الغموض والالتباس ضروريان لحماية التحول في دور “حزب الله” والإيحاء في الوقت نفسه أنه ليس هناك تحول
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
موسم المبالغات مزدهر في بيروت وتل أبيب بعد الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية. مبالغات في الاتجاهين: التكبير والتصغير. واتكال على الشكل لجهة المسؤولين اللبنانيين، وعلى المضمون لجهة المسؤولين الإسرائيليين. أما الشكل الذي ارتاح له الرئيس اللبناني ميشال عون الراحل عن السلطة بعد ساعات، فإنه الإخراج الأميركي للاتفاق بحيث بدا كأنه موافقة منفردة لكل من لبنان وإسرائيل على رسالة من الرئيس جو بايدن تتضمن ما توصل إليه الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في المفاوضات مع كل طرف على حدة. وأما المضمون الذي هللت له حكومة يائير لبيد، وهي تواجه انتخابات صعبة بعد ساعات أيضاً، فإنه النص بالاتفاق على كونه بين “حكومة لبنان ودولة إسرائيل”. وهو كما ترجمه لبيد “اعتراف لبنان بإسرائيل”. لكن الاتفاق ليس اعترافاً، وهو الثالث مع الدولة العبرية بعد “اتفاق الهدنة” عام 1949 واتفاق ترسيم “الخط الأزرق” البري بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني عام 2000. ولا هو تطبيع بل توقيع، وإن كان تطوراً مهماً في الصراع وموقع لبنان الجيوسياسي.
“حزب الله” لعب الورقة على الوجهين: فمن جهة مهد الطريق بالقول إن تهديده باستخدام القوة ضد منصات الغاز في إسرائيل هو العامل الرئيس في ردعها وخضوعها للتسليم بحقوق لبنان، لكي يضع الترسيم في خانة “التحرير الثالث” وحتى “النصر الإلهي” و”كسر الحصار الأميركي”. ومن جهة أخرى اعتبر أن الاتفاق هو مجرد “تفاهم” على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان الرسمي و”فلسطين المحتلة”، بصرف النظر عن كون فلسطين المحتلة اليوم هي إسرائيل. ولا شيء تغير في العداء وحرية العمل الذي تمارسه المقاومة الإسلامية. والرئيس عون تولى توظيف الاتفاق من خلال قراءتين: واحدة إقليمية ودولية متخيلة هي الانفتاح الأميركي على الرئيس وصهره جبران باسيل الخاضع لعقوبات أميركية. وأخرى محلية هي أن الصهر افتتح باب التركيز على الطاقة، والعهد انتهى بتكريس لبنان في موقع البلد النفطي. وما كان غريباً أن يفاخر “حزب الله” ورئيس الجمهورية بأن لبنان حصل على كامل حقوقه. ولا أن يطرح كثيرون مسألة التخلي عن “خط 29” وأجزاء من حقوق لبنان.
وفي المقابل فإن لبيد كرر القول إن الاتفاق حقق لإسرائيل مطالبها “الأمنية” ومصالحها “الاقتصادية”، وأعطى لبنان فرصة لاستثمار ثروته الغازية. ومن الطبيعي أن يتهمه نتنياهو وبقية المعارضين بالتنازل “عن أجزاء من أرض إسرائيل للعدو”. فالمعركة الانتخابية حامية. واللعبة هي عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة حكومة يمين كاملة أو لا. الرئيس بايدن وصف الاتفاق بأنه “فتح تاريخي يتطلب شجاعة حقيقية”، والوسيط هوكشتاين أعطى التوصيف الدقيق للاتفاق، وهو ضمان “الاستقرار على جانبي الحدود” إلى جانب الفوائد الاقتصادية والاستثمارات.
وكالعادة فإن السؤال كان عن دور إيران في الاتفاق وعلاقته بالمفاوضات المتوقفة مع الولايات المتحدة الأميركية حول الاتفاق النووي. والأجوبة أوحت أن دوراً مهماً لإيران وفرنسا ساهم في التوصل إلى الاتفاق. لكن البعد الذي تجنب كثيرون في هذه المرحلة تسليط الأضواء عليه هو التغيير في الموقع الجيوسياسي للبنان. ذلك أن لبنان المحكوم منذ عقود بأن يكون “الجبهة الأمامية” في مشروع “محور المقاومة” الذي تقوده إيران بات محكوماً بالخروج من هذا الدور أو خسارة كل شيء. والدور الذي يفرضه الاتفاق والحرص على استثمار الثروة الغازية هو الهدوء الكامل عبر الحدود والالتفات إلى الإصلاحات المالية والاقتصادية المطلوبة والاتفاق مع صندوق النقد الدولي لفتح باب الاستثمارات والتعافي الاقتصادي. والسؤال الكبير حالياً هو عن سلاح “حزب الله” بعد الاتفاق. وهناك حتى الآن جوابان: واحد يرى أصحابه أن دور السلاح انتهى. وآخر يقول أصحابه أن دور السلاح لم ينته، بل تبدل. والدور الجديد هو حراسة الاتفاق والاستقرار عبر الحدود تمهيداً لصفقة إقليمية دولية كبيرة حول مستقبل الأدوار في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وإلا فالذهاب إلى حرب شاملة.
لغز؟ كلا. لكن الغموض والالتباس ضروريان لحماية التحول في دور “حزب الله”، والإيحاء في الوقت نفسه أنه ليس هناك تحول.
اندبندنت
المقالة تعبر عن راي كاتبها