التنظيم السياسي المعاصر زاد قيد الإنسان ووضع حبلاً أيديولوجياً حول عنقه وكمم فمه وأعدم حاسة النقد فيه
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
هل اختفت العبودية كممارسة قاتمة ضد إنسانية الإنسان ونحن في الربع الثاني من الألفية الثالثة؟
الحرية هي أن تكون لك القوة والحق في التصرف في جسدك وعقلك ومالك تصرف السيد، بما يحفظ كرامتك وينظم علاقتك مع غيرك، والعبودية هي عكس ذلك تماماً، ففي كثير من البلدان لا تزال المرأة تباع وتشترى تحت يافطات الزواج والشرف والإرث والدم و”ناقصة العقل والدين”، وفي كثير من الدول لا تزال هناك أسواق النخاسة مفتوحة أو مستترة أو محرفة قليلاً أو كثيراً في الواجهة لبعض الدول الإسلامية والأفريقية.
العبودية لم تنته بل تغيرت ملامح وجهها فقط، والعبودية التي تنزل من العصر اليوناني أو عصر ما قبل الإسلام، كما درسناها في الكتب المدرسية وفي بعض قصص السير والملوك، لا تزال قائمة حتى الآن وإن بأشكال مختلفة تحاول أن تنسجم مع روح العصر.
لقد غيرت العبودية جلدها لكن روحها هي نفسها لم تتغير، وطرفا المعادلة لم يتغيرا فيها وهما العبد والسيد وما بينهما من سوط.
أن تكون عبداً يسرح قطيع غنم أو إبل في الفيافي، أو عبداً يسرح قطيع “جيش” أو “طلاب” أو عمال مصنع في مدينة عصرية، فالحال هو الحال.
هناك مغالطة كبيرة وفارقة، إذ يتوهم العبد المعاصر أو العبد الحداثي بأنه “حر”، لكن لو دققنا النظر قليلاً وقلبنا الحال على أوجهه السبعة لأدركنا ثقل السلاسل التي تكبله، فسلاسل في “الرأس” وأخرى في المحيط وثالثة في الوسائل التي يستعملها حتى ولو كانت تنتمي إلى زمن التكنولوجيا في أجيالها الأخيرة المعقدة.
يخترع العقل البشري الأجهزة الذكية من القنابل إلى الطائرات إلى الروبوتات ليصبح في مرحلة لاحقة عبداً لها وهي من تسيّره وتنظم حياته وتقرر شأن مستقبله وتسطر طبيعة علاقته بجاره وبالطبيعة التي يحيا فيها.
لقد فقد الإنسان حريته الشخصية وأصبح عبداً مملوكاً لقوة خارقة تحاصره من كل الجهات، إنه يمشي عارياً في الشارع فكل شيء فيه مراقب، فكاميرات تراقبه وهو يدخل العمل وفي العمل ويقوم بمشترياته وينام في غرفة فندق في آخر الدنيا، وهو في الحمام وعند الحلاق وخلف مقود سيارته وفي المواصلات العامة، وهو يكلم عشيقة في الهاتف أو يضرب موعداً مع طبيب الأسنان أو على الحدود داخلاً إلى بلد أو مغادراً بلداً، وكل شيء مراقب فأين المفر؟
ينتمي المواطن “المعاصر” كما يعتقد إلى حزب سياسي إسلامي أو ليبرالي ليتحرر وليحرر المجتمع، هكذا يتوهم وشيئاً فشيئاً يحاصر ليصبح عبداً لخطاب معلّب ولخطاب منزل تنزيلاً، ليس له الحق في استعمال كلمة “لا”، عليه أن يخضع وأن يطبق أن يعيش تحت سلطة الآمر، أميراً إسلامياً كان أم قائد حزب بربطة عنق ملونة جداً.
