في حضرة غسان كنفاني

إبراهيم نصر الله

روائي وشاعر أردني/ فلسطيني

أواصل جولتي في لبنان لتقديم ستّ محاضرات بدعوة أتشرف بها من مؤسسة غسان كنفاني الثقافية بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاده، لكن رغم كل ما استجمعت نفسي لتقديمه، تواصل الأفكار تدفقها بين مدينة وأخرى ومخيم ومخيم…
يقول جورج حبش عن غسان كنفاني: «يستحيل الحديث عن غسان المبدع بمعزل عن غسان المناضل… لقد نجح غسان في الوقت ذاته أن يكون كاتباً عظيماً للقصة والمسرحية، ورساماً وناقداً وإعلامياً هاماً وقائداً سياسياً بارزاً ثاقب النظر وعميق البصيرة. لقد كان غسان باختصار شديد إنساناً ذا موهبة استثنائية، وطاقة هائلة، مما مكّنه من تأدية جميع هذه الأدوار بشكل مبدع وخلاق، … وربما كان غسان أفضل من طبّق الشعار الصعب «اعرف عدوك»، حيث كان أول فلسطيني، بل أول عربي تناول بالدراسة العلمية الجادة موضوع الأدب الصهيوني».
من اللافت للانتباه أن هذا الاتفاقَ الشاملَ حول تعدُّد مواهب غسان لا يمنعنا من أن نسأل: هل كان غسان راضياً كما رضيَ الجميع عنه وافتتنوا به؟ أظن أموراً كثيرة تشير إلى عدمِ رضاه، كما سنلمس في الحوار النادر الذي نشرته مجلة «شؤون فلسطينية» بعد عامين من استشهاده، وأعادت مجلةُ «رمّان» نشرَه في الذكرى الخمسين لاستشهاده، أموراً تضيء جوانب كثيرة واصَلَ كثيرون القفز عليها، مكتفين باستثنائية غسان بعيداً عن همومه ومعاناته، كما يحدث عادة حين نتحدث عن شهيد، فلا تبقى في أذهاننا سوى صورة البطل، وأمِّ الشهيد، وزغرودتها، ووالدِ الشهيد، وقوة تحمّله وثباته في اللحظة التي يستقبل فيها نبأ استشهاد فِلْذة كبده، وخطواتِه الواثقةِ في موكب التشييع.
يلفت الانتباه بقوة في هذا الحوار الطريقة التي يحلل بها غسان نفسه ويتأمّلها بوعي المبدع حين يجيب على سؤال في غاية الأهمية: هل رافق تطوّرُك الأدبي تطوّرَك السياسي؟ فيجيب: «.. لا أدري ما الذي سبق الآخر. قبل البارحة، كنت أشاهد إحدى قصصي التي أُنتجت كفيلم سينمائي (رجال في الشمس). كنت قد كتبت هذه القصة عام 1961. وقد شاهدت الفيلم بمنظور جديد؛ إذ اكتشفت فجأة بأن الحوار بين الأبطال وخطَّ تفكيرهم وطبقتَهم [الاجتماعية] وطموحاتِهم وجذورَهم في ذلك الحين كانت تُعبِّر عن مفاهيم متقدّمة على أفكاري السياسية. [إذن] باستطاعتي القول بأن شخصيتي كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتي كسياسي، وليس العكس، وينعكس ذلك في تحليلي للمجتمع وفهمي له. إني أعبِّر في رواياتي عن الواقع، كما أفهمه، دون تحليل. أمّا ما عنيت بقولي بأن قصصي كانت أكثر تطوراً [من آرائي السياسية] فهو عائد إلى دهشتي الصادقة لدى متابعتي تطوُّرَ الأبطال في القصة التي كنت أشاهدها كفيلم، والتي لم أكن قد قرأتها خلال السنين الماضية. لقد دهشت عندما سمعت [مجدداً] حوار أبطالي حول مشاكلهم واستطعت أن أقارن حواراتهم بالمقالات السياسية التي كنت قد كتبتها في الفترة الزمنيةِ ذاتها، فرأيت بأن أبطال القصة كانوا يحللون الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاتي السياسية».
