مساعدة أوكرانيا تقتضي وجود تعاون بين واشنطن و”وادي السيليكون”
كريستين إتش فوكس
إميليا إس بروباسكو
حتى قبل أن يتقدم بعرض لشراء “تويتر”، كان إيلون ماسك مستخدماً نهماً لذلك الموقع. ولهذا السبب لجأ ميخايلو فيدوروف، وزير التحول الرقمي الأوكراني، إلى منصة وسائل التواصل الاجتماعي مناشداً الرئيس التنفيذي في شركة “سبايس إكس” SpaceX تشغيل شبكة “ستارلينك” Starlink فوق أوكرانيا. تعمل تلك الشبكة التابعة لـ”سبايس إكس” في توفير الإنترنت الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية، من أجل مساعدة بلاده في أعقاب الغزو الروسي. في 26 فبراير (شباط) الماضي، جاء في تغريدة فيدوروف، “بينما تحاول أنت استعمار المريخ، تحاول روسيا [هكذا وردت] احتلال أوكرانيا!”. وأضاف فيدوروف في التغريدة نفسها، “نطلب منك تزويد أوكرانيا بمحطات من شبكة ‘ستارلينك’ [للإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية]”.
وغرد ماسك في اليوم نفسه، “خدمة ‘ستارلينك’ نشطة الآن في أوكرانيا”. لا ريب أن تلك الخطوة شكلت انتصاراً بالنسبة إلى كييف. لقد سهلت الاتصالات الأوكرانية في خضم الصراع. ولاحقاً، ساعدت “ستارلينك” في صد هجمات التشويش الروسية ضد خدمتها لأوكرانيا من طريق تحديث رمز سريع وبسيط نسبياً. ومع ذلك، فقد تأرجحت قرارات ماسك الآن بشأن مواصلة الشركة تمويل خدمة الأقمار الاصطناعية “ستارلينك” التي أبقت أوكرانيا وجيشها متصلين بالإنترنت أثناء الحرب.
والحال أن التجاذبات والضبابية التي لا ينفك ماسك يضخها في المجهود الحربي تكشف عن التحديات التي تنشأ حينما تؤدي الشركات دوراً رئيساً في الصراع العسكري. قدمت شركات التكنولوجيا بدءاً بـ”مايكروسوفت” العريقة وصولاً إلى الشركات الناشئة في”وادي السيليكون” خدمات الدفاع السيبراني والمراقبة والاستطلاع، ليس بتوجيه من عقد حكومي أو حتى كجزء من خطة حكومية، بل من خلال قرار مستقل صنيعة شركات فردية. عن حق، حظيت جهود هذه الشركات بالاحترام والتقدير. ففي نهاية الأمر، جاء انخراطها في الغالب من دون أي مقابل، وكذلك فمن شأنه أن يستثير هجمات روسية على شبكاتها، أو حتى شعوبها، بدافع الانتقام.
إذاً، إنها منطقة جديدة تخوض غمارها الشركات والحكومة الأميركية. والآن، يتعين على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تجد الطريقة التي تتيح لها تسخير قوة هذه الشركات وجاهزيتها على نحو من شأنه أن يساعد، لا أن يضر، في استمرارية المصالح الاستراتيجية. لهذه الغاية، الأجدر بواضعي السياسات التفكير ملياً في السبب الذي يدفع الشركات إلى الانخراط في هذا الميدان، وماذا قد يتوجب على الحكومة أن تفعل كي تساند الشركات بشكل مجد، خدمة لمصالح الولايات المتحدة في السياسة الخارجية.
