عربي بوست مراد حاج
لم يكن جورج واشنطن أول رئيسٍ أمريكي وحسب، فهو أيضاً القائد العام للقوات المسلحة للجيش القاري خلال الحرب الأمريكية الثورية، وأحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن قاد التمرّد الذي انتهى بإعلان انفصال بلاده عن بريطانيا عام 1783.
أُطلق اسمه على العاصمة السياسية للبلاد، وعلى العديد من المطارات والجامعات، كما طُبعت صورته على العملة الوطنية “الدولار”، ويُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه بطل قومي حتى لُقّب بـ”أبو الحرية”.
لكن إلى جانب كلّ ذلك، لجورج واشنطن تاريخ أسود وطويل يضعه في مكانة العنصريين. فقد استعبد الناس طيلة حياته، منذ أن كان في الـ11 من عمره، وكان نشطاً في تجارة الرق، كما تحايل على القانون حتى لا يمنح الحرية للمستعبدين.
قصصٌ كثيرة انتشرت عن تعامله مع العبيد، وكيف كان يشتريهم ومن ثم يبيعهم، وبعض الحكايات تروي كيف حاول بعضهم الهرب من مزرعته في “ماونت فيرنون”.
من هو جورج واشنطن وكيف أصبح رئيساً للولايات المتحدة؟
وُلد جورج واشنطن يوم 22 فبراير/شباط 1732 في ولاية فيرجينيا، من والدَين أصولهما إنجليزية، ويملكان مزارع كثيرة يعمل فيها مئات العبيد. كانت العائلة ثرية وتمتلك مزرعتين متخصصتين في إنتاج التبغ، الأولى في “ماونت فيرنون”، والأخرى في “فيري فيرم”.
ووفقاً لموقع Histoire Et Civilisation الفرنسي، فإن واشنطن نشأ وتلقى تعليمه الابتدائي في هاتين المزرعتين، لكن وفاة والده وهو لا يزال صغيراً منعته من مزاولة الدراسات العليا، مثل أشقائه الكبار.
فبعد توقفه عن الدراسة باكراً، لازم أخاه غير الشقيق لورنس، الذي أقحمه معه في نادي الأثرياء وكبار مالكي الأراضي في فيرجينيا، كما تلقى المبادئ الأولى للأمور العسكرية.
وفي تقرير نشرته صحيفة Washington Post الأمريكية عام 2019، تقول كاتبته إن جورج واشنطن امتلك عبيداً قبل أن يتخذ قراراً بذلك.
“ورث 10 مستعبدين في سنّ الحادية عشرة عندما توفي والده، لكنه اشترى العشرات حين أصبح بالغاً. وعندما تزوج مارثا كوستيس في أواخر العشرينيات من عمره، أحضرت معها المزيد من العبيد إلى ماونت فيرنون”.
انضمّ جورج واشنطن إلى الكتيبة العسكرية لفيرجينيا في العشرين من عمره، وأُرسل إلى أوهايو، حيث حارب لـ5 سنوات ضمن القوات البريطانية في معاركها ضدّ نظيرتها الفرنسية. فأسهم في سيطرة بريطانيا المُطلقة على المناطق التي احتلتها فرنسا في أمريكا الشمالية.
وبعد عودته إلى الحياة المدنية، تزوج سنة 1759 من أرملةٍ ثرية تُدعى مارثا، فتفرغ لتسيير مزارعه الكبرى ومتابعة مستجدات الحياة العامة للبلاد. فكان مُواظباً على حضور اجتماعات الطبقة البرجوازية في الجمعية التشريعية لفيرجينيا، التي أصبح عضواً فيها بعد عودته من الحرب.
كان من أشدّ المعارضين للضرائب الجديدة التي فرضتها بريطانيا في تلك الفترة، وأنهكت كاهل سكان مستعمراتها الأمريكية. فتم انتخابه مندوباً لفرجينيا للمشاركة في اجتماع الكونغرس القاري الأول، الذي انعقد في فيلاديلفيا عام 1774، بمشاركة 56 مندوباً من 12 مستعمرة.
وقد كان اجتماع الكونغرس القاري الأول بمثابة بداية التنسيق بين المستعمرات الأمريكية واتحادها، للقيام بثورة شاملة ضدّ التاج البريطاني، بعدما كانت ولاية ماساتشوستس قد بدأت تمرّدها قبل انعقاد الاجتماع بأيامٍ قليلة.
في 19 أبريل/نيسان 1775، اندلعت الثورة الأمريكية لما رفضت ميليشيات ماساشوستس تسليم سلاحها للسلطات البريطانية، فجرت معركتا “ليكسينغتون” و”كونكورد” اللتان بدأتا بتفوق الجيش الملكي البريطاني قبل أن تحسمها الميليشيات لصالحها.
