“الوسطية” خطر على الفكر النقدي 


تعد آلة جهنمية لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يرتدي ثوب الاحترام الزائف حيال السياسي والفقيه والمثقف

أمين الزاوي كاتب ومفكر

في الفكر النقدي المؤسس على رؤية فلسفية عقلانية لا توجد منطقة رمادية، جميع المناطق يجب أن تكون مضاءة، تحت الشمس، بألوانها المختلفة والمتميزة.

“الاختلاف” هو الأصل في التفكير الإنساني الحر الفاعل والإيجابي، لأن الحقيقة متعددة وزوايا النظر إلى الأمور مختلفة ومتعامدة. الاختلاف هو أصل الحياة المشتركة.

ظهرت “الوسطية” كطريق لجر الفكر العقلاني نحو “التلفيق” والترقيع والتمويه.

 “الوسطية” هي توأم التلفيقية، تعتصم الجماعات والأفراد بها كآلية لستر مرض “الانتهازية”، بهذا فالوسطية هي أيضاً أخت الانتهازية الناعمة، هي ذر الرماد في عيون العامة البسيطة.

“الوسطية” هي التوجس الكبير من قول “الحقيقة” كما يراها العقل في مرحلة زمنية معينة. هي الوسيلة لإقناع القطيع بطمأنينة كاذبة وخادعة سياسية أو اجتماعية أو دينية، وهي أيضاً إسعاد للدماغ الكسول وبهجة للخمول الفردي والجمعي.

“الوسطية” هي اغتيال للقناعة الفكرية وهي مصرع “السؤال” المحرج الذي يحفر في المناطق الخطرة والممنوعة. هي جمع ما لا يجتمع في طبخة لا طعم ولا رائحة لها وهي الموقف الثقافي لمن لا موقف له وهي التخندق السياسي لمن لا خندق له وهي الرأي الديني لمن لا رأي له. 

“الوسطية” هي آلة جهنمية لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يلبس لبوس الاحترام الزائف والمنافق حيال السياسي والفقيه والمثقف.

“الوسطية” ليست محاربة التطرف كما يروج لذلك حراس معبدها، بل هي عبارة عن حرب باردة ضد النقاش الجاد وضد صراع الأفكار المثمر.

تحت قناع المحافظة على الوطن والحفاظ على الأمن والاستقرار، وما إلى ذلك من بلاغة التدجين السياسي والتدين المظهري، تمارس “الوسطية” وأنصارها استخفافاً بالوضوح الفاعل وفرض “الرمادي” في الحوار والسلوك واللغة.

“الوسطية” هي دفن رأس العقل في رمال المتاهة. هي ليست المناقض للتطرف، إنها الاكتفاء بكنس “التطرف” تحت السجاد.

ومن منطلق تقوقعها حول “تبرير ما لا يبرر” فهي راعية التطرف جراء تعميم الكسل الفكري وغسل الدماغ الجمعي، فـ”الوسطية” من حيث تدري أو لا تدري تعمل على إسكات الأصوات الأخرى المغايرة وتسعى إلى وأد الاجتهاد وقبر كل صراع إيجابي يعمل على تطوير العقل وتنمية التفكير وتطوير المجتمع.

“الوسطية” هي أكبر كذبة فكرية معمرة في تاريخ الفكر العربي، يصدقها المثقف والسياسي ورجل الدين، يصدقها المثقف الانتهازي والسياسي الذي لا يؤمن بفكر التناوب ورجل الدين الذي يسعى إلى خدمة السلطان مهما كان لونه وفكره.

“الوسطية” أخطر على صحة الفكر وعلى سلامة البلد لأنها تؤجل ما يجب القيام به اليوم إلى غد لا يجيء. هي مثل رجال المطافئ تلقي بالماء على النار ولكنها تنسى أن التاريخ مثل العنقاء يقوم من رماده.   

“الوسطية” هي “فلاحة الخوف” في النفوس، الخوف من الفكر الواضح الجريء، وفي ذلك ومن خلال ذلك تؤلب المواطن البسيط والساذج ضد كل من يقف مدافعاً عن مصالحه بتلفيق تهم ونعوت تلحق به.

“الوسطية” تشيطن المختلف الواضح الذي يعيش بيننا وتصوره كائناً يريد الفتنة. تخون الوطني الناقد وتقدمه في شكل عدو يجب عزله. تكفر المؤمن الذي يعمل العقل في إيمانه ويرفض العقيدة بالوراثة كما يرفض التوريث في الخلافة.

“الوسطية” في الدين السياسي كشراء رأسمال محبة العدو والصديق في الآن نفسه والخلط بين الخصم والصديق بين الشر والخير، وبهذا تحول هذه “الوسطية” الخير إلى الشر والشر إلى الخير، من دون أن يتنازل لا الخيّر عن موقعه ولا الشرير عن موقفه.

“الوسطية” في الدين السياسي هي الإتيان ببرهان تراثي لكل موقع وموقف لتثبيته أو نفيه في الوقت ذاته، كل قضية يتم تبريرها بالنص في تأكيدها وفي نفيها في الوقت نفسه.  

“الوسطية” في السياسية أو عند السياسي هي محاولة ممارسة لعبة البهلوان على الحبل، المهم التوازن حتى لا يسقط، في هذه “الوسطية” تقبض الطبقة الحاكمة على العصا من الوسط، لا لشيء إنما لتحقيق البقاء حيث يتم ضرب اليسار باليمين واليمين باليسار. كلما شعر السياسي باقتراب ساعته يبدأ المساومة بالتمركز داخل “الوسطية”، يشتري ويبيع في القيم والمواقف والحلفاء. في السياسة تمثل “الوسطية” حبل النجاة للسلطة الحاكمة الآيلة للانهيار.

على المستوى الفلسفي، فالفكر الصادق الجريء هو الذي يعتصم بموقعه من دون خوف أو تردد أو تلكؤ، ينحاز إلى أمر أو موقف ويبرر انحيازه ولا يخفي قناعته، من دون الاعتقاد بأن موقعه أو موقفه هو “الحقيقة” المطلقة، هذا الانحياز الفلسفي والفكري الواضح يساعد الخصم على التموقع والوضوح المقابل.  

الفكر الصادق الجريء هو خصم “الوسطية” لأنه يريد أن يكون اللون الأصلي في ضمة الألوان الأساسية، في حين تكون “الوسطية” خلطة ألوان باهتة وكاذبة وغير منسجمة ولا متناغمة.

كلما تحرر السياسي والمثقف النقدي ورجل الدين من “الوسطية” وتعامل كل واحد منهم بصدق وشفافية وانسجام مع مواقفه تمكن المجتمع من التقدم بثبات، وأصبحت الحياة السياسية والثقافية والدينية في صحة جيدة، معافاة من النفاق والمراوغة والفساد بكل أنواعه.

المقالة تعبر عن راي كاتبها