إجابة غسان هذه تدفعنا لنسأل: هل يمكن أن يتجاوز الوعي السياسي للمبدع الحقيقي وعيه الفني؟ لقد كتب كثير من السياسيين أعمالاً أدبية انتهت كمنشورات حزبية تلقينيّة؛ ببساطة، لأن وعيهم الفني كان أقل بكثير من وعيهم السياسي. وكتب آخرون، كما يجيب غسان، وفوجئوا بأن أبطالهم كانوا أكثر وعياً من أطروحاتهم السياسية. دون أن ننسى أن هؤلاء الأبطال هم الكاتب، ولكنهم كثافتُهُ التي من الصعب أن تتشكل في أطروحات سياسية، ففي الكتابة الإبداعية لا يكون وعي الشخصيات وحده الحاضر، بل يكونون كلهم حاضرين بوعيهم ولا وعيهم أيضاً، وبتجاربهم الإنسانية والنفسية، وقدرتهم على أن يكونوا شخصيات كثيرة في آن، وقدرتهم على حوار أنفسهم وهم يتعددون في واقع فني متناقض يستخلص منه القارئ موقفه الروحي والإنساني والجمالي والفكري والنفسي، بخلاف الأطروحة السياسية التي تبدو مفتقدة لتعدد المسارات، والتي هدفها عقل المخاطب لا تكوينه بأكمله.
غسان لم يوضِّح لنا سبب قدرة أبطال روايته على تحليل الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاته السياسية، ولو سأله محاوره عن ذلك لحظينا بإجابة نحن بحاجة أن نسمعها من غسان نفسِه. ولعله لو أجاب لقال: في الكتابة عليك أن تكون جيشاً، أما في المقال السياسي فلا يلزمك أن تكون أكثر من فرد، ربما!
يعترف غسان أنه استوحى دائماً شخصيات أعماله من الواقع، ولكن استيحاء هذه الشخصيات ما كان يمكن أن يكون بهذه القوة، وهم ينتقلون من الواقع إلى الكتاب، لو لم تكن هناك هذه البصيرة الإنسانية لتأمل هؤلاء البشر، والقدرة الفنية الفذة على تحويلهم من أناس عابرين في الواقع إلى أناس مقيمين في الفن والحياة معاً، إنهم ها هنا بشر غسان، صحيح أنهم من تراب وروح ومشاعر، لكنهم في الكتابة من تراب غسان وروحه ومشاعره، وقدرتِه الفذة على تحويلهم إلى بشر وفكرة في آن، كما تحوَّل غسان نفسُه إلى إنسان وفكرة بإبداعه واستشهاده، فالشهادة بحد ذاتها كتابة أخرى لجوهر الكائن ومعناه وتعدد دلالاته واتساعها، فما بالنا أنه وقد بلغ هذه المرحلة من التسامي، لم يبلغها وحيداً، بل بلغها ومعه مئات البشر (الذين ولدوا في أعماله) الذين يتمتعون بحضور حيّ مستمر، وقدرة استثنائية على التجدّد وعبور الأزمنة طازجين ومُلِهمِين يولدون في كل قراءة جديدة لهم.
غسان الذي يولد كل يوم في الزمن التالي، كان يدرك أن عليه أن يوزع جسمه في جسوم كثيرة، في قضايا كثيرة، ولم يكن لديه خيار غير هذا، الخيار الذي يجعلنا نصفه بالمناضل، السياسي، القائد، المفكر، الصحافي، الرسام، المسرحي، القاص، الروائي، فحين تكون فلسطينياً لا يكفي أن تكون واحداً فرداً، فكلما أدركتَ مأزق وجودك المهدد ومعنى اقتلاعك لا تملك إلا أن تتحول إلى جيش لا إلى جندي وحسب، كلحظة الإبداع تماماً التي تتجمع فيها كل مكونات المبدع ليبدع!
غسان فعل ذلك رغم إدراكه المُعلن في هذا الحوار، وهو يقول: «لم أجد الوقت الكافي للكتابة منذ مباشرتي العمل في «الهدف». وفي الواقع، لم أنشر [مؤخراً] سوى قصّتين عن امرأة مسنة أكتب عنها دائماً [أم سعد]. لا أملك الوقت لممارسة الكتابة الأدبية، وهذا أمر مزعج للغاية. ونحن، في «الهدف»، لدينا عدد ضئيل من الموظفين. وعندما نطلب من الجبهة أن تُفرز لنا عدداً أكثر من العاملين فإن الجواب الذي نسمعه هو: «أعطونا اثنين أو ثلاثة من موظفيكم ليعملوا في القواعد، لأن العمل في القواعد أهم من العمل في الصحيفة!». وبالتالي نخلد إلى الصمت، لئلا يسحبوا الموظفين منا. وإنه لمن الصعب أن يصدّق الآخرون بأن ثلاثة أشخاص فقط يقومون بتحرير الهدف. وهذه الحالة قائمة منذ ثلاث سنوات..».
.. وهنا بالذات يكتشف المرء كم أنّ عليه أن يكون جيشاً كما أشرت، لا فرداً.

القدس العربي