذاعة فرنسا الدولية إن الأمير محمد مغيّر للعبة game changer على المستوى المحلي وسياسات غرب آسيا، وهو عبقري في التعامل مع وسائل الإعلام ويدرك تأثيرها وكيفية استخدامها بفعالية، ويقول روهان ليفيل ROHAN LEVEILLE في مقال نشرته مجلة جامعة براون Brown Political Review إنه يدرك أهمية الرياضة والترفيه في تعزيز الطاقات الايجابية عند الشباب ضمن رؤيته الكبرى للتغيير والارتقاء بسمعة المملكة على المستوى العالمي ولهذا استضافت المملكة بطولات ليف غولف LIV Golf وتسعى لاستضافة مباريات كأس العالم لعام 2030، ويقول نيل كويليام Neil Quilliam، الزميل في المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية – تشاتام هاوس- “يريد السعوديون أن يلعبوا دورًا دبلوماسيًا أكبر ويهدفون إلى الاستثمار لبناء هذا النفوذ في المنطقة والعالم”.
أما مايكل جانسين، المستشار للجنة الأوروبية للأقاليم European Committee of the Regions، فوصف ولي العهد بـ”الأمير المحارب” و”باني التحالفات” بعد توثيق علاقاته مع الصين، كما قد يعيد طرح فكرة إحياء معسكر عدم الانحياز في لعبة التنافس بين الدول العظمى، فبدلاً من صنع التحالفات، فإن محمد بن سلمان يهدف إلى هدم الوضع القائم والقضاء على سياسات المحاور مستغلاً قوة المملكة الاقتصادية ومهارته القيادية.
جريدة الرياض