مقتطفات عن مستقبل أسواق الطاقة


ماذا سيحصل لسياسات التغير المناخي إذا ما نجح دونالد ترمب أو ممثل له في الانتخابات الأميركية في 2024؟

أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة @anasalhajji


قريباً، سيبلغ “الجنون المناخي” و”جنون الحياد الكربوني” أوجه، وسيعود بعض الرشد إلى سياسات بعض الدول. فأزمة الطاقة أصبحت عالمية: عجز في إمدادات الفحم والغاز والكهرباء، في وقت لا تستطيع الطاقة المتجددة تغطية أكثر ما يمكن تقديمه حسب حالة الطقس، وفي وقت ضرب فيه الجفاف دولاً عدة في أنحاء مختلفة من العالم، فانخفض مستوى المياه في السدود، وانخفضت كميات الكهرباء المولدة من الطاقة الكهرومائية.

لا شك في أن فيروس كورونا والجفاف لعبا دوراً في الأزمة الحالية، ولكن الجزء الأكبر من الأزمة سببه السياسات الحكومية، خصوصاً في أوروبا. فأزمة الطاقة البريطانية داخلية محضة وسببها السياسات المختلفة للحكومة. فقد نتج عن هذه السياسات وقف استخدام الفحم في توليد الكهرباء، وتحرير أسعار الغاز، في الوقت الذي شجعت فيه هذه السياسات على تخفيض السعة الاستيعابية لخزانات الغاز، وتم التحول من عقود الغاز المسال الطويلة المدى التي تضمن أسعاراً معينة إلى الشراء من الأسواق الفورية، حيث يمكن للأسعار أن ترتفع بأكثر من عشرة أضعاف فجأة كما حصل أخيراً. صاحب ذلك انتعاش اقتصادي بعد انتهاء عمليات الإغلاق والحجر، فزاد الطلب على الكهرباء بشكل كبير. وأسهم ارتفاع درجة الحرارة في تفاقم الأزمة، فزاد الطلب على الكهرباء بشكل أكبر.

أما أزمة البنزين في بريطانيا فلا علاقة لها بـ”أوبك”، ولا بأي دولة نفطية. السبب هو سياسات الحكومة التي قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتوافق مع كورونا. ما أجبر عشرات الألوف من سائقي الشاحنات والصهاريج، ومعظمهم من أوروبا الشرقية، على مغادرة بريطانيا. ولم تقم بريطانيا بإيجاد نظام جديد للعمال الأجانب، لهذا لجأت إلى الجيش لقيادة الصهاريج وتوزيع البنزين.

الأمر نفسه ينطبق على دول أوروبا الأخرى التي تسرعت في إغلاق محطات الفحم والطاقة النووية، من دون إيجاد بديل، مقتنعة بأن الطاقة الشمسية والهوائية ستغطي ذلك. ولكن الشمس لا تشرق ليلاً والهواء لا يعصف في كل الأوقات، لهذا لم يكن هناك بديل سوى الغاز، فارتفعت أسعار الغاز إلى مستويات تاريخية. أي نظرة حكيمة للواقع تبين أن إغلاق أي محطة كهرباء يمكن أن يتم بسرعة، ولكن بناء البديل قد يستغرق سنوات.

“النفاق البيئي” و”التمييز العنصري البيئي”

أثبتت التجربة الحالية في أوروبا ما أذكره منذ زمن بعيد عن “النفاق البيئي”. هذه الدول تتبنى التغير المناخي والحياد الكربوني طالما أنها غنية وفي رغد وراحة من العيش. ولكن، متى تعارضت سياسات التغير المناخي مع سياسات الأمن القومي أو الاقتصادي، فإنها ستضرب بسياسات التغير المناخي عرض الحائط. ومتى تهددت راحة “الناخب” فإنها تتخلى عن سياسات التغير المناخي خلال دقائق. سياسات التغير المناخي أداة تستخدم في أوقات معينة فحسب، بينما تطالب الدول الأخرى، خصوصاً المنتجة للنفط والفحم، بالالتزام الكامل بسياسات التغير المناخي. وتطالب أفقر دول العالم بالتخلي عن الوقود الأحفوري لمصلحة الطاقة الشمسية، بشكل يمنع هذه الدول من التطور والنمو الاقتصادي.