مسؤولية مشتركة
في الواقع، تملك الشركات الأميركية خبرة طويلة في العمل مع حكومة الولايات المتحدة في خضم الحروب. خلال الحرب العالمية الثانية، غيرت شركة “فورد موتور كومباني” الغرض من خطوط التجميع الخاصة بها كي تصنع معدات يحتاج إليها الجيش، من قبيل المركبات ومحركات الطائرات وحتى “قاذفات بي- 24”. وفي عهد أقرب، أنشأت شركات متعهدة من بينها “كيلوغ” Kellogg و”براون” Brown و”رووت”Root قواعد، وزودتها بالموظفين، كي توفر الدعم اللوجستي للجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. بيد أن حكومة الولايات المتحدة تعاقدت مع هذه الشركات بغية تقديم تلك الخدمات. وفي المقابل، لا تنطبق هذه الحال على شركات تكنولوجية عدة باتت عاملة في أوكرانيا.
دعمت الشركات الصغيرة والكبيرة، الخاصة والعامة، العمليات العسكرية الأوكرانية. إذ وفرت “بلانيت” Planet، و”كابيلا سبيس” Capella Space، و”ماكسار” Maxar، كلها شركات تعمل في مجال الأقمار الاصطناعية، صوراً عادت بالنفع على الحكومة الأوكرانية وقضيتها. أدت الصور عملها على أكمل وجه، من إبلاغ العمليات الميدانية بالمعلومات اللازمة إلى حشد الرأي العام العالمي، وذلك بفضل تركيز الدعاية على “تويتر” ووسائل إعلام بارزة. سرعان ما أدخلت “برايمر. أي آي” Primer.AI، علماً أنها شركة ناشئة في “وادي السيليكون”، تعديلات على مجموعة أدواتها بغية تحليل الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى التقاط وترجمة وتحليل الاتصالات الصوتية غير المشفرة للقادة العسكريين الروس. حتى أن “كليرفيو” أي آي” Clearview AI، شركة ناشئة مقرها نيويورك تركز في الغالب على إنفاذ القانون في الولايات المتحدة، تطوعت بتوفير خدمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بالتعرف إلى الوجه من أجل مساعدة المسؤولين الأوكرانيين في مواجهة المعلومات المضللة، والمساهمة في تحديد هوية الضحايا ومجرمي الحرب.
في سياق مماثل، أدت “مايكروسوفت” دوراً نشطاً جداً. إذ أعلنت إطلاق فرق جديدة للعمل “على مدار الساعة” دفاعاً عن المنظمات والوكالات الحكومية الأوكرانية ضد “عدوان الحرب السيبرانية”. هكذا، وفرت الحماية ضد الهجمات على البنية الأساسية الحيوية التي تدار أيضاً بأجهزة “مايكروسوفت”. كذلك ذهبت الأخيرة إلى حد اتخاذ إجراءات قانونية وتقنية لإزالة نقاط إطلاق الإنترنت التي استخدمها الروس في هجماتهم. وفي أبريل (نيسان)، نشرت “مايكروسوفت” تقريرها الاستخباري الخاص الذي نسب هجمات محددة إلى الوحدات الروسية ووضع جدولاً زمنياً مفصلاً للحوادث، وذلك قبيل صدور إعلان ذلك من جانب القيادة السيبرانية الأميركية في يوليو (تموز) 2022.
في شركات عدة، أشارت تقارير المستثمرين ربع السنوية إلى دعم أوكرانيا كجزء من البرامج البيئية والاجتماعية والحوكمة
في الواقع، شكلت اعتبارات السوق أحد الأسباب الكامنة وراء انخراط تلك الشركات في الحرب. إذ تحوز جميعها بعض الأعمال السابقة أو المستقبلية المخطط لها مع حكومة الولايات المتحدة. ربما تكون الرغبة في الإبقاء على علاقتها جيدة أثرت في قراراتها بالانخراط في صراع ينطوي على مصلحة أمنية وطنية معلنة بالنسبة إلى إدارة بايدن. كذلك تملك شركة على كـ”مايكروسوفت” حافزاً اقتصادياً يدفعها إلى الدفاع عن سلامة منتجاتها. عبر تحديد الثغرات الأمنية التي استغلها الروس وتصحيحها، أمدت “مايكروسوفت” أنظمتها بتحسينات كثيرة متصلة بالأمان.
