وظائف لبنان المخطوف: ورقة، رهينة وجائزة


لا قوة تستطيع إقامة دولة دينية في بلد يضم 18 طائفة

رفيق خوري كاتب مقالات رأي  الأربعاء

تاريخ لبنان لم يبدأ مع المقاومة الإسلامية في الثمانينيات من القرن الماضي، كما توحي الادعاءات. والقبض على مفاصل السلطة فيه ليس نهاية التاريخ. لكنه حالياً بلد مخطوف، ولا جدوى من إنكار ذلك. لا قوة داخلية تبدو قادرة وحدها على فك الأسر. ولا قوة خارجية تدفعها حساباتها الجيوسياسية المدعومة بحراك محلي قوي إلى فك أسره من طهران، كما حدث عام 2005 و”ثورة الأرز”، إذ جرى فك أسره من دمشق. “الثورة” الشعبية السلمية عام 2019 اصطدمت بجدار النظام والقوة الحامية للمافيا السياسية والمالية والميليشياوية، وعجزت عن إنقاذ البلد. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول، مع حرارة الانفجار الرهيب الذي دمر مرفأ بيروت وأحياء من المدينة، لكن اللعبة كانت أكبر منه. وما نجح فيه أخيراً بعد عام من زيادة الحال سوءاً وخطورة ومن الحوار مع إيران وما قيل عن تفويض أميركي له، هو مجرد السماح بتأليف حكومة للبلد المخطوف. فلا هو تمكّن من فك الأسر، ولا ما اضطر إلى التسليم به في إطار المصالح الفرنسية والحفاظ على دور باريس سوى تخفيف ظروف الحياة القاسية للمخطوف.

الواقع أن لبنان الذي أصبح خاضعاً لهيمنة “حزب الله” هو بالنسبة إلى جمهورية الملالي في إيران “ملف” يقوم بثلاث وظائف في لعبة جيوسياسية: ورقة، رهينة وجائزة. هو ورقة في المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة الأميركية. ورهينة في حرب المشروع الإقليمي الإيراني، حيث المواجهة مع العرب والغرب. وجائزة للرابح حين يتم تحقيق المشروع الذي يتقدم يومياً في خطاب طهران. فمنذ سنوات ونحن نسمع مفاخرة مسؤولين إيرانيين بأنهم يحكمون أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وطهران. وأخيراً، اعترف اللواء علي غلام رشيد، قائد “مقر خاتم الأنبياء” بأن بلاده “نظمت ستة جيوش خارج أراضيها تشكل قوة الردع والدفاع” بالنسبة إليها، وهي “حزب الله” في لبنان، حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة، قوات النظام السوري، “الحشد الشعبي” في العراق و”أنصار الله” الحوثيون في اليمن. ولم يعترض أحد باستثناء “الجهاد الإسلامي” التي أحست بالإحراج وقالت إنها قوة من أجل تحرير فلسطين فحسب. لا بل إن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وصف عناصر “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني بأنهم “جنود بلا حدود”. وهذا ليس مجرد خطاب سياسي بل موقف يستند إلى الدستور المصادق عليه عام 1989. فالهدف بحسب الدستور هو “بناء الأمة الواحدة في العالم”. و”قوات الحرس الثوري لا تلتزم مسؤولية حراسة الحدود فحسب، بل تحمل أعباء رسالتها الإلهية أيضاً، وهي الجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”.

لكن لبنان المخطوف لا يزال لبنان الذي يبقى تغيير هويته وإلغاء تاريخه وتدمير “رسالته” للعيش المشترك مهمة مستحيلة بالنسبة إلى أي قوة. والنظام فيه، على ما تكشّف من نواقص، ليس مجرد ترتيب داخلي بل ترتيب إقليمي ودولي منذ القرن التاسع عشر أيضاً. وقمة الواقعية هي قول الشيخ محمد مهدي شمس الدين إن “المشكلة في لبنان هي توليد شرعية سلطة مدنية على أساس ديني، ولا مجال لدولة دينية في مجموعات متنوعة”. فلا قوة تستطيع إقامة دولة دينية في بلد يضم 18 طائفة، وليس في دستوره أي نص على دين الدولة أو دين رئيس الدولة، خلافاً للدساتير في معظم دول العالم. ولا مجال للتحايل على ذلك بدعوات حزب ديني وأحزاب طائفية إلى دولة مدنية. فالدولة المدنية هي دولة المواطنة. واللبنانيون لا يزالون رعايا طوائف. والدولة الدينية هي بطاقة عودة إلى “محاكم التفتيش” في أوروبا خلال العصور الوسطى، ودعوة إلى “دولة داعش” ولو من خلال مذهبية مختلفة.

والمعادلات واضحة: لا تحرير يكتمل من دون تحرر وطني واجتماعي. ولا لبنان يستحق هويته وتراثه وإبداعه الأدبي والفني إذا ما سادته الظلامية وتحكّم به الغيب.

المقاله تعبر عن راي كاتبها