هل تؤشر نتائج الانتخابات الألمانية إلى عودة اليسار الأوروبي إلى السلطة؟


مقابل كل شخص يرى بزوغ فجر اليسار الأوروبي الجديد هناك من يستبعد ذلك معتبراً أن فكرة عودته من قبيل أمل بالجنة وحنين إلى ماضٍ ولى

ماري ديجيفسكي كاتبة @IndyVoices

بعد حوالي أسبوعين على الانتخابات الألمانية ونتائجها لا تزال في طور التشكل لتقارب النقاط التي حققها الطرفان الرئيسيان. لكن المفاوضات قد بدأت بين حزب الديمقراطيين الاشتراكيين الذي يمثل تيار يسار الوسط من جهة، وكل من حزبي الخضر والديمقراطيين الأحرار Free Democrats المؤيدين لاقتصاد السوق الحرة من جهة أخرى. النتيجة المتوقعة هي ائتلاف ملون مثل “إشارة السير الضوئية”: اللون الأحمر يمثل حزب الديمقراطيين الاشتراكيين SPD والأصفر حزب الديمقراطيين الأحرار FDP وحزب الخضر. مرشح الديمقراطيين الاشتراكيين أولاف شولتز، سيخلف أنغيلا ميركل في منصب المستشار الألماني.

في هذه الأثناء يتخبط حزب ميركل الذي يمثل تحالف تيار يمين الوسط المؤلف من حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي وحزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي في بافاريا، مع مرشحه الرئيسي أرمين لاشيت Armin Laschet، الذي توجه إليه أصابع اللوم لقيامه بحملة انتخابية باهتة أدت إلى التفريط ليس فقط بالانتخابات التي كان الفوز فيها حليفه، ولكن أيضاً ــ الأسوأ [الأفدح]ــ تفريطه بإرث ميركل. ولو بدا في وقت من الأوقات أن أداءه كان أفضل مما كان متوقعاً في يوم الانتخابات وكان يمكن أن يساعده ذلك في محاولة تشكيل ائتلاف، الذي يبدو احتمالاً بعيداً أكثر اليوم مما كان عليه يوم الانتخابات.

هذا لا يعني أن الأمر سيكون سهلاً على شولتز Scholz في تشكيل ائتلاف (حاكم). إذ يقف الخضر بعيداً في أقصى اليسار في مواقفهم حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فيما يدافع حزب الديمقراطيون الأحرار FDP عن مبدأ فرض ضرائب أقل ويدافع عن مصالح قطاع الأعمال، خصوصاً المؤسسات الصغيرة. في النهاية لن يتضح اتجاه الحكومة الألمانية الجديدة قبل التوصل إلى تنازلات سياسية من خلال توزيع المناصب الوزارية على أطراف الائتلاف.

لكن بإمكاني المغامرة والمراهنة على أمر واحد. إن حكومة شولتز الملونة بألوان الإشارات الضوئية من شأنها، لو كتب لها أن تتشكل، أن تكون بداية صعود يسار الوسط الألماني. وقد يسهم وجود حزب مثل الديمقراطيين الأحرار في الائتلاف في بقاء الحكومة بعيداً من برنامج الخضر الطامح لإرساء برنامج يسعى لإرساء المساواة. لكن الديمقراطيين الأحرار سيكونون الحزب الهامشي [النقيض] في الائتلاف، فالغالبية الحكومية ستتشكل من الخضر والاشتراكيين. وعلى الرغم من الجنوح الطبيعي للحزب الديمقراطي الاشتراكي نحو الوسطية مثله مثل الحزب المسيحي الديمقراطي، فإن الاختلاف بين الائتلاف الجديد المتوقع والائتلاف العظيم السابق (بين يمين الوسط ويسار الوسط) والذي شغل خلاله شولتز منصب وزير المالية ونائب المستشارة (ميركل) قد يكون أكثر حدة مما يتكشف من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة.

قد ينتظر الألمان (من الحكومة الجديدة) العمل على رفع الحد الأدنى للأجور إلى حد كبير، وزيادة الجهود لتنمية المناطق المحرومة (أو المتخلفة بعض الشيء) بين مناطق ألمانيا الغربية (السابقة) ومدن ما كان يعرف بألمانيا الشرقية السابقة، ويتوقع أيضاً أن تركز الحكومة الجديدة على التعليم، مع تجديد وتطوير برامج التعليم التقني في المدارس وتحديث الجامعات الألمانية. قضية المناخ ستكون أولوية بالنسبة إلى الحكومة الجديدة مع توقع نشوب الجدل حول من المسؤول عن دفع فاتورة خطوات حماية البيئة، (دافعو الضرائب أم قطاع الأعمال)، ودرس مصير قطاع صناعة السيارات الألماني، والجدوى من إلغاء اعتماد البلاد على الطاقة النووية وتلك المعتمدة على الفحم الحجري.