ففي الوقت الذي تشتكي فيه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من ارتفاع أسعار البنزين وتطالب دول “أوبك” برفع الإنتاج، طالب مسؤول أميركي في فريق جون كيري، مبعوث المناخ، الدول الأفريقية بوقف إنتاج النفط والغاز! الدولة التي تنتج أكثر من 11 مليون برميل يومياً تطالب دولاً منتجة صغيرة بالكاد تطعم شعبها بوقف إنتاج النفط والغاز!

حزب العمال البريطاني حزب يساري متطرف في موقفه المناخي لدرجة أنه أصدر “مانفيستو” مناخياً يطالب فيه دول العالم بتخفيض انبعاثات الكربون. ويريد، تماماً مثل بايدن، إعادة بناء السياسة الخارجية بناء على مدى إسهام الدول في الحياد الكربوني. ومن ثم فإن التجارة الخارجية والعقوبات الاقتصادية ستكونان مبنيتين على مدى ملاءمة سياسة الدول الأخرى لما يراه هذا الحزب. وتم التركيز على الصين وضرورة قيامها بدورها في تخفيض الانبعاثات. منذ أيام، أعلن أحد البارزين في الحزب وعضو سابق في مجلس العموم البريطاني، إيين رايت، أن سبب أزمة الطاقة في بريطانيا هو الصين. قالها بطريقة اتهامية أن بكين هي التي سببت مشكلة الطاقة في بريطانيا لأنها بدأت بالتخلص من الفحم واستخدام الغاز بدلاً منه! ويقصد بذلك أنه لو استمرت الصين باستخدام الفحم، لما استخدمت الغاز الذي يحتاج إليه المواطن البريطاني! قمة “النفاق البيئي” و”التمييز العنصري البيئي”!

السيارات الكهربائية

لنستعرض المشهد الحالي: على الرغم من زيادة مبيعات السيارات الكهربائية، لم تحقق أي شركة أرباحاً من المبيعات (أرباح “تيسلا” من بيع الكربون عن طريق الاعتمادات التنظيمية، فإذا ألغي هذا القانون، انتهت “تيسلا” معه)! على الرغم من ارتفاع مبيعات السيارات الكهربائية، فإن الإعانات الحكومية تقدم للمنتجين والمشترين في الدول التي تنتشر فيها هذه السيارات. هل يمكن للقارئ الكريم أن يذكر منتجاً أو منتجين تقدم فيه الحكومة دعماً للمنتج وللمستهلك، في عدد كبير من الدول غير السيارات الكهربائية؟

لنستمر في استعراض المشهد

1- أعلنت الشركات المنتجة للشرائح الإلكترونية في تايوان عن رفع أسعار الشرائح ما بين عشرة في المئة و20 في المئة. ويتوقع خبراء أن يكون هناك ارتفاعات أكبر في الشهور المقبلة. هذا يعني ارتفاع تكاليف السيارات الكهربائية.

2- أعلنت شركات مصنعة للسيارات الكهربائية رفع أسعارها، بما فيها “تيسلا”، بينما لم تعلن أي شركة عن أي تخفيض في الأسعار.

3- رفعت ولايات أميركية عدة رسوم تسجيل السيارات الكهربائية بدلاً من ضريبة الطرق التي تدفع عادة عن طريق شراء البنزين.

4- بدأت دول عدة بتقديم تشريعات جديدة لفرض ضرائب على استخدام الطرق لتحصيل ضرائب من سائقي السيارات الكهربائية.

