قبل 20 عاماً غزت الولايات المتحدة العراق، تحت ذرائع كاذبة تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، وأطاحت بنظام صدام حسين، فكيف لعبت الصحافة الغربية دور البطولة في تضليل الرأي العام؟ وهل كان هناك من سعوا لكشف الحقيقة قبل الغزو؟
كان مجلس الأمن الدولي قد أصدر القرار رقم 687، الذي يأمر العراق بتدمير جميع أسلحة الدمار الشامل، وهو مصطلح يُستخدم لوصف الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية والصواريخ الباليستية طويلة المدى، عقاباً على غزو الكويت، وفي أعقاب تحريرها وطرد القوات العراقية.
وفي عام 1998، علق نظام صدام حسين في العراق تعاونه مع مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة، وردت الولايات المتحدة وبريطانيا بشن ضربات جوية على العراق، لكن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول من عام 2001، التي شنتها القاعدة على مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاغون في واشنطن، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش في وضع خطط لغزو العراق.
أكاذيب أمريكية روّجت لها الصحافة
ومنذ أن قرر بوش وإدارته، خصوصاً وزير الدفاع الأمريكي الراحل دونالد رامسفيلد، الإقدام على غزو العراق، بدأوا في التمهيد لجريمتهم من خلال تهيئة الرأي العام الأمريكي والعالمي. فخلال الأشهر التي سبقت الغزو، غرقت وسائل الإعلام الأمريكية في التقارير الكاذبة، التي تربط اسم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بأسلحة الدمار الشامل.
فزعم بوش ومسؤولوه أن صدام حسين كان يواصل تخزين وتصنيع أسلحة الدمار الشامل، وأن العراق جزء من “محور الشر” الدولي، إلى جانب إيران وكوريا الشمالية. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2002، أجاز الكونغرس الأمريكي استخدام القوة العسكرية ضد العراق.
الدكتورة ليزلي فينجاموري ، مديرة برنامج الولايات المتحدة والأمريكتين في تشاتام هاوس، وهي مؤسسة فكرية للشؤون الخارجية في لندن، قالت لهيئة الإذاعة البريطانية BBC: “إن الكثيرين في واشنطن اعتقدوا أن هناك أدلة مهمة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وأنه يمثل تهديداً حقيقياً”.
وفي فبراير/شباط من عام 2003، طلب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، كولن باول، من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إعطاء الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكري ضد العراق، قائلاً إنه ينتهك قرارات سابقة لمجلس الأمن، بسبب امتلاكه برنامج أسلحة دمار شامل، حسب زعمه.
لكن العرض البصري الزائف الذي قدّمه باول لم يُقنع أعضاء المجلس الأممي، حيث أراد معظم الأعضاء أن يقوم مفتشو أسلحة من الأمم المتحدة وهيئة الطاقة الدولية- الذين ذهبوا إلى العراق في عام 2002- بالمزيد من العمل هناك، للعثور على أدلة عن أسلحة الدمار الشامل، لكن الولايات المتحدة قالت إنها لن تنتظر تقرير المفتشين، وشكّلت “تحالف الراغبين” ضد العراق.
في تلك المرحلة كانت الغالبية العظمى من المؤسسات الإعلامية الأمريكية والغربية قد نشرت وبكثافة المزاعم والأكاذيب التي روّجتها إدارة جورج بوش، دون أي تحقيق، وهو الأمر الذي انطبق على بقية تبريرات إدارة بوش لغزو العراق، لكن الاستثناء جاء من شركة صحفية واحدة.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً حول جهود هذه الشركة، Knight Ridder نايت ريدر، التي تم توثيقها في فيلم وثائقي تزامناً مع مرور 20 عاماً على كارثة الغزو الأمريكي للعراق، والتي ما زالت المعاناة بسببها مستمرة حتى اليوم.
ما قصة هذا الفريق الصحفي الأمريكي؟
نشر فريق واشنطن الخاص بـKnight Ridder عشرات المقالات في مختلف الصحف. وKnight Ridder هي شركة إعلامية اندمجت مع McClatchy عام 2006. وانتقدت تلك المقالات المعلومات الاستخباراتية التي كانت وسائل الإعلام الأمريكية الرائجة تستشهد بها خلال تلك الفترة.
لكن تقاريرهم لم تنجح في استمالة الرأي العام ضد غزو العراق. واليوم، وبعد مضي 20 عاماً، أصبحت تلك المجموعة من المراسلين والمحررين موضوعاً للفيلم الوثائقي الهوليوودي Shock and Awe (الصدمة والرعب)، من إخراج روب راينر. ويروي هذا الفيلم الوثائقي قصة تغطية Knight Ridder للغزو.