في السياق نفسه، لا ننسى أيضاً العلامات التجارية الخاصة بالشركات. إذ نشرت هذه الجهات منشورات عبر الإنترنت حول مشاركتها في الصراع، وأصدرت تقارير بشأن الأنشطة السيبرانية الروسية، وشاركت رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي وبيانات صحافية. كذلك احتوت تقارير فصلية موجهة إلى المستثمرين إشارات عن دعم أوكرانيا كجزء من “البرامج البيئية والاجتماعية والحوكمة” (اختصاراً ESG). وكجزء من جهدها الخيري في بالبيانات، قدمت شركة “ماكسار تكنولوجيز” لوكالات الأنباء مجاناً صوراً التقطتها أقمارها الاصطناعية لمجريات الحرب في أوكراينا.
واستطراداً، يبدو أن بعض قادة الشركات شكلوا عاملاً أساسياً في قيادة الدعم لأوكرانيا. مثلاً، لطالما أكد رئيس “مايكروسوفت” براد سميث قناعته بحماية الجدار “الدقيق والحساس”، بحسب وصفه، “بين الحرية ونقيضها، التوتاليتارية”. كذلك يعرف عن شون غورلي، مؤسس “برايمر. أي آي”، أن له باع في العمل مع الحكومة الأميركية في قضايا الأمن القومي، وفي مجلس إدارته مديرون تنفيذيون حكوميون سابقون. وطبعاً، تحمل ردود ماسك السريعة عبر “تويتر” على الاعتقاد بأنه يقود شخصياً قرار شركته الانخراط في الصراع الدائر.
حسن التواصل
في الحقيقة، كانت جهود شركات التكنولوجيا هذه جديرة بالثناء، في معظم الحالات، وتتماشى مع عمل الحكومة الأميركية بشأن أوكرانيا. في المقابل، بات على الحكومة الأميركية الآن أن تبني علاقات وتضع خطة للتنسيق في غمرة الأزمة في أوكرانيا، قبل أن تنشأ أزمة أخرى في مكان آخر. بداية، لا بد من أن تكون هذه الارتباطات على مستويات رفيعة لأن القرارات تتخذها وتقودها جهات عليا. من شأن التبادلات غير الرسمية المتكررة أن تساعد قادة الأمن القومي في تقدير الأثر الذي تفرضه تحديات محددة تواجهها الشركات، على غرار أخطار تحدق بالبنية التحتية أو الموظفين في الخارج، والتدابير المحتمل اتخاذها في هذه الحال. حبذا لو أنه، مع مرور الوقت، تشكل الحكومة وشركاء صناعيين علاقات عمل وثيقة على المستويين العالي والمتوسط، فيستخدمها القادة الحكوميون بسهولة أكبر كي يتوقعوا وينسقوا إجراءات الشركات في خضم الأزمات.
في الإطار نفسه، بمقدور هذه العلاقات أن تساعد المسؤولين الحكوميين في معرفة القدرات التي تجلبها الشركات الخصم إلى الصراع واستباقها، ذلك أن شركات التكنولوجيا غالباً ما تكون أكثر وعياً بالتهديد الذي يشكله المنافسون. وسيساعد التواصل المستمر في إيجاد خطوط اتصال في مواجهة التحديات غير المتوقعة التي لا مناص منها في أي نزاعات مستقبلية.
في الواقع إن هذا الشكل من التواصل والتعاون بين القطاعين العام والخاص في قضايا الأمن القومي، ليس فريداً في نوعه. مثلاً، منذ 2015، أنشأت “القيادة الفضائية الأميركية” أربع خلايا دمج تجاري، وأبدت انفتاحاً بشأن الارتباط الوثيق لصناعة الفضاء التجارية مع التوعية في مجال الفضاء العسكري وعمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. حالياً، ثمة تسع شركات فضاء أميركية أعضاء [في تلك الخلايا]، من بينها “ماكسار تكنولوجيز”. وبالمثل تتعاون شركات الفضاء الإلكتروني التجارية مع بعضها بعضاً ومع الحكومة الأميركية منذ إنشاء “مراكز تبادل المعلومات وتحليلها” في 2003. وعلى رغم أن الغرض من إيجاد هذه المراكز كان تبادل المعلومات حول الأخطار التي تتهدد البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة، غير أنها توفر نموذجاً ممتازاً لتبادل المعلومات ذات الطبيعة الحساسة، أو المتعلقة بالأمن القومي، في خضم الأزمات والعمليات القتالية.