المقاله تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت
النقد تبرج أو تمرد، لذا فالسياسة هي “الطاعة” العمياء للقائد الذي هو صورة الله على الأرض حين ينطق، وكأن الذي يأتي به هو وحي، والسلوك الذي يسلكه مرسوم من السماء أو هو صورة الزعيم المطلق الذي لا يخطئ.
وحين ندقق النظر من حولنا في محاولة لقراءة هذا الحقل السياسي فيتأكد لنا بأن التنظيم السياسي المعاصر، وهو يرتبط ويربط مصيره بسلطة المال، لم يتمكن من تحرير الإنسان المعاصر، بل زاده قيداً ووضع حبلاً أيديولوجياً حول عنقه وكمم فمه وأعدم حاسة النقد فيه.
وهناك عبودية أخرى تأخذ مشروعيتها من النصوص الدينية المقدسة، إذ يجري إخراجها من سياقاتها التاريخية ويتم ليّ عنقها بما يخدم “القائد” الديني المطلق الذي يتحول إلى “نبي” ما يقول به وكأنه منزل عليه من السماء.
وتتحول هذه العبودية إلى عبودية انتحارية، وهي الأكثر انتشاراً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ يسلم المواطن رقبته وعقله لرجل الدين أو للدجال، بما يخدم مشروع الإسلام السياسي المتطرف، وفي مثل هذه العبودية التي يصبح المواطن فريسة لها وهو في وضعيته يشبه الصيد في نسج العنكبوت، يقف المؤمن البسيط ذو النية الصادقة ذات يوم خلف الإمام متوجهاً بقلبه إلى الله في كامل طاقته الإيمانية الإيجابية الصادقة.
وشيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم وصلاة بعد صلاة ترتفع أبواق خطبة الجمعة أو يتعدد درس العصر، وتتناسخ دروس ما قبل العشاء في حلقات وخطب ودروس تتحدث عن الأَمَة والعبد وتحرير الرقبة والغنائم والفتوحات وأهل الذمة، تتحدث عن ذلك ونحن في الألفية الثالثة عن الفرق بين العبد والحر وبين الأَمَة والحرة، والناس تستمع وكأنهم يعيشون خارج الزمن وخارج التاريخ.
وشيئاً فشيئاً تبدأ دروس التكفير والشحن والتجييش ويتم غسل الأمخاخ من آخر بقايا ثقافة النقد، ويتم تجريف العقل تجريفاً حتى يصبح الرأس خاوياً ليتم حشوه بمادة انفجارية، ويتحول المؤمنون إلى قنابل انشطارية ويبدأ العبد في تطبيق أوامر سيده فيُقتل المثقفون ويغتال الطاهر جاووت وفرج فودة وحسين مروة وعبدالقادر علولة ومصطفى العقاد، ويعتدى على نجيب محفوظ وسلمان رشدي، ويتم تهجير الآلاف ويعيش العالم بأسره تحت الرعب.
تحت تأثير خطاب يكرس العبودية ويلبس لبوساً دينياً يتحول الطبيب وعالم الاجتماع والشاعر والروائي والرياضي والمصرفي إلى عبيد كاملي الطاعة لحدّاد أو جزار يدوّرهم كما يدور الخاتم في بنصره.
وصيتان يوصى بهما في باب صناعة العبد السعيد وهما: كي تتحول إلى عبد سعيد بالمواصفات الكاملة فعليك أن تستمع يومياً إلى نشرات الأخبار العربية والمغاربية، الإذاعية منها أو التلفزيونية، تلك التي تحول الخراب إلى جنة والهزيمة إلى انتصار والجوع إلى وليمة والفقر إلى نعمة، وتحولك أنت إلى “فراغ”.
ولكي تكون عبداً سعيداً في بلدان شرق المتوسط وشمال أفريقيا عليك أن تتخلص من عقلك، فالعقل سبب الشقاء وسبب دمار السعادة، أما قال المتنبي “وأخ الجهالة في الشقاوة ينعم”؟