الرواية التاريخية والرواية الدينية


الأولى تقبل النقاش حول الشخصيات والأحداث بينما الأخيرة امتداد للأيديولوجيا اعتماداً على مفهوم الإيمان والعقيدة

مصطفى الفقي كاتب وباحث

يثير التفاوت بين الرواية الدينية كما جاءت في الكتب المقدسة الثلاثة وبين نظيرتها التاريخية التي يتحدث عنها علماء الآثار ومؤرخو الأحقاب القديمة تساؤلاً مشروعاً لدى كثير من فلاسفة التاريخ وعلماء السياسة، ناهيك عن رجال الدين الذين يرون، ومعهم حق، أن الإيمان الذي يتسلحون به ويصدرون عنه هو إيمان مطلق لا يقبل الانتساب لغيره ولا يحتمل تأويلاً يختلف عن سواه، ولقد عاصرت شخصياً حوارات طويلة حول سؤال محدد عمن هو فرعون موسى؟ بل وازداد البعض شططاً بالقول من هو موسى ذاته؟ هل هو نبي اليهودية؟ أم هو أخناتون أول من بشّر بالتوحيد في مصر القديمة؟ خصوصاً أن الفارق الزمني بين الروايتين لا يزيد على 60 عاماً في ذلك الزمن السحيق.

ولعل الذي يثير كل هذه التساؤلات هو الرغبة بتمحيص الرواية التاريخية وتطويعها للمنطوق الديني، بينما يرى آخرون أن الهدف من ذلك هو تطويع النص الديني للحدث التاريخي الملموس وهم يرفعون؛ أي أولئك الذين يدافعون عن الرواية التاريخية، بأن ما ليس له أثر باقٍ لا وجود له ويكون التشكيك في روايته قائماً، فالكعبة المشرفة قائمة، إذاً فكل ما قيل حولها منذ أن بناها إبراهيم وقدسها العرب قبل الإسلام وبعده يظل دائماً ذا مصداقية لأن وجودها حتى اليوم يدل على صدق الحوادث التي ارتبطت بها أو دارت فيها، كما أن حروب الفراعنة وطقوس معابدهم هي شاهد آخر على صدقية الحضارة المصرية القديمة، وهل يخفى على أحد أن اكتشاف مراكب الشمس يدل على فهم المصري القديم لمعنى الإبحار والاختلاط بالأمم الأخرى! وهل لا يعني ذلك أيضاً أن الأهرامات والمعابد وصولاً إلى “حجر رشيد” وفك طلاسمه منذ مئتي عام ألا يُحسب كل ذلك للحضارة الفرعونية ويشير بوضوح إلى أصالة ما رُوي عنها وسلامة ما كتب حولها؟ أما لماذا أثير هذا الأمر الآن، فهو بسبب ما أشيع أخيراً عن المحاولات الغربية بل والأميركية تحديداً لدمج الديانات الإبراهيمية الثلاث في منظومة واحدة تقترب أحياناً من النزعة الماسونية وتبتعد غالباً عن المصلحة المشتركة لأصحاب الديانتين المسيحية والإسلامية، ولعلي أطرح هنا الملاحظات التالية:

أولاً: إن منطقة الشرق الأوسط بما فيها غرب آسيا وجزء من شمال أفريقيا هي مهبط الديانات السماوية ومركز التنوير الروحي منذ ظهرت اليهودية وتبعتها المسيحية ثم جاء بعدهما الإسلام الحنيف، ويعني ذلك بوضوح أن البقعة التي نعيش فيها والإقليم الذي ننتسب إليه هو أرض المقدسات والمركز الروحي للديانات السماوية الثلاث، كما أن ذلك تأكيد آخر على أن الصراعات السياسية في الشرق الأوسط لا تخلو من مؤثرات دينية ودعاوى يختلط فيها التاريخ بالدين، فتناصر كل شيعة أهلها حتى أصبحت المنطقة وكأنها مملكة الطوائف وأرض الاختلافات من أجل تطويع الحقائق لخدمة أهداف سياسية.

ثانياً: إن معظم حروب الشرق الأوسط قد اتخذت من بعض المقدسات محوراً للتقاتل الشرس والحروب الدامية، ويكفي أن نتذكر أن حروب الفرنجة المسماة خطأ بالحروب الصليبية هي أكبر دليل على تلوين السياسة بالدين وتغطية المصالح بقشرة روحية تجذب البشر وتدفعهم إلى مواجهات طويلة عبر العصور، ولا يعني ذلك إلا أن هناك مغالطات كبيرة في التفاسير الدينية مع افتراء شديد على بعض الديانات لصالح الأخرى مع الشطط في تأويل النص وتحريف الحقيقة مثلما هو الأمر بالنسبة إلى من يتحدثون عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى حتى تنازعت الأطراف وحمل كل منها شعوره الخاص لتقديمه كحجة يؤمن بها ويقتنع بجدواها.

