قلق الملالي يتزايد من التدريبات العسكرية المشتركة بين “الإخوة الثلاثة”: تركيا وأذربيجان وباكستان
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
في خمسينيات القرن الماضي، كان حول إسرائيل في فلسطين المحتلة طوق عربي مزدوج: طوق جغرافي مباشر تشكله “دول الطوق”: سوريا، ومصر، والأردن، ولبنان. وطوق “مساند” عبر بقية البلدان العربية من المحيط إلى الخليج.
لم يكن ممكناً إحداث أي خرق في الطوق. ولا كان مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها ديفيد بن غوريون يريد ما هو أكثر من “اتفاقات الهدنة” مع دول الطوق، لأن “البحث في السلام له ثمن جغرافي”، كما روى عنه أبا إيبان في مذكراته.
لكن، بن غوريون لجأ بدعم أوروبي وأميركي إلى “طوق إقليمي”، للحد من قوة الطوق العربي على طريقة ماوتسي تونغ في “توسيع الحصار” أو “محاصرة الحصار”: أربع دول صديقة للغرب وإسرائيل في محيط العالم العربي انتظمت في تحالفات معادية للعرب هي: تركيا، وإيران، وباكستان، وإثيوبيا.
وهذا ما تغيرت الدنيا حوله من خلال تطورات في دول الطوق الإقليمي، واتفاقات سلام مع بعض دول الطوق الجغرافي، وبعض بلدان الطوق “المساند”.
اليوم، تعمل إيران على إقامة طوق صاروخي حول إسرائيل تسميه “جبهة المقاومة” في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة. مهمة الطوق تحقيق “توازن رعب” مع إسرائيل، دفاعاً عن جمهورية الملالي ضد أي اعتداء إسرائيلي، مع التلويح بشعار “إزالة إسرائيل”.
وإسرائيل ترد باللجوء إلى ما يشبه خطة بن غوريون في الماضي: ترتيب وجود أمني واستخباري على الحدود مع إيران للمراقبة بالمسيرات، وأحدث أنواع التكنولوجيا في أذربيجان، ومن خلال “اتفاقات أبراهام” مع دول عربية، وقصف مستمر، بالتفاهم مع موسكو، على القوات والأسلحة الإيرانية والميليشيات التابعة لها والعاملة في سوريا، لا سيما قرب الخطوط مع الجولان السوري المحتل.
والرد الإيراني الأول كان إجراء مناورات عسكرية على الحدود مع أذربيجان، شعارها بالغ التعبير: “المنتصرون في خيبر”. وقلق الملالي يتزايد من التدريبات العسكرية المشتركة بين “الإخوة الثلاثة”، أي تركيا وأذربيجان وباكستان.
لكن، التطويق جزء من سياسات الكبار أيضاً. أميركا عملت على تطويق الاتحاد السوفياتي عبر استراتيجية “الاحتواء”، التي دعا إليها الدبلوماسي جورج كينان، وكان حلف “الناتو” جزءاً منها. وموسكو ردت بحلف “وارسو”، ونصب الصواريخ في كوبا، والتهديد بحرب في برلين وتحريك ثورات في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
أزمات جرى تجاوزها بتفاهمات أو بالاستعداد الجدي للحرب. وحين نجح “الاحتواء” وسقط جدار برلين والاتحاد السوفياتي، اندفع الغرب في تطويق روسيا عبر توسيع “الناتو” إلى معظم الدول التي كانت في المعسكر الاشتراكي على حدود روسيا.
وهذه “غلطة كبيرة”، كما قال جورج كينان نفسه، لأنها استفزت روسيا، وحالت دون علاقات جيدة بين موسكو والغرب. وها هو ذا الرئيس فلاديمير بوتين، يحذر الغرب من مد الناتو إلى جورجيا وأوكرانيا، ويحمي بيلاروس، ويلعب في كوبا وفنزويلا وعدد آخر من بلدان أميركا اللاتينية، ويكسر طوق الناتو في تركيا، ويصل إلى البحر المتوسط بالانخراط في حرب سوريا.
واللعبة نفسها تدور بين أميركا والصين. ففي مواجهة الصعود الصيني واستراتيجية “الحزام والطريق”، التي تعطي الصين مواقع مهمة في آسيا وأوروبا وأفريقيا، تعمل أميركا على تطويقها في المحيطين الهندي والهادي من خلال أمور عدة، أبرزها تحالف ثلاثي لمواجهة قوة الصين البحرية وتحالف رباعي لمواجهة قوتها البرية. وهي، كما يقول الدبلوماسي المخضرم في سنغافورة، بيلاهاري كوسيكان، “تبسط الأمور في جنوب شرق آسيا، وهذا غلط يقود إلى الفشل”. ترفع شعار إذا لم تكن هذه المنطقة “حرة”، فإنها “حمراء”. وإذا لم تؤيد منظمة “آريان” سياسة واشنطن، فإنها في خطر أن تسيطر عليها الصين.
والواقع أن جنوب شرق آسيا “مفترق طرق استراتيجية”. لا بلد فيها يستطيع أن يقبل علاقة حصرية مع أميركا أو الصين أو أية دولة أخرى. وكل دولة “لا تستطيع تجنب العلاقات السياسية والاقتصادية مع أكبر قوة آسيوية، وإن كانت ترى سياسة الرئيس شي جينبينغ عدائية”.
وحدود اللعبة واضحة. لا يمكن “احتواء الصين”، كما يقول مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، وليم بيرنز، في كتاب “القناة الخلفية”. ولا أحد من الخبراء في أمور الصين استطاع إقناع الرئيس، جو بايدن، بالتبصر في خطر التركيز على المواجهة الواسعة مع الصين والاستمرار في استفزاز روسيا بنصب الصواريخ على مقربة من حدودها. ولا شيء يوحي أن الصين وروسيا تقللان من مخاطر الصدام مع أميركا. لكن سياسة “التطويق المتبادل” مستمرة في الشرق الأوسط ومناطق العالم.