يمكن للمرء أن يجادل أن الكثير من هذه التغييرات يمكن ضمها إلى برنامج تحديث التزم به الحزبان الرئيسيان خلال حملتهم الانتخابية. كان هناك اعتراف (لدى الجانبين) أن ألمانيا كانت تكابد ركوداً في نواح مختلفة خلال السنوات العشر الماضية. لكن سيكون لائتلاف يتزعمه شولتز صبغة يسارية ظاهرة، وستكون تلك المرة الأولى التي يصل فيها حزب يساري ــ أجل أجل (لا تغضبوا) سنقول يسار الوسط ــ إلى السلطة في ألمانيا منذ دعا غيرهارد شرويدر إلى انتخابات مبكرة في 2005 ثم خسرها.

وهذا سيكون له أثر عميق في النقاش الأوسع. هل التغيير الذي تشهده ألمانيا ــ هو تغيير، ويجب الاعتراف هنا، أنه لم يكن متوقعاً مع انطلاق الحملات الانتخابية في مطلع الربيع الماضي، عندما اعتبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمثابة حزب في طريقه للانهيار الأبدي ــ هو رد فعل يتيم على 16 عاماً من حكم ميركل، أم أن انتصاره له دلالات مختلفة؟ وإذا كان كذلك، هل فوزه جاء كجزء من تغيير أوسع في المشاعر السياسية في أوروبا أو حتى أبعد منها في الدول الصناعية الكبرى ككل؟

الآراء تبدو منقسمة حيال هذه القضية كما هي منقسمة حيال مواضيع كثيرة أخرى. فمقابل أي شخص يقول إنه يلاحظ ظهور أول الأعلام [المؤشرات] التي تؤشر إلى بزوغ فجر يساري جديد، تجد شخصاً آخر ينفي ذلك الرأي ويعتبره “كأمل إبليس في الجنة” في أفضل الأحوال وفي أسوئها يعتبره نوعاً من الحنين الذي يحمله جيل من السياسيين والمثقفين أصبح في طور الأفول مع كل ما حمله يوماً من أفكار.

دعوني أؤكد هنا ومنذ البداية أنني لست طرفاً في تلك المعركة، فأنا أحاول البقاء على مسافة مشككة من السياسة مثل بعدي عن مراكز السلطة. ولكن يبدو لي أن اليسار الذي كان قد قضي على فرصه (الانتخابية) ــ أقله بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بحزب العمال البريطاني خلال الانتخابات العامة البريطانية الأخيرة، ــ ربما يمر بمرحلة إيجابية، وربما من السابق لأوانه إحالة كل الأفكار اليسارية التي لطالما ضرب بها المثل (في الماضي) إلى سلة مهملات التاريخ.

فمع وصول ائتلاف حكومي يقوده حزب العمال بعد الانتخابات في النرويج، لدى كل الدول الإسكندنافية اليوم حكومة يقودها يسار الوسط. وكذلك الأمر في إسبانيا والبرتغال. في فرنسا، انتخب إيمانويل ماكرون قبل أربعة سنوات بدلاً من كل من مرشح تيار يمين الوسط الجمهوري فرانسوا فيون Francois Fillon وأيضاً بدلاً من ممثلة أقصى اليمين مارين لوبن Marine Le Pen، ويتوقع أن يفوز ماكرون على منافسيه الرئيسيين من اليمين في انتخابات أبريل (نيسان) المقبل. في إيطاليا التي تقودها حكومة وحدة وطنية على رأسها ماريو دراغي، فاز وسطيون ومن يسار الوسط على المرشحين المنافسين من التيار اليميني في الانتخابات البلدية أخيراً.

ولا يجب أن ننسى أيضاً النصر الذي حققه جو بايدن على دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية العام الماضي، وأنه حتى الآن قد انتهج سياسات محلية مثل مساعيه لإنعاش الاقتصاد الأميركي أو في محاولته التعامل مع جائحة كورونا يمكن اعتبارها سياسات لها طابع يسار الوسط الأوروبي (ناهيك عن أنه في الولايات المتحدة لطالما كانت سياسات التيارات الرئيسية في البلاد أكثر إلى اليمين من مثيلاتها هنا في أوروبا.) ويمكنني أن أشير أيضاً إلى الأداء القوي الذي سجله الحزب الشيوعي في روسيا خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي قاد الحزب خلالها حملته على مرتكز العدالة الاجتماعية ورفضه الفساد.