5- تخطط الحكومة النرويجية الجديدة، بعد تجاوز نسبة مبيعات السيارات الكهربائية 80 في المئة من إجمالي مبيعات السيارات الكلية إلى تخفيض الإعانات من جهة، وإعادة فرض الضرائب على السيارات الكهربائية الفخمة من جهة أخرى. الكل يعلم أن السيارات تتغير بعد سنوات عدة. ماذا سيحصل بعد سبع سنوات من الآن مع تلاشي الإعانات وفرض ضرائب على السيارات الكهربائية؟ والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو لماذا لم ينخفض استهلاك البنزين والديزل طردياً مع زيادة أعداد السيارات الكهربائية؟

6- أحد الأسباب الرئيسة لانتشار السياسات الكهربائية، خصوصاً في ولاية مثل كاليفورنيا والنرويج، هو الميزات الجانبية، غير الإعانات الحكومية، مثل السير في الطرق المخصصة للحافلات، وعدم دفع أجور الطرق السريعة، والحصول على مواقف مجانية. مع انتشار السيارات الكهربائية، الناس كافة تصير مثل بعضها، وتنتهي هذه الفوائد. المحامي الذي يحصل على 400 دولار في الساعة في كاليفورنيا يشتري سيارة كهربائية، إضافة إلى السيارات التي يملكها، لاستخدامها وقت الزحمة لتوفير الوقت وعدم خسارة الوقت في الزحام فحسب. مع انتشار السيارات الكهربائية، سيعود الزحام كما كان، ولن توفر له السيارة الكهربائية هذه الميزة.

7- السيارات الكهربائية ما زالت مرتفعة الثمن حتى مع الإعانات، مقارنة بسيارة مماثلة تعمل على البنزين. وطالما أن سيارة “لوسيد” في الأخبار هذه الأيام، وهي من أكثر السيارات الكهربائية فخامة، فإليكم أسعارها: “لوسيد إير” تبدأ من 277 ألف ريال سعودي (نحو 74 ألف دولار)، من دون ضرائب. و”لوسيد دريم” (الحلم)، تبدأ من 633 ألف ريال سعودي (نحو 169 ألف دولار) قبل الضرائب. وكل هذه التكاليف لا تشمل تكاليف البنية التحتية لبناء شبكة لشحن بطاريات هذه السيارات.

8- مع الارتفاع الشديد في أسعار الكهرباء في أوروبا، فإن تكاليف شحن السيارات الكهربائية سترتفع، ولن ينقذها في هذه الحالة إلا الضرائب العالية على البنزين، وضرائب الكربون. إيطاليا رفعت أسعار الكهرباء بنحو 30% منذ يوم الجمعة الماضي! بمعنى آخر، الحياد الكربوني سيرفع تكاليف المعيشة، وسيرفع مستويات التضخم.

خلاصة الأمر أن مبيعات السيارات الكهربائية ستستمر بالنمو ضمن الظروف الحالية، ولكن لنموها حدود، وإذا انقطعت الكهرباء في أوروبا وكاليفورنيا وارتفعت أسعارها إلى مستويات قياسية وما زال عدد السيارات الكهربائية بسيطاً للغاية، فما بالك عندما تمثل جزءاً كبيراً من السيارات؟

الطاقة المتجددة

أكرر ما ذكرته مرات عدة سابقاً، التنافس بين الطاقة المتجددة والنفط محدود عالمياً، ومعدوم في كثير من الدول الصناعية. لهذا، فإن زيادة انتشار الطاقة المتجددة، خصوصاً في الدول الصناعية، لن تؤثر في الطلب على النفط. المشكلة أنه مع زيادة حصة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء فإن العالم يحتاج إلى مزيد من الوقود الأحفوري أو النووي لتغطية العجز عندما لا تسطع الشمس أو تتوقف الرياح.

هذا يعني أنه في الوقت الذي لا تؤثر فيه الطاقة المتجددة في الطلب على النفط، فإنها تؤدي إلى زيادة الطلب على الغاز والفحم والطاقة النووية! ولنتذكر ما حصل في بريطانيا يوم 6 سبتمبر (أيلول) عندما وصلت أسعار الكهرباء بالجملة إلى مستويات قياسية: تمكنت بريطانيا في العامين الماضيين من الحصول على الكهرباء بالكامل ليوم أو يومين من طاقة الرياح، وجن جنون الإعلام اليساري بهذا الخبر. ولكن يوم 6 سبتمبر توقفت الرياح، ووقعت الكارثة!