وعندما انعقد الكونغرس القاري الثاني في فيلادلفيا عام 1775، عرض المندوبون على جورج واشنطن قيادة الجيش المكلف بالدفاع عن مصالح المستعمرين، وهي المهمة التي قبلها من دون تردد. فأصبح القائد الأعلى لجيش الثوار، والفاعل الرئيسي في حرب الاستقلال الأمريكية التي استمرت 8 سنوات.
رُقي من بعدها إلى رتبة جنرال، وبفعل منصبه الجديد ركّز جهوده على تكوين جيشٍ منظم وتسليحه بشكلٍ جيد، كما تحالف مع أعداء الأمس -الفرنسيين- فانتصرت قواته في معارك وانهزمت في أخرى. ولكنه حسم الأمور في معركة يوركتاون، التي جرت من سبتمبر/أيلول إلى أكتوبر/تشرين الأول 1781.
فقد حاصرت القوات الأمريكية، في تلك المعركة، الجيش البريطاني، ثم انضمت إليها الإمدادات الفرنسية البرية والبحرية، فأحكمت الحصار. مما اضطر بريطانيا لإعلان الاستسلام، وقبول المفاوضات مع مستعمراتها والاعتراف باستقلالها.
اعترفت مملكة بريطانيا العُظمى رسمياً باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، يوم 3 سبتمبر/أيلول 1783، تاريخ التوقيع على معاهدة باريس بين ممثلي المستعمرات الأمريكية الـ13 وممثلي بريطانيا.
وقدّم جورج واشنطن استقالته من منصبه للمجلس القاري، مباشرةً بعد بلوغه خبر التوقيع على المعاهدة، مُعرباً عن عدم استعداده لقبول أي عرضٍ لشغل أي منصب ضمن الدولة الجديدة.
ولكن ابتعاده عن الحياة السياسية لم يدُم طويلاً، فقد شارك عام 1787 في “اجتماع فيلادلفيا” لمراجعة وثائق الكونفدرالية، وقد كان بمثابة أول دستور للدولة الفتية، وتمّت المصادقة عليه من قِبل المستعمرات الـ13 في أوائل عام 1781.
في الاجتماع، اتفق المشاركون على تعيين جورج واشنطن رئيساً لأشغال الجمعية العمومية التي أسفرت، بعد عدة أشهر، عن صدور أول دستور رسمي للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم انتخاب واشنطن بالإجماع، في مارس/آذار 1789، أول رئيس للجمهورية الجديدة.
حَكَمَ جورج واشنطن الولايات المتحدة على مدى عهدين رئاسيين، من العام 1789 إلى 1797، فكرّس وقته لإعادة تنظيم البلد الذي دمرته الحرب وأنهكته، كما قام بإصلاحاتٍ ضريبية لم تُرضِ الجميع، ودخل في حروبٍ مع القبائل الهندية، في سعيه للتوسع نحو الغرب.
لكنه فضّل الحياد في الحرب التي اندلعت عام 1793 بين فرنسا وبريطانيا العظمى، وهو الحياد الذي سمح له -في سنة 1794- بالتوقيع على “اتفاقية لندن” مع القوة الاستعمارية السابقة، والتي تمّ من خلالها تسوية كل المشاكل العالقة منذ الاستقلال.
غادر جورج واشنطن كرسي الرئاسة في العام 1797، وعاد للعيش في مزرعته “مونت فيرون”، لكن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، جون أدامز، كلّفه بقيادة جيوش البلاد التي كانت على وشك الدخول في حربٍ مع فرنسا.
لكن الأمور هدأت وعاد واشنطن إلى عمله كمزارعٍ كبير، قبل أن يموت في ديسمبر/كانون الثاني 1799، نتيجة التهاب حاد في الحنجرة، ويُدفن في مقبرة العائلة بـ”ماونت فيرنون”.
خلال جنازته، قيلت كلمات تأبينية تضمنت عبارات مثل: “الأول في الحرب، الأول في السلم، والأول في قلوب مواطنيه”.
وفي العام 1800، صدر كتابٌ بعنوان The Life of Washington– لمؤلفه القس ميسون ويمس- الذي صوّر جورج واشنطن على أنه رجل خارق، وفارس لا يعرف الخوف ولا اللوم.
تاريخ واشنطن الطويل مع الاستعباد
وقد جعل ذلك الكتاب من جورج واشنطن أسطورة بقيت راسخة في الذاكرة الجماعية للأمريكيين، الذين كانوا ينظرون إليه على أنه هو المؤسس الأول البلاد، والمدافع الأول عن الحرية والعدالة، في حين أنّ شخصيته الحقيقية لم تكن كذلك بتاتاً، والدليل على ذلك تاريخه الأسود مع العبودية.
وقد حاول موقع متحف “مونت فيرون” الدفاع عن جورج واشنطن في الاتهامات التي طالت تاريخه مع الاستعباد، مشدداً على أن الرئيس الأول للولايات المتحدة كان يعامل عبيده بلطف، ويترك لهم حرية المعتقد، وأن عدداً كبيراً منهم لم يكن ملكاً له، بل لزوجته.
وقد أشار الموقع إلى أن العقوبات التي كان يطبّقها عليهم لم تكن قاسية، مقارنةً بتلك التي كان ينتهجها المُلاك الآخرون، وأنه ترك وصية قبل وفاته يطالب فيها بتحريرهم تلقائياً بعد وفاة زوجته مارثا.
لكن الواقع يُشير إلى أنه وخلال حياته، اعتمد واشنطن على قوةٍ عاملة متنوعة من العبيد. فبعد أن ورث العبيد من والده، اشترى في بداية شبابه 8 أشخاص، وصار العدد يتزايد مع مرور السنوات.
كان يشتري الرجال والنساء، من دون أن يوفر الأطفال حتى، وفي العام 1774، بلغ عدد العمال المستعبدين في مزرعته بـ”ماونت فيرنون” 119 شخصاً. وعند وفاته، كان يعيش في المزرعة 317 عبداً.
استغلّ جورج واشنطن عدداً كبيراً من العبيد طيلة 56 سنة من حياته، قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وخلال فترة توليه الرئاسة، ومن بعدها أيضاً. وقد لاحظ المؤرخون تناقضاً في تعامله مع قضية تجارة الرق في بلاده.
فقد لفتت صحيفة Liberation الفرنسية في هذا الشأن إلى أن جورج واشنطن كان قد طالب- في وصيته- بتحرير العبيد بعد وفاة زوجته، في حين أنه أظهر سلوكاً متناقضاً مع هذا الطلب.
فوفقاً لقانون ولاية بنسيلفانيا، فإن العبد كان يُعتبر حراً بشكلٍ تلقائي في حال بقيَ أكثر من 6 أشهر برفقة “سيّده”. لكن واشنطن تحايل على القانون، وكان يُجبر عبيده على عبور حدود بنسلفانيا، ثم العودة إليها، من أجل إعادة احتساب مدة الإقامة من الصفر.
وتوجد قصتان شهيرتان تفضحان معاملة جورج واشنطن السيئة لعبيده، واحدة قبل توليه الرئاسة، وأخرى من بعدها.
هاري.. “العبد” الذي تمرّد على واشنطن
جورج واشنطن وزوجته مارثا كانا يملكان نحو 200 عبد في بداية الثورة الأمريكية، وقد ارتفع العدد مع مرور السنوات حتى أصبح 317 عند وفاته. ووفقاً لموقع The African Americans، فإن واشنطن لم يمنح الحرية في حياته سوى لرجلٍ واحد فقط، وهو “خادمه” الخاص ويليام بيلي.
لكن رجلاً آخر، يُدعى هاري، أصرّ على نيل حريته من “سيّده” جورج واشنطن، وبحسب الموقع ذاته، فإن هذا الإصرار يُلمح بأن واشنطن لم يكن ذلك السيد الطيب الذي يُحسن معاملة عبيده، مثلما أراد البعض تصويره.
اختُطف هاري شاباً من بلده في غرب إفريقيا (غامبيا حالياً)، ونُقل مباشرةً إلى الولايات المتحدة، حيث اشتراه أحدهم في البداية، قبل أن يشتريه جورج واشنطن ويُلحقه بالعمل في مزرعة “ماونت فيرنون”.
من المؤكد أن هاري لم يكن سعيداً في “مونت فيرنون”. فقد هرب للمرة الأولى في العام 1771، لكن أُلقيَ القبض عليه بعد بضعة أسابيع وأُعيد إلى واشنطن، الذي كان قد دفع جنيهاً واحداً و16 شلناً لنشر إعلان البحث عن “ملكتيه”.
لم يفشل هاري في بحثه عن الحرية، فقد أتيحت له فرصة ثانية للهرب في السنوات الأولى للثورة الأمريكية، حين أعلن حاكم مستعمرة فيرجينيا عن وعده بتحرير العبيد المستعدين لحمل السلاح تحت راية التاج البريطاني، لمحاربة الثوار الأمريكيين.
لم يكن جورج واشنطن في “ماونت فيرنون” خلال الثورة الأمريكية، فاستغلّ هاري نداء الحاكم البريطاني لفيرجينيا، وهرب في العام 1776 للالتحاق بالكتيبة المشكلة فقط من الجنود السود والمسماة The Black Pioneers.
ترقى فيما بعد إلى رتبة عريف، وشارك في الهجوم على ولاية كارولينا الجنوبية، وفي حصار تشارلستون عام 1780، الذي شهد انتصاراً كبيراً للقوات البريطانية.
حتى شهر أبريل/نيسان 1781، نجح 18 عبداً في الهروب من مزرعة “مونت فيرون”، وقد تمكن جورج واشنطن من استعادة 7 منهم، ولم يكن هاري من بينهم.
لكنه كان ضمن مجموعة العبيد الذين وفت بريطانيا بوعدها تجاههم، وحررتهم، وأرسلتهم بعد الحرب إلى مقاطعة “نوفا سكوتيا” في كندا، التي كانت لا تزال مستعمرة بريطانية.
وعلى غرار معظم العبيد المُحررين، لم يتأقلم هاري مع حياته الجديدة في “نوفا سكوتيا” بسبب الطقس القاسي والأراضي الصخرية التي مُنحت له لزراعتها. فرحل برفقة زوجته إلى سيراليون في غرب إفريقيا عام 1792، ليعيش في أول مستعمرة من العبيد المُحررين بإفريقيا.
تواصل تمرد هاري على الظلم، فقد شارك سنة 1800 في ثورة ضدّ السلطة البريطانية بسيراليون، بسبب الضرائب المفروضة على المزارعين. فحوكم ونُفيَ إلى مستعمرة أخرى قريبة، حيث عاش بقية حياته حراً حتى وفاته وهو في الـ60 من عمره.
أونا جادج.. “العبدة” التي تحدّت مارثا كوستيس
كانت أونا جادج ملكاً لزوجة جورج واشنطن، مارثا كوستيس، وخادمتها الخاصة منذ أن كانت تبلغ من العمر 10 سنوات.
ولما أصبح جورج واشنطن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية في العام 1789، انتقل للعيش في المقر التنفيذي للبلاد بنيويورك ثم فيلادلفيا، وانتقلت معه زوجته مع 8 من العبيد، ومن ضمنهم أونا جادج التي كانت حينها في الـ15 من عمرها.
لم تفكر أونا جادج في الهرب من المقر الرئاسي؛ لكن بعدما علمت بقرب إعادتها إلى مزرعة “ماونت فيرنون” في فيرجينيا، ومنحها إلى حفيدة جورج واشنطن، قررت الهرب.
في مقابلةٍ أُجرِيَت معها سنة 1845، قالت أونا جادج: “بينما كانوا يحزمون أمتعتهم للذهاب إلى فيرجينيا، كنتُ أحزم أمتعتي أيضاً، من دون أن أعرف إلى أين. كنتُ أعرف أنني إذا عدت إلى فيرجينيا، فلن أحصل على حريتي أبداً”.
وأضافت: “كان لديّ بعض الأصدقاء المُلوَّنين في فيلادلفيا، وقد حملت أغراضي إلى هناك مسبقاً، وغادرتُ منزل واشنطن بينما كانوا يتناولون العشاء”.
حصلت جادج على تذكرةٍ لسفينةٍ شراعية متجهة إلى بورتسموث في ولاية نيوهامبشير، أين استقرت وتزوجت من البحار جاك ستاينز وأنجبت ثلاثة أطفال.
وقد أجرت أونا جادج لاحقاً سلسلة من المقابلات الصحفية، وذكرت من خلالها أنّ عائلة واشنطن فرضت عقوباتٍ قاسية على العبيد المتمردين، وحاولت الالتفاف على قانون الإلغاء التدريجي عام 1780، عن طريق نقل العبيد من وإلى الولاية كلَّ ستة أشهر.
من جهتها، بذلت عائلة واشنطن محاولاتٍ عدة لاستعادة جادج، ويُزعَم أن جورج واشنطن نفسه أرسل رجلاً يُدعَى باسيت لإقناعها- بالقوة إذا لزم الأمر- بالعودة إلى “مونت فيرنون” مع طفلها الرضيع.
لكنّها قاومت محاولات باسيت لإجبارها على العودة إلى العبودية، فتحدّته وتحدّت الرئيس الأمريكي قائلة: “أنا حرةٌ الآن، واخترت أن أبقى كذلك”.
ومن المؤكد أنّ قصتي هاري وأونا جادج، هما نموذجان فقط لحكايات مثيرة أخرى عاشها العبيد مع عائلة جورج واشنطن أو مع مُلاك آخرين، واللتين تفضحان نفاق السياسيين الأمريكيين والعديد من المؤرخين اللذين عاصروهم.