الآن هناك استثناءات أيضاً. فقد يؤدي ظهور نتائج تميل لصالح اليمين ويمين الوسط في العام المقبل ما يطيح بأي اعتقاد بوجود نزعة تحول واسع نحو اليسار. ويمكننا أن نضيف أيضاً في ذلك السياق، أن التصويت في كثير من الدول ــ ومن بينها ألمانيا ــ كان متقارباً جداً بين اليمين واليسار، وأدى ذلك إلى انتخابات غير حاسمة وكان لتحولات ضئيلة جداً أن تحدث فرقاً [تؤثر] بين بقاء أحد الأحزاب في السلطة أو خسارتها.

إضافة إلى ذلك، هناك جدل في إيطاليا يقول إن التقدم الذي حققه يسار الوسط يجب قراءته في إطار انخفاض حجم المشاركة (في الانتخابات) عموماً بالنسبة لجميع الأحزاب. وهذا يمكن تفسيره من خلال شعور كثيرين بالإحباط من تنازلات قدمتها أحزاب كانت حتى الأمس القريب تعتبر أحزاب “بديلة” أو “شعبوية” مثل حركة الخمسة نجوم Five Star Movement، وعصبة الشمال Lega Nord عندما استلمت زمام السلطة أم شاركت فيها. بكلام مختلف، لو كان هناك بديل حقيقي، كان الناخبون الإيطاليون ليدعموه بدلاً من عزوفهم وبقائهم في منازلهم. للأسباب ذاتها يبدو لي أنه من المبكر والمبكر جداً رؤية صعود اليسار لو كان ذلك هو ما نراه كدليل على أن قوة جذب الشعبوية قد انحسر فقط بسبب خروج ترمب من الساحة وآخرين من أبناء جلدته مثل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي قد يبدو اليوم على شيء من الضعف.

في المقابل، هناك أسباب لا يمكن تجاهلها تفسر لماذا قد يتطلع الناخبون في كافة الدول الصناعية في العالم إلى اليسار مرة أخرى (كبديل محتمل)، إن كان ذلك إلى يسار الوسط مثل ما جرى في ألمانيا والدول الإسكندنافية اليوم أو ـــ مثل ما رأيناه في روسيا الشهر الماضي، أو في انتخابات المملكة المتحدة عام 2017 ــ إلى اليسار (الراديكالي).

لقد كانت الأزمة المالية العالمية للعام 2007-2008 مرحلة صادمة التي ربما خلفت أثاراً مستدامة ــ مثل الأثر الرجعي لسياسة التحفيز المالي، والإرث الذي تركته سياسات “التقشف” واستمرار الاستياء من البنوك والمصرفيين ــ أكبر مما كنا نتوقعه. ثم تلا ذلك انتشار الجائحة التي كشفت [هوة التفاوت الاجتماعي] وعدم المساواة على كافة المستويات في العالم المتقدم ــ وإمكانيته، وهنا الشكر للتقدم في قطاع الاتصالات الذي سمح للناس بمقارنة أداء حكوماتهم ونظامهم الصحي بالدول الأخرى بشكل مباشر.

إن الأمراض [العلل أو الآفات] الاجتماعية التي عظمتها الجائحة والآثار طويلة الأمد التي تركتها أزمة اليورو كانا موضوعين رئيسيين في الانتخابات الألمانية الأخيرة. لكنها قضايا يصعب اعتبارها مشكلة ألمانيا وحدها، فهذه القضايا عابرة للحدود. لذلك أنا لا أعتقد أن صفحة الكوربينية Corbynism (في إشارة إلى زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين) والتي جذبت الكثيرين، خصوصاً من الشباب، إلى ساحات التظاهرات المطلبية قبل أربعة سنوات قد تم تحطيمها [إطاحتها]، وربما قد تم خنقها على يد وسطية كير ستارمر. في الواقع فإن ستارمر قد يكون في وضع أصعب اليوم من نظرائه على البر الأوروبي لأن بوريس جونسون قد ذهب إلى أبعد مدى في محاولته طرح إدخال سياسات تتعلق بالاستثمار والتعليم والعدالة الاجتماعية، كان يمكنها أن تكون من أسس سياسة ستارمر.

الامتحان المقبل حول الجهة [المنحى] التي سيسلكها العالم الصناعي على المستوى السياسي قد تظهرها نتائج الانتخابات الفرنسية الرئاسية في الربيع المقبل. فقد يعكس النهج الذي ستقوم على أساسه حملة ماكرون الانتخابية إن جنح يميناً أم يساراً، تقديره للأمور وسيؤشر ذلك إلى أي اتجاه سيطغى قبل ظهور النتائج بوقت كبير.

© The Independent