الواقع أنه كلما زاد الاعتماد على الطاقة التي تعتمد على الطقس بشكل يومي، فإن التقلبات والذبذبات في المعروض والأسعار ستزيد. أما الطاقة الكهرومائية فإنها عرضة لتغيرات الطقس الفصلية. لن يكون هناك مشكلة إذا ما كان هناك محطات وقود أحفوري ونووي لتوليد الكهرباء في أوقات لا تستطيع الطاقة المتجددة أن توفر الكهرباء. المشكلة أن نظاماً كهذا مكلف جداً، ومن يقول بانخفاض تكاليف الطاقة الشمسية والرياح يتجاهل تكاليف المحطات الاحتياط من الوقود الأحفوري، وإن كان لكل بلد ولكل منطقة خاصيتها.

الحياد الكربوني

معظم ما تقوم به الشركات والحكومات الحالية هو خطوات بسيطة وسهلة تجاه الحياد الكربوني. إلا أن الباقي سيكون ألاعيب محاسبية، والأدلة على ذلك كثيرة. فانسحاب صناديق الاستثمار من الاستثمار في الوقود الأحفوري لا أثر له في أرض الواقع لأنها تبيع الأصول إلى شركات أخرى. الأمر نفسه ينطبق على شركات النفط التي تحاول التخلص من أكثر الأصول تلويثاً. ومعظم الشركات تقوم بحساب ما تقوم به منذ سنوات تجاه الحياد الكربوني، وبالتالي فإن ما تعلنه هو تحصيل حاصل. الواقع أن أكبر أثر سيأتي من التحول من الفحم إلى مصادر الطاقة الأخرى، ولكن جزءاً من هذا تحصيل حاصل، إذ إنه تم التحول في الصين والهند والولايات المتحدة تاريخياً بسبب الانخفاض الكبير في أسعار الغاز.

وهناك قناعة لدى عدد كبير من العلماء والخبراء، وحتى متطرفي التغير المناخي، أنه لا يمكن الوصول إلى الحياد الكربوني. في ظل هذه الظروف، مع نقص إمدادات مصادر الطاقة والكهرباء، سيكون هناك وقفة مع النفس لمراجعة ما حدث، وما يمكن أن يحدث. من هنا، فإن احتمال فشل قمة المناخ 26 كبير، إلا إذا ما تمت هذه المراجعة في ظل الأزمات الحالية. واعتقد أنه إذا ما قرر الرئيس الصيني عدم الحضور، فإن هذا كاف لأن يعلن البعض فشل المؤتمر.

الخلاصة

الطلب العالمي على الطاقة سيستمر بالزيادة، والطلب على وسائل المواصلات سيستمر بالزيادة. لهذا فالعالم يحتاج إلى كل وسائل الطاقة والمواصلات. في الوقت نفسه، تعاني المدن الكبيرة تلوثاً كبيراً، ويجب اتخاذ الإجراءات التي تخفض من التلوث، بما في ذلك توفير النقل الجماعي واستخدام السيارات الكهربائية. المشكلة هي التطرف المناخي. ما نحتاج إليه هو سياسات منطقية وواقعية. لا يمكن الحصول على كل شيء، إذ علينا أن نتخلى عن أشياء للحصول على أخرى. ولا يمكن للعقل والمنطق أن يتحكما في مستقبل الطاقة والمواصلات، في ظل “الجنون المناخي” الذي نشهده الآن. إلا أن أزمة الطاقة الحالية حول العالم بدأت تعيد بعض السياسيين إلى رشدهم. والأمل هو الوصول إلى سياسات متوازنة، بعيداً عن التطرف والعنصرية.

نقطة أخيرة، ماذا سيحصل لسياسات التغير المناخي إذا ما نجح دونالد ترمب أو ممثل له في الانتخابات الأميركية في 2024؟