ثالثاً: إن القصص الديني كما ورد في الكتب المقدسة يعطي انطباعاً قوياً بالتداخل والتشابه على نحو يؤدي إلى الالتباس الذي لا يخفى على أحد، فكل قصة تأتي في إطار يختلف عن غيره ويسمح ببعض التغيير الذي يعطي ميزة لأصحابه وهوية محددة للطرف الذي يدافع عنه، وإذا أخذنا قصص الأنبياء والمرسلين، على سبيل المثال، فإننا سوف نجد أن كل ديانة قد تناولت أنبياء الله من زاوية مختلفة عن غيرها مع اعترافنا بالاندماج الواضح بين (العهدين القديم والجديد) حتى إننا نرى في أسفار التوراة ما يفسر آيات الإنجيل ولذلك قيل، والعهدة على أساتذة علم فلسفة الأديان المقارن، أن المسيحي يولد يهودياً حتى يتم تعميده وعندئذ فقط يكون قد اقترن بالدين المسيحي الصحيح وأصبح ابناً مخلصاً للرب يسوع من وجهة نظره.

رابعاً: لا ينبغي أن نتصور أن الحالة الدينية على ما يرام بالنسبة إلى الديانات المختلفة في أنحاء الكوكب، فكما أن الإسلام يواجه تحدياً كبيراً بلغ حد ما نطلق عليه “الإسلاموفوبيا”، فإن الكنيسة المسيحية، خصوصاً الكاثوليكية منها، تعاني تراجعاً واضحاً مع انتشار موجات الإلحاد، تحديداً بين الشباب في مختلف الدول التي تتمتع بغالبية مسيحية، والإلحاد آفة تطل برأسها على العالم في الأعوام الأخيرة تدفع نحو القلق تجاه مستقبل الممارسات الدينية وطاقات الإيمان التي تضخها الأديان في شرايين كثير من شعوب الأرض. فالإسلام الذي يبدو هدفاً في كثير من الأحيان لخصومه، ينظر هو الآخر في قلق إلى ما يعتري الكنيسة المسيحية من اضطرابات وصراعات وصعود وهبوط.

خامساً: لقد بدأت إرهاصات الكتابات المعادية للإسلام منذ قرون عدة، تحديداً بعد الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) التي حارب فيها ملوك أوروبا أهل المنطقة وقاموا بغزو فلسطين ومحاولة الاستيلاء على بيت المقدس بدعوى أن الأتراك السلاجقة لم يدركوا الإسلام الصحيح وأساؤوا معاملة أهل الكتاب وأساؤوا للوافدين من أوروبا لزيارة الأماكن المقدسة، وإذا صح هذا التفسير أو لم يصح، فإن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن اختلاط الدين بالسياسة في منطقة الشرق الأوسط كان ولا يزال وربما سوف يظل أيضاً لفترات مقبلة واحداً من أسباب التوتر وعوامل القلق لهذه المنطقة شديدة الحساسية، التي استقبلت رسالات السماء في تعاقب وتسلسل أدّيا إلى اختلاط الرواية الدينية الصحيحة وحتى التاريخية الموثقة بعدد من الأساطير التي شاعت وترسخت في أعماق شعوب الشرق الأوسط واختلطت بالصراعات السياسية حتى تحوّل الدين إلى أداة في الخصومات التاريخية بين الأطراف في المنطقة.

إن الوقوف طويلاً أمام التأثيرات الدينية في الحياة السياسية بل والثقافية أيضاً في منطقة غرب آسيا هي التي أنجزت في النهاية ذلك الصراع المحتدم بين أطراف ينتمي كل منها إلى عقيدة دينية أو نزعة طائفية أو أيديولوجيا فكرية، بينما تدفع شعوب المنطقة الثمن الفادح لهذه الخطوط المتقاطعة في محاولة لتلويث الدين بالسياسة وإشاعة أجواء العداء غير المبرر، لذلك فإننا نقول إن تديين السياسة خطأ وتسييس الدين خطيئة!

 إن الرواية التاريخية تقدم تفسيراً موازياً لما قدمته نظيرتها الدينية حول الشخصيات والأحداث والانفعالات المصاحبة لها، إننا منفتحون على كل المفاهيم المتصلة بالعلاقة بين الدين والسياسة ولكن يجب أن يدرك الجميع أن الأولى تبدو كمجموعة حقائق تقبل الجدل والنقاش، أما الأخيرة فهي امتداد للأيديولوجيا التي تحرك الشخوص والأحداث اعتماداً على مفهوم الإيمان والعقيدة ولا تقف عند استحضار حدث بذاته أو استدعاء نموذج بعينه.

اندبندنت

المقالة تعبر عن راي كاتبها