حرب الحلفاء: مال واستراتيجية


خسارة الصناعة العسكرية الفرنسية مليارات الدولارات موجعة والمؤلم هو تجاهل موقع باريس في المحيطين الهادي والهندي

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

ليس في الشراكات بين الدول ما يولد فجأة من دون مقدمات. ولا أحد يتصور أن تحالف “أوكوس” الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا جرى طبخه في القمة الافتراضية بين الرئيس جو بايدن ورئيسي الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأسترالي سكوت موريسون، فالدول الثلاث شريكة من قبل في منظومة “العيون الخمس” للتعاون في مجال الاستخبارات. وإدارة بايدن حددت منذ البدء في وثيقة “التوجيه الاستراتيجي” منطقة المحيطين الهادي والهندي لـ”الوجود العسكري الأقوى”. وقالت إن “الصين هي الدولة الوحيدة ذات القدرة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي من شأنها أن تهدد جدياً المنظومة الدولية المستقرة والمفتوحة”. والعلاقات معها ستكون مراوحة بين “التنافس والتعاون والخصومة”. ومن الطبيعي أن تعمل واشنطن، من بين أمور عدة، على تحضير المسرح لشركة أمنية في منطقة الهادي والهندي مع بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي وأستراليا المتوجسة من قوة الصين العسكرية. لكن الإعداد كان ناقصاً. فلا الاتحاد الأوروبي جرى إطلاعه والتشاور معه، وهو أكبر مستثمر في منطقة الهندي والهادي بنحو 12 تريليون يورو، و40 في المئة من التجارة معه تمر في بحر الصين، ولا باريس تسلمت رسالة خطية من أستراليا تبلغها بالتراجع عن شراء 12 غواصة فرنسية بمليارات الدولارات للحصول على ثماني غواصات أميركية سريعة تعمل بالدفع النووي.

ولا مفاجآت في ردود الفعل. الصين قلقة، كذلك كوريا الشمالية. فرنسا غاضبة جداً ومعها الاتحاد الأوروبي، وروسيا سعيدة بالخلاف بين أميركا وأوروبا. وزير خارجية باريس جان إيف لودريان تولى المواجهة بالحديث عن “طعنة في الظهر” و”خيانة” و”دبلوماسية متوحشة” في العمل مع الحلفاء، معلناً سحب السفيرين الفرنسيين في واشنطن وكانبيرا. وهذه واحدة من الأزمات الثلاث الكبيرة بين فرنسا وأميركا. الأزمة الأولى قادها الجنرال ديغول حين قرر انسحاب بلاده من الجانب العسكري لحلف “الناتو” وطلب سحب القوات الأميركية من بلاده. والثانية صنعها الرئيس جاك شيراك بالاعتراض على الغزو الأميركي للعراق، وقام وزير الخارجية دومينيك دو فيلبان بالرد على معلومات كاذبة في خطاب مسرحي لوزير الخارجية الأميركي كولن باول أمام مجلس الأمن. والثالثة هي الأزمة الحالية التي تحدث في وقت عصيب للرئيس إيمانويل ماكرون في الموسم الانتخابي.

كان الجنرال ديغول يقول “فرنسا ليست قوة عظمى، لا اقتصادياً ولا عسكرياً، ولذلك يجب أن تكون لها سياسة عظمى”. وهذا ما حاوله خلفاؤه في الرئاسة بمن فيهم شيراك وماكرون. ديغول أصر على “استقلال” فرنسا بقوة نووية. وماكرون طرح مشروع “الاستقلال الاستراتيجي” للاتحاد الأوروبي. لكن الخلاف بين الحلفاء له حدود. ديغول حافظ على التعاون مع واشنطن: على الرغم من الانسحاب من الأطلسي والرد القاسي من وزير الخارجية دين راسك، الذي قال له بعد إبلاغه القرار بسحب قوات بلاده “هل تريد أن نسحب قبور جنودنا الذين سقطوا دفاعاً عن فرنسا؟”. فحين أوفد البيت الأبيض الجنرال والترز إلى باريس ليطلب التعاون في موضوع حساس وبدأ يشرح التفاصيل والمعلومات قال له ديغول “لا حاجة، تكفي كلمة رئيس أميركا”. وشيراك عاود التعاون مع أميركا، وماكرون محكوم بالتعاون.

والمشكلة هذه المرة أن الخلاف مالي واستراتيجي. خسارة الصناعة العسكرية الفرنسية مليارات الدولارات موجعة. والمؤلم أيضاً هو تجاهل موقع فرنسا في استراتيجية المحيطين الهادي والهندي، مع أن بايدن أصر على القول “فرنسا شريك مباشر وليس لدينا أي فعل يمكن أن يغضب الفرنسيين”، وهو جاء إلى الرئاسة رافعاً شعار التشاور والمشاركة مع الحلفاء. وما كان خارج التوقعات أن يعلن “وزير” الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل أن التحالف الثلاثي “يجبرنا مرة أخرى على (تطوير الاستقلال الاستراتيجي) وإن من المؤسف التقليل من أهمية استراتيجية الاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادي”. لكن الواقع أن أوروبا لا ترى ضرورة للمواجهة مع الصين واستفزازها بدل التعاون، في حين يضع تحالف “أوكوس” الصدام بين الاحتمالات.

دوفيلبان رسم في الماضي معادلة محددة “لا أوروبا بلا دفاع أوروبي، ولا دفاع أوروبياً بلا بريطانيا”. اليوم تقرأ لندن في كتاب آخر. وأمس عندما كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، قال إن “هدف بوش من إعلان محور الشر ليس العراق وإيران وكوريا الشمالية بل فرنسا وروسيا والصين”. ولا أحد يربح في حرب الحلفاء.