المشروع الوحيد الذي نجح ولا يزال يتقدم هو مجلس التعاون الخليجي
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
لمنطقة تتحرك في اتجاهين متعاكسين، واحد هو الانتقال من دعوات الوحدة القومية إلى واقع الدولة الوطنية، وآخر هو القفز من الدولة الوطنية إلى الأحلام الإمبراطورية. الأول هو ما يمارسه العالم العربي الذي عاش عقوداً على الدعوة إلى الوحدة القومية منذ “الثورة العربية الكبرى” على السلطنة خلال الحرب العالمية الأولى وأفكار “النهضة العربية” قبل الثورة وبعدها، والثاني هو ما تراجعت إسرائيل عنه واندفعت فيه إيران وتركيا. ملالي إيران يربطون بين الدولة والثورة ويرفضون الاكتفاء بدولة وطنية من دون أن تتولى قيادة مشروع إمبراطوري فارسي، ولكن بثوب ديني مذهبي. والرئيس رجب طيب أردوغان يحاول أن يتجاوز الدولة الوطنية التركية التي أقامها كمال أتاتورك على أنقاض السلطنة العثمانية للعودة إلى شيء من ماضي السلطنة تحت عنوان “العثمانية الجديدة”.
تجارب الوحدة العربية القومية فشلت، من الوحدة بين مصر وسوريا أيام الرئيس جمال عبدالناصر، إلى الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا والعراق بعد ثورتي “البعث”، وصولاً إلى الاتحاد المغاربي بين المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، مروراً بالمشاريع الوحدوية التي اندفع فيها معمر القذافي. ولم تتحقق وحدة “الأمة السورية” التي دعا إليها وأسس من أجلها أنطون سعادة الحزب “السوري القومي الاجتماعي” قبل عقود. ولا كانت الدعوات إلى وحدة “الأمة الإسلامية” قابلة للتحقيق أصلاً، قبل أن تصطدم استعادة الخلافة بعنف الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة التي خرجت من جلبابهم و”القاعدة” و”داعش”. المشروع الوحيد الذي نجح ولا يزال يتقدم في النجاح هو مجلس التعاون الخليجي، لأنه تطور بهدوء على مراحل وبني على الحاجات الملحة لبلدان الخليج والقراءة الدقيقة في المجتمعات.
لكن الدولة الوطنية التي هي الخيار الواقعي تواجه تحديات كثيرة كشف عن بعضها التجربة القاسية في ما سمي “ثورات الربيع العربي”، ولا يزال بعضها الآخر محل نقاش واسع. فالمحطة الأولى على الطريق إلى الدولة الوطنية هي تثبيت المواطنة بحيث يتمتع الجميع بحقوق المواطنين بدل أوضاع الرعايا، والمحطة الثانية هي الحوكمة الرشيدة التي تعطي الأولوية للتنمية الاقتصادية وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين والتخطيط للمستقبل من خلال مشاريع مدروسة يتم تطبيقها على مراحل. وفي هذا المجال كشفت استطلاعات الرأي في العالم العربي عبر “المرصد العربي” عن رسالة مهمة أشار إليها مايكل روبنز وأماني جمال: “العرب يريدون هوية اقتصادية ويبحثون عن حكم يمكن أن يقدمها، فالاقتصاد قبل الديمقراطية، والميل واضح إلى التجربة الصينية في النمو”. أما المحطة الثالثة فإنها الجمع بين الوطنية والديمقراطية بعدما عملت الأنظمة طويلاً على جعلهما نقيضين. حكام قمعوا الحرية بداعي الصراع مع إسرائيل، فقتلوا الحرية وعجزوا عن تحرير فلسطين، وحكام رأوا أن الحرب على الإرهاب تتطلب الحد من حريات الشعوب وتحتاج إلى كثير من التشدد الأمني.
وما أكدته الوقائع هو الحواجز التي تحول دون نجاح الدولة الوطنية: الفئوية، الطائفية، العداء للديمقراطية، ومشاريع الدولة الثيوقراطية على طريقة “ولاية الفقيه”. فالأنجح في محاربة الإرهاب هو النموذج الانفتاحي، لأن النموذج الشمولي المغلق يشبه الإرهابيين الذين يحاربهم مثل “القاعدة” و”داعش”. والدولة الوطنية الأقوى هي التي تتمتع جبهتها الداخلية بالانسجام والتعاون وتكون جبهتها الخارجية قوية.
والنماذج على قمة العالم ليست المثال الصالح. روسيا سلطوية ليبرالية. الصين شمولية محافظة. و”أميركا أقل ديمقراطية وأكثر أوليغارشية” كما كتب الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد بول كروغمان. لكن الدولة الوطنية هي الخيار والمصير مهما يكون الطريق إليها شاقاً.
© The Independent