مؤامرات أم منافسات؟


علينا التعامل مع الظاهرة دون مهادنة أو مبالغة والاستعداد للمنافسة المشروعة بعزيمة منفتحة وروح خلاقة

نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق

نتحدث كثيراً في الشرق الأوسط والدول العربية بخاصة عن المؤامرات التي تستهدفنا ‏سعياً للنيل منا لصالح غير العرب في المنطقة، أو من قبل الدول الكبرى في مختلف أنحاء العالم.

‏وظل العالم العربي مستهدفاً طويلاً بالفعل نتيجة لموقعه الجغرافي الحساس وثرواته الطبيعية المتعددة من قبل ‏الاستعمار الأوروبي في العصر الحديث، والدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك من غير العرب في المنطقة، فقُسّم المشرق خططاً بحسب مصالح بريطانيا وفرنسا، وتعرضت مصر للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام 1956، وغزت أميركا العراق عام 2003 “لخلق عدم الاستقرار في الشرق الاوسط” بحسب مقولة الجنرال الأميركي ويسلي كلارك بعد أعوام من الجهد الدولي المشروع لتحرير الكويت من غزو صدام حسين.

وأتذكر أيضاً لقاء لي قبل ذلك عام 2000 مع ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي قبل سفره في جولة شرق أوسطية واستغرابي حينذاك لإصراره بأن يكون الوضع في العراق على رأس قائمة نقاط حديثه، وعدم اكتراثه بإشارات للنزاع العربي الإسرائيلي، وهناك أيضاً مقولة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق شارون في مذكراته بأنه لا داعي للدخول في حروب واسعة مع العرب، ويفضل تقليبهم على بعضهم في ضوء المشكلات القائمة بينهم، فضلاً عن ركاكة أوضاعهم الداخلية.

‏إذاً المؤامرات واقع إنما أسأل نفسي كثيراً هل نحن كعرب مستهدفون أكثر من غيرنا؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فما هو السبب في ذلك؟ ‏ومن ناحية أخر،ى أتساءل هل كل هذه المؤامرات حقيقية أو نبالغ كعرب في تصوير الأمور، لتبرير عدم نجاحنا في مواجهة التحديات والمخاطر.

‏ما زلت أرى أن هناك دوافع استراتيجية وأطماعاً في الثروات ‏تجعل العرب مستهدفين، حتى بعد انتهاء عصر الاستعمار الأوروبي، ‏وأهمها كما ذكرت الموقع الجغرافي وثرواتنا الطبيعية والمادية، فلا تزال لها جاذبيتها، على الرغم من التطور التكنولوجي الذي غيّر أهمية المسافات، ونوّع من مصادر الثروة ومن مصادر الطاقة.

وأعتقد أن التجارب التاريخية أثبتت أن الأطراف الأقوى يستسهلون التآمر على من يرونهم أضعف طمعاً في إنجازات صفرية، سواء كان ذلك من خارج المنطقة أو من داخلها، علماً أن خاصية مهمة للتآمر على العرب كانت أن التآمر في غالبية الأحيان يتم بالمشاركة مع طرف عربي أو شرق أوسطي.

‏ومع هذا، تقتضي الأمانة المصارحة ‏بأن العالم العربي يبالغ كثيراً في التنويه بالمؤامرات إزاء كل مشكلة ‏وتطور يفاجَأ به، لضعف التخطيط الاستراتيجي المستقبلي ولعدم استعداده لمواجهة المستجدات ولضعف سبل شرحه للتطورات وخطط التصدي لها، فضلاً عن الاعتماد المبالغ فيه على الغير، مما أضعف من قدراته الذاتية، خصوصاً في أدوات الأمن القومي، مما يعرّضه لضغوط خارجة عن سيطرته ويخلّ بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة، ويخلط سهواً أو عمداً بين المؤامرة غير المشروعة والمنافسة الطبيعية والصريحة مع الغير وبين الإخوة والأخوات العرب ذاتهم.

‏و‏لعله من الملائم أن نضع هذه الأسئلة في البال في تقييم خبر نقلته وكالة روسيا اليوم نقلاً عن قناة RBC، تضمن أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أعرب عن تأييده لمبادرة “مسار الأرز” ‏والمخطط له أن يمتد عبر منطقة سيبيريا، ليصبح بديلاً لطريق الحرير الكبير الصيني وقناة السويس المصرية. وأضاف، “تبلورت ضرورة إنشاء مثل هذا الممر الآمن للنقل بشكل واضح منذ فترة طويلة، بخاصة عند استذكار الأحداث الأخيرة المتعلقة بانسداد قناة السويس وهجمات القراصنة وكذلك الأوضاع الراهنة في أفغانستان”، وتابع أن “مسار الأرز أهمية كبيرة بالنسبة إلى روسيا باعتباره فرصة للاندماج في شبكات الإنتاج العالمية بين أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي”. وأوضح شويغو أن مراكز الإنتاج في سيبيريا التي ستكون لها إمكانية الوصول إلى “مسار الأرز” ستمنح قدرة لنقل المواد والمكونات بين أطراف الشبكات الإنتاجية وستساعد على تطوير وتنمية سيبيريا. ونشر أن الملياردير الروسي أوليغ ديريباسكا تقدم بمشروع لإنشاء مسار نقل جديد عبر سيبيريا وصفه بـالبديل لقناة السويس المصرية.

وفي ضوء متانة العلاقات الروسية المصرية وعدم وجود مبرر لتآمر، من المتوقع أن يكون هذا الموضوع محل دراسة عميقة وثاقبة في مصر وعلى مستويات مختلفة، من حيث مضمون الفكرة ولصدورها عن وزير الدفاع الروسي، ومن المؤشرات إلى جدية وحساسية الأمر أن المسؤولين المصريين لم يتطرقوا إلى هذا التصريح علناً حتى الآن.

وعلى مصر وغيرها من الدول تقييم هذه الفكرة وغيرها بموضوعية، فهناك أيضاً مشروع الحزام والطريق الواحد من الصين، وما يتحدث عنه الرئيس الأميركي بايدن عن تحالف غربي لطرح مشروع اقتصادي عالمي لينافس المشروع الصيني، كلها تؤثر في الممرات المائية والبرية لنقل البضائع والطاقة، بل هناك مشاريع اقتصادية متعددة بين أطراف عربية وشرق أوسطية، قد يكون لها آثارها في الممارسات التقليدية التاريخية لدول المنطقة، كما أن التطور الاقتصادي والتحديث الذي نشهده في البحر الأبيض المتوسط أو الخليج العربي في مجال الطاقة غيّر من المعادلة الاقتصادية، بخاصة في ما يتعلق بالبنية الأساسية والمواصلات من موانئ ومطارات والطيران، ومن شأنها أن تؤثر في مصالح بعض الأشقاء العرب في المنطقة، بل بين دول الخليج العربي ذاتها، فهل يعني هذا أننا نتآمر على بعضنا البعض، أم أن المسألة تنافس مشروع حتى بين الأصدقاء والأشقاء؟

علينا إذاً التعامل مع المؤامرات من دون مهادنة أو مبالغة، والاستعداد للمنافسة المشروعة والشرسة بعزيمة منفتحة وروح خلاقة، وهو ما يتطلب منا اتخاذ عدد من الإجراءات، من أهمها التخطيط السياسي الاستراتيجي للمستقبل حتى نكون على بيّنة وأصحاب قرار في مستقبلنا، وتقييم الصفقات قصيرة الأجل في إطار هذه الاستراتيجية العامة، وعدم السقوط في فخ الطمع في العائد السريع على حساب مصالحنا وحقