رهانات بوتين قبل خيرسون وبعدها


استعجل العمل في بداية لعبة معقدة على قمة العالم لاستعادة دور روسيا كشريك كامل في نظام متعدد الأقطاب

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

تبديل الجنرالات في الحرب ليس بوليصة ضمان لتحقيق الانتصار، والجنرال سيرغي سوروفيكين الذي خلف عدداً من الجنرالات في قيادة القوات الروسية في أوكرانيا والملقب بـ “جزار سوريا” ليس صانع معجزات، كما أكدت الوقائع على الأرض، فكل جنرال يحارب بالجنود الذين لديه، وما بين يديه دفعه إلى الانسحاب من مدينة خيرسون الاستراتيجية قبل أن يطوقه الجيش الأوكراني بأسلحته الغربية المتطورة. لكن المشكلة ليست فقط معنويات العسكر وأسلوب القيادة الروسية الجامد، بل أيضاً أن يسيطر على إدارة الحرب ضابط مخابرات سابق صار سيد الكرملين، فالرئيس فلاديمير بوتين مستعجل وصاحب رهانات فاشلة، بصرف النظر عن قوته الداخلية عبر اللعب بورقتين مهمتين، القومية الروسية والكنيسة الأرثوذوكسية.
هو استعجل الحرب على أوكرانيا من دون أن يعد لها ما يكفي بحيث سماها “عملية عسكرية خاصة”، ومن دون معلومات دقيقة عما استعدت به كييف، وبكثير من الهزء بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الذي كان ممثلاً كوميدياً لعب دور الرئيس في مسلسل تلفزيوني.

استعجل بوتين ضم أربع مناطق أوكرانية واعتبرها أرضاً روسية قبل أن يسيطر عليها بالكامل، واستعجل العمل في بداية لعبة معقدة على قمة العالم لاستعادة دور روسيا كشريك كامل في نظام متعدد الأقطاب، وهو راهن على رد فعل هادئ للغرب كما بعد ضم القرم، ففوجئ بوضع ثقل الغرب وراء أوكرانيا وفرض عقوبات قاسية على موسكو.

وراهن على الخلافات الأميركية -الأوروبية فاصطدم بوحدة الموقف وعودة الشباب لـ “الناتو” الذي يسلح ويدرب العسكر الأوكراني، من حيث تصور بوتين أن غزو أوكرانيا يبعد الحلف الأطلسي عن حدود روسيا، ولم يكن رهانه الأخير على ترمب والجمهوريين في أميركا وجورجيا ميلوني وسيلفيو برلسكوني في إيطاليا ومارين لوبن في فرنسا سوى وهم، لأن الحقائق الجيوسياسية لكل بلد أقوى من رغبات سياسيين وحكام فيه، والسؤال هو ماذا بعد الانسحاب من خيرسون؟

هل هو كما في الدعاية الروسية “خطوة إلى الوراء من أجل قفزة أفضل إلى الأمام” بحسب المثل الفرنسي؟ أم أن استعادة خيرسون أكثر كلفة من الدفاع عنها؟

رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي يقول “إن النصر العسكري ليس ممكناً لا لروسيا ولا لأوكرانيا، والأفضل اغتنام فرصة التفاوض بعدما خسرت روسيا 100 ألف بين قتيل وجريح، وخسرت أوكرانيا مثلها”.

لكن المشكلة أن كل طرف يريد الذهاب إلى المفاوضات يوماً ما من موقع القوة، وليس هذا وقت التفاوض، بحسب زيلنسكي الذي يشترط التفاوض مع خلف بوتين، ويرى أن “خيرسون ليست هدية من روسيا بل نتيجة جهود أوكرانيا”، وأقل ما تقبله موسكو في الذهاب إلى التفاوض هو تسليم كييف بضم روسيا للدونباس وخيرسون وزابورجيا بعد شبه جزيرة القرم، ولا طرف يستطيع أو يريد التراجع.

أوكرانيا لا تريد المساومة على أرضها، والغرب لا يستطيع إجبارها على ذلك، وروسيا لا تستطيع أن تخسر استراتيجياً بعد كل ما فعلته، مع أن بوتين أدخل نفسه وبلاده في ورطة لن يخرج منها ولو محا أوكرانيا من على الخريطة، وأقل ما تطلبه روسيا من الغرب، كما يقول ديمتري ترينين، هو “قبولها كلاعب سياسي ليس عدواً دائماً ولا صديقاً أوتوماتيكياً”.

لكن بوتين يريد من الغرب التسليم بهيمنة روسيا على أوراسيا كمنطقة سيطرة لا مجرد منطقة نفوذ، فهو ورث ما لم يتعب فيه، ويفعل ما لم يفعله معظم الزعماء السوفيات الذين ورثهم، ولديه “خليط من الطموح والشعور بالظلم وعدم الأمان” كما يقول الديبلوماسي المخضرم الذي عمل سفيراً لدى بوتين والمدير الحالي للمخابرات المركزية الأميركية وليم بيرنز في كتاب “القناة الخلفية”.
والواقع أن روسيا بدأت تتحدث عن تأثير العقوبات الغربية عليها، والغرب بدأ يتعب، ولا أحد يعرف متى يقتنع الجميع بأن “القوة العسكرية أفضل في تحقيق الأهداف السلبية منها في تحقيق الأهداف الإيجابية”، بحسب البروفسور وودز عميد مدرسة الحكومة في جامعة أوكسفورد.