من “خريف الكلام” إلى “شتاء السخط”


مشكلات العالم أكبر من اهتمامات القوى العظمى على القمة والقوى الإقليمية على السطح

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

دورة كئيبة في عالم كئيب، هي الدورة الـ77 في الجمعية العامة للأمم المتحدة. أعلى منبر دولي لخطب يتلوها من لم يكتبها، ولا يستمع إليها إلا المكرهون. الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش يحذر من “وضع خطير وشلل بسبب الانقسامات المتزايدة بين الشرق والغرب جراء حرب أوكرانيا”، ويرسم صورة مخيفة بالقول “نحن في بحر هائج ويلوح في الأفق سخط عالمي في الشتاء”. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يحضر الدورة يتحدى الأمم المتحدة والقانون الدولي والميثاق، بالإصرار على احتلال دولة مستقلة وضم أجزاء منها إلى روسيا بعد استفتاءات مضحكة. ومجلس الأمن عاجز عن تحقيق مهمته الأساسية “الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين”، حين يكون التهديد من دولة كبرى تتمتع بحق الفيتو.

لكن عجز المجلس مرتبط بعوامل عدة والمشكلات والأخطار سابقة لحرب أوكرانيا، بصرف النظر عما فتحه الغزو الروسي في قلب أوروبا من أبواب للخطر بعد 77 سنة من تأسيس الأمم المتحدة ونهاية الحرب العالمية الثانية. بوتين ادعى أنه أمر بعملية عسكرية وقائية لحماية روسيا من “خطر وجودي وإنهاء الأحادية القطبية الأميركية، وإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب وديمقراطي”. ولم تكن أوكرانيا تشكل حتى خطراً أمنياً على روسيا، ولا كان “الناتو” عازماً على قبول عضويتها. وليس هناك بالفعل نظام عالمي أحادي القطب، ولا نظام عالمي متعدد الأقطاب. فالعالم في فوضى متعددة الأقطاب بلا نظام له حد أدنى من الضوابط. فوضى على القمة حيث التنافس والصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، وسط ما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نيويورك بأنه “إمبريالية روسية جديدة”. وفوضى على السطح عبر الطموحات الإمبراطورية لقوى إقليمية تستخدم القوة مباشرة، وبالواسطة لاحتلال أراض وحكم شعوب كما هي حال “إسرائيل الكبرى” وتركيا “العثمانية الجديدة” وإيران “الثورة الإسلامية والإمبراطورية الفارسية”.

أكثر من ذلك، فإن العالم الذي تأسست فيه الأمم المتحدة تغير كثيراً. عالم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية تغير. عالم صراع الجبارين تغير بعد نهاية الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي، لكن مجلس الأمن لا يزال على صورة التوازنات القديمة، وإن صارت الجمعية العمومية تضم 193 دولة. حق الفيتو محصور بخمس دول هي أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا. والطموح إلى حق الفيتو هو من حق دول مثل ألمانيا واليابان والهند وجنوب أفريقيا، غير أن محاولات الإصلاح والتوسيع فشلت لاصطدامها بامتيازات الدول الخمس التي يستحيل الإصلاح من دون موافقتها. حتى مشروع إدارة الرئيس جو بايدن لتوسيع مجلس الأمن بما يحقق “التوازن الجغرافي” والمتغيرات، فإنه مرشح للفشل. وكل أمين عام فتح ملف الإصلاح وجد نفسه مضطراً إلى التسليم بالأمر الواقع. لا بل إن الدعوة من خلال تركيبة المجلس الحالية، إلى اشتراط أن يستخدم الفيتو عضوان من الأعضاء الخمسة لقتل أي مشروع كان مصيره سلة المهملات.

مايكل بكلي أستاذ العلوم السياسية في جامعة “تافتس” يسأل، “كيف يشكل الخوف من الصين نظاماً عالمياً جديداً؟”. وقمة “منظمة شنغهاي” طرحت السؤال المعاكس، كيف يشكل الخوف من أميركا نظاماً عالمياً جديداً؟ والأجوبة حتى الآن ناقصة. أميركا سلطت الأضواء على منطقة المحيطين الهندي والباسيفيكي بعد الأطلسي وذهبت إلى تحالف “أوكوس” وتفاهم “كواد” لإدارة “التعاون والتنافس والخصومة” مع الصين، وفتحت عبر “الناتو” جبهة الصراع غير المباشر مع روسيا. والصين وروسيا تستخدمان “منظمة شنغهاي” كنوع من ديكور أوراسي لشراكة استراتيجية بينهما، لكن مشكلات العالم أكبر من اهتمامات القوى الكبرى على القمة والقوى الإقليمية الكبيرة على السطح. والعالم ينتقل من “خريف الكلام” إلى “شتاء السخط”.