ما قبل الحداثة ما بعد العلمانية


هل يصح أن نتأخر عن القرن الرابع الهجري؟

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

لقوى الظلامية لا تزال قوية في العالم العربي، وعلى رغم الضربات التي نزلت بها والفضائح التي انكشفت عند قادتها وتعاظم الجهد الفكري في مواجهة أفكارها الغيبية، فإن قوى التنوير التي منيت بالنكسات والهزائم في العقود الماضية استعادت الزخم بعد بلاوي القبض على “الربيع العربي” من جانب المتشددين واللاعبين الخارجيين، ثم جاء الزخم القوي في بلدان الخليج التي نجت من أهوال “الربيع العربي” واندفعت نخبها الحاكمة والمتنورة في معركة التنمية الاقتصادية والبشرية والسباق نحو المستقبل بعد اللحاق بالعصر.

والانطباع السائد هو أن العالم العربي شق الطريق إلى الحداثة في حين وصل العالم إلى مرحلة ما بعد الحداثة. شيء ينطبق عليه قول صامويل هنتنغتون، “الولايات المتحدة الأميركية ليست كذبة، بل خيبة أمل. وهي يمكن أن تكون خيبة أمل لأنها أمل”.

لكن العالم دخل مرحلة المراجعة وإعادة النظر في ما بعد الحداثة. فلا كل تغيير هو حتماً نحو الأفضل. ولا كل جمود هو “ستاتيكو” لا يتحرك. والخيار في عصر العولمة، كما يقول الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، “ليس بين التغيير والستاتيكو، بل بين أن تدير التغيير وأن يجرفك التغيير”. والبارز، وسط الأنظمة العلمانية والدول المدنية في الغرب الأميركي والأوروبي والشرق الروسي والصيني والهندي والياباني، هو دعوة الفيلسوف يورغن هابرماس إلى “ما بعد العلمانية”. وهو لا يبحث عن تغيير “الفصل التاريخي للدين عن الدولة”، لكنه ينظر إلى ما في التجربة من نواقص ويرى ضرورة “إعادة الدين إلى ساحة الشأن العام من باب القيم والمشاركة في تحقيق الخير العام”. فالبابا فرنسيس يعتبر أن “السلطة هي الخدمة”. والفيلسوف سلافوي جيجيك يقول إن “اليسار العلماني واليمين الديني يتصارعان على غنائم النظام الرأسمالي الذي يسيطران عليه”.

أما الباحثة التونسية ناجية الوريمي، فإنها تطالب بحداثة جذرية عميقة. لماذا؟ لأن مشروع التحديث في العالم العربي، كما تراه، “نشأ منذ القرن التاسع عشر حاملاً بذور فشله أو أقله محدوديته”. والسبب، “الإعراض عن كسر روابط الاستبداد، استبداد السائس، استبداد رجل الدين، واستبداد القيم التقليدية”. حتى ابن خلدون رائد علم العمران والاجتماع الذي يعتبر أن العمران أساس الدولة، فإن “آراءه وتصوراته هي نتاج لفعل فقهي”، كما تقول الباحثة التونسية. وانطلاقاً من هذا الرأي، ترى أن “الحضارة العربية حضارة فقه نصي، ونحن في حاجة إلى المراجعات الجذرية التي تبحث في شروط البناء العميق والدائم، لأننا عرفنا في عصر النهضة مصلحين، ولم نعرف فلاسفة”.

والتحدي في النهاية، مهما تكن الآراء، هو إيجاد معادلة فعالة وناجحة بين الحداثة الجذرية وما بعد العلمانية. فلا البقاء في مرحلة ما قبل الحداثة بات قليل الكلفة والضرر في عصر التكنولوجيا والمعلومات واقتصاد المعرفة، ولا القفز إلى العلمانية ومرحلة ما بعد الحداثة سوى مغامرة خطرة اجتماعياً. فمن استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه، بحسب القاعدة الفقهية. ومن يعمل للتطور على مراحل ضمن رؤية بعيدة المدى وخطة عملية يحقق ما يحلم به لوطنه وشعبه. والأمثلة حية أمامنا في ألمانيا واليابان بعد الدمار والضحايا والهزيمة المرة في الحرب العالمية الثانية. فالنجاح الكبير في إعادة البناء وتركيز الحداثة جاء نتيجة تخطيط على مراحل ورؤية بعيدة المدى وإصرار مسؤولين رواد على النجاح بسرعة من دون تسرع. ولولا ذلك لما فعل “مشروع مارشال” الأميركي ما ينسب إليه من تأثير ونجاح.

قيل للفيلسوف الصيني القديم مينشيوس، “المملكة تغرق فلماذا لا تنقذها؟”. قال، “دعوها. المملكة الغارقة يجب إنقاذها بالمبادئ، لا كما تنقذ إنساناً غريقاً”. والمبادئ ثابتة على مدى العصور وإن كانت تتطور. فلا النظام الديني الثيوقراطي هو الإنقاذ كما في إيران. ولا نظام التخلي عن القيم الدينية والروحية. المنقذ هو النظام الحداثي والمشبع بالقيم الروحية العامل من أجل الإنسان والإنسانية. ومن هنا دعوة محمد أركون إلى “الفلسفة الإنسانية والأنسنة”. وهو سلط الضوء على “جذر الأنسنة” الذي يعود إلى “أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه في القرن الرابع الهجري. التوحيدي يمثل لب الفكر الإنساني الإسلامي القائم على العقلانية المصممة والمخصبة، الجرأة الفكرية، والتوجهات الثقافية”. فهل يصح أن نتأخر عن القرن الرابع الهجري؟

المقالة تعبر عن راي كاتبها

اندبندنت