الجيش الأوكراني أصبح يعتمد على التكنولوجيا وصار في النتيجة مرهوناً بقرارات إيلون ماسك
مؤتمر عن أمن الإنترنت في بكين بتاريخ سبتمبر 2018 (رويترز)
لا بد من أن يتمثل الهدف الرئيس من تلك الشراكات في القدرة على وضع توقعات بشأن توقيف انخراط شركات التكنولوجيا في النزاعات، والوقت الذي ستعرض عن ذلك، ومن ثم تنسيق الخطوات اللازمة. وعلى قادة الحكومة والصناعة أن يناقشوا النتائج التي ستؤول إليها الأمور حينما تقود قوى السوق والعلاقات الدولية إلى قرارات مؤسسية مختلفة تماماً [بين الطرفين، أي السوق والعلاقات الدولية]. لنتأمل مثلاً في صراع محتمل مع الصين. من غير المرجح أن تتخلى الشركات الأميركية عن المبادئ الديمقراطية التي أفسحت في المجال أمام صعود نجمها، غير أن قراراتها باتخاذ الإجراءات اللازمة ربما تواجه قيوداً أكبر بسبب البنية التحتية الكبيرة أو الاستثمارات المالية أو استثمارات الموظفين في الصين. وإذا توجب على الحكومة أن تشرع بالاعتماد على قدرات معينة لدى شركات التكنولوجيا ووجدت أنه لا يعول عليها، فقد تتعثر الولايات المتحدة أثناء تلك الأزمة [مع الصين]. لذا فإن معرفة الاحتياجات والمعوقات على الجانبين كليهما، قبل وقت كاف، تسهم في الحؤول دون حدوث الخلافات وتفيد في تجنب العثرات.
استكمالاً، من الواضح أن هذه المسألة تتبدى الآن مع “ستارلينك”. أصبح الجيش الأوكراني يعتمد على التكنولوجيا، ومرهوناً تالياً بقرارات ماسك. قرر الأخير رفض طلب أوكرانيا إرسال وحدات من “ستارلينك” إلى شبه جزيرة القرم. ولم يعد يعول على خدمات “ستارلينك” في أوكرانيا أخيراً، خصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة الروس. يبدو أيضاً أن ماسك طلب من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تمويل برنامج “ستارلينك” في أوكرانيا بدلاً منه، حتى لو أنه يشير حالياً إلى أنه سيواصل تمويل هذه الخدمة. ربما يكون السبب وراء طلبه الحصول على التمويل تجارياً. كذلك ذكر أن قراره بشأن المناطق التي يزود بها خدمة “ستارلينك” والمناطق التي يحرمها منها، يستند إلى تقييمه الشخصي لخطر التصعيد الروسي. هكذا، نجد أن شركة خاصة تبت في أمر هذه القرارات كافة، بمعزل عن السياسات أو الأهداف الحكومية.
ينبغي أن تكون الحوادث في أوكرانيا بمثابة نداء للتحرك موجه إلى قادة الحكومات. إذ أظهرت شركات التكنولوجيا كيف أن الشركات قادرة على دعم العمليات العسكرية والأمنية، إلى جانب قوتها المستقلة ورغبتها في العمل. إذاً، لقد حان الوقت الآن للتواصل مع قادة شركات التكنولوجيا والبدء بمحادثات موضوعية ومستمرة حول القدرات التي تكتنزها هذه الشركات والخطط التي تنوي المضي بها. ولعل العلاقات المبنية بشكل حسن تقدر على قلب مسار الأمور في الصراعات الحالية والمستقبلية.