وقال جوناثان لانداي، أحد المراسلين الذين قادوا تغطية Knight Ridder للعراق، لموقع ميدل إيست آي: “لا أريد القول إن (تقاريرنا) منحتني الشعور بالرضا، لم يحدث ذلك، لأننا غزونا العراق رغم كل شيء، وتكبدنا تكلفة مهولةً في الأرواح والأموال، ولا نزال ندفع الثمن حتى اليوم، كما نواصل دفع ثمن تداعيات ذلك الغزو”.
بينما قال وارين ستروبل، مراسل Knight Ridder الآخر، الذي قاد تغطية العراق: “ليس إيقاف الحروب أو إشعالها من مهام وظيفتنا، ولسنا مسؤولين عن تحديد السياسة الخارجية الأمريكية، لكنني سأشعر بخيبة الأمل للأبد لأن تقاريرنا لم تُثر جدلاً نقدياً حقيقياً داخل الكونغرس”.
قاد جون والكوت، وجوناثان لانداي، ووارين ستروبل، وجو غالواي (الذي توفي في أغسطس/آب 2021)، تغطية Knight Ridder خلال الفترة السابقة لحرب العراق.
وقد خدم والكوت كمحرر أخبار في واشنطن، ثم أصبح مدير مكتب واشنطن لاحقاً بين عامي 1999 و2006. وقال إن Knight Ridder كانت لها قاعدة قراء قوية في العديد من البلدات والمدن الأمريكية التي تُعتبر عسكرية.
لهذا يُمكن تلخيص نظرتهم للتغطية الإخبارية للحرب في جملة صرح بها والكوت، ضمن أحداث فيلم Shock and Awe. حيث قالت شخصية والكوت ضمن أحداث الوثائقي: “لا نكتب من أجل الناس الذين يرسلون أبناء الآخرين إلى الحرب، بل نكتب من أجل الناس الذين يجري إرسال أبنائهم إلى الحرب”.
وذكر والكوت وستروبل ولانداي، أن الفيلم الوثائقي Shock and Awe مبنيٌّ على محادثات حقيقية جرت داخل غرفة الأخبار. وكشفت تغطيتهم الثغرات في المعلومات الاستخباراتية الأمريكية ضد الزعيم العراقي آنذاك صدام حسين، وذلك منذ عام 2001.
حيث قال ستروبل: “بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول بفترة وجيزة، اكتشفتُ أن إدارة بوش لم تكن تدرس غزو أفغانستان فقط، بل تدرس الخيارات العسكرية والدبلوماسية فيما يتعلق بالعراق. وحدث ذلك قبل وقتٍ طويل من بدئهم في طرح قضية الحرب، لكن مجرد حقيقة أنهم يفكرون في العراق كهدف محتمل لم تكن منطقية بالنسبة لي”.
ويرى والكوت أن فريقه تميّز عن غيره من الفرق، لأن مراسليه كانوا يتمتعون بشبكة مصادر موسعة، تشمل المستويات المنخفضة والمتوسطة من الجيش الأمريكي وأجهزة الاستخبارات. وأوضح والكوت أن تلك المصادر ترجع إلى أيام حرب فيتنام.
ولم يعتمد لانداي وستروبل وغالواي على خط الحديث الرسمي الذي روّج له كبار المسؤولين الأمريكيين، كما فعلت الصحف الأخرى آنذاك، بل تمكن المراسلون من الحديث إلى المسؤولين الذين كانوا بمعزل أكبر عن سياسات الأمن القومي.
وأفاد والكوت قائلاً: “كثيراً ما تكون هناك علاقة عكسية بين قيمة المصدر وبين رتبته، وليست علاقةً طردية. فمن المفهوم أن المصادر تزداد تسييساً كلما ارتفعت رتبتها”.
كشف أكاذيب المعلومات الاستخباراتية
بين عامي 2001 و2004، نشر الفريق أكثر من 80 خبراً مرتبطاً بالمعلومات الاستخباراتية الكاذبة حول العراق. ولا تزال تلك المقالات متاحةً عبر منصة McClatchy الأمريكية اليوم.
وتضمنت تلك التقارير كشف مزاعم أنابيب الألومنيوم الاستخباراتية الكاذبة، التي شهدت تصريح إدارة بوش بأن صدام يشتري آلاف أنابيب الألومنيوم من أجل إنشاء أجهزة طرد مركزي، وتصنيع سلاح نووي بنهاية المطاف.
وكتب لانداي خبراً استشهد فيه بتقرير لوكالة الاستخبارات المركزية، ينفي تلك المزاعم، ويقول إن أنابيب الألومنيوم كانت مخصصةً على الأرجح لصنع الأسلحة التقليدية، وليس القنابل النووية.
ويقول لانداي إن لديه العديد من الأخبار المفضلة في تلك الفترة، وذكر منها الخبر الذي كشف كيف نقل المؤتمر الوطني العراقي تقاريره ومعلوماته الاستخباراتية الكاذبة، وقدمها إلى العديد من الصحف الغربية.
وشملت تلك التقارير ما نشرته صحيفة New York Times الأمريكية آنذاك، بناءً على مقابلةٍ مع منشق عراقي زعم زيارته لـ20 من المواقع العراقية التي لها علاقة ببرنامج الأسلحة البيولوجية، وأضاف أن هناك مختبرات لتلك الأسلحة أسفل موقعين رئاسيين في مناطق سكنية.
وتبيّن لاحقاً أن ذلك المنشق كان مُدَّرباً ليقول تلك الأشياء، كما تلقَّى تدريباً لاجتياز اختبار كشف الكذب.
وقال لانداي عن المعلومات التي تلقاها كل من المسؤولين ووسائل الإعلام الأمريكية من جانب المؤتمر الوطني العراقي: “لا يمكنني وصفها بالمعلومات الاستخباراتية، لأنها ليست استخباراتية. وقد جرى تسريب تلك المعلومات عن عمد إلى صحيفة New York Times، وغيرها من المؤسسات الإعلامية، بواسطة إدارةٍ كانت في أمسّ الحاجة إلى كسب تأييد العامة للغزو”.
وذكر ستروبل أن أحد تقاريره المفضلة كان خبراً أعده مع والكوت، في فبراير/شباط عام 2002. حيث استشهد فيه بتصريحات عدة مسؤولين قالوا إن بوش قرر “أنه يجب على صدام الرحيل”.
وبنهاية عام 2002 فقط، كان الفريق قد نشر أكثر من 10 أخبار، لنقض المعلومات الاستخباراتية الكاذبة التي كانت تُستخدم لتبرير الحرب.
وعلى الرغم من إجراء أبحاث جيدة ومكثفة لتقديم أخبارهم، التي كانت مختلفةً عما تنشره التغطية الإعلامية الرائجة، لكنهم عانوا ليقرأ الجمهور أخبارهم في بعض الأحيان.
حيث رفضت بعض صحفهم نشر تلك الأخبار، واستشهدت بأن تلك المعلومات لم ترد في New York Times أو Washington Post.
لكن الأيام أثبتت أن New York Times كانت على خطأ، وفي 26 مايو/أيار عام 2004، نشرت الصفحة الأولى ملاحظةً من المحررين، وسردت خلالها تفاصيل عدة أخبار “لم تكن قويةً كما هو مفترض”.
غزو العراق.. عندما تخدع الصحافة الرأي العام
وصف ستروبل ولانداي تلك الفترة بأنها كانت “فترة وحدةٍ لا تُصدق”. وأوضح ستروبل: “نرغب كصحفيين في أن نحتل الواجهة من خلال سبق صحفي، أو خبر، أو زاوية جديدة لتغطية خبر ما، لكنك تود أيضاً أن تنظر خلفك لتجد الآخرين يتسابقون على اللحاق بك، وقد نظرنا خلفنا، ولكننا لم نعثر على أحد”.
ولم تكن هناك الكثير من الأصوات الناقدة للحرب داخل واشنطن آنذاك، بينما وجدت العديد من شخصيات وسائل الإعلام الرائجة أنها أصبحت عاطلةً عن العمل، بعد انتقادها للحرب بالطبع.
ومع ذلك كانت هناك بعض الشخصيات التي دعمت عملهم وشجعتهم داخل الإدارة، وفي الأوساط الإعلامية، لكنهم فعلوا ذلك في السر.
أثناء جلوسه داخل مركز إدوارد دي بان، في جامعة جورجتاون بواشنطن، قال والكوت إنه لا يندم على الكثير من الأشياء في تغطيته للفترة التي سبقت الحرب.
وبعيداً عن ملاحظة محرري New York Times المنشورة في 2004، لم تقدم وسائل الإعلام الأمريكية الكثير من الاعتذارات العلنية عن تغطيتها خلال الفترة المؤدية لغزو العراق.
وذكر والكوت أن الصحف التابعة لـKnight Ridder لم تصدر أي اعتذارات هي الأخرى أيضاً، موضحاً أنه لا يتوقع منها فعل ذلك في أي وقتٍ قريب.
وأوصى ستروبل المراسلين بأن يحافظوا على تشككهم، وخاصةً فيما يتعلق بقضايا الخوف المعاصرة من غزو الصين لتايوان، وكذلك التقارير المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني.
وقال لانداي: “اكتفوا بتأدية مهنة الصحافة، واطرحوا الأسئلة الصحيحة، ولا تقبلوا ما تخبركم به الحكومة دون تفكير، فهذا هو ما حدث في كافة أرجاء وسائل الإعلام تقريباً خلال الفترة المؤدية لحرب العراق”.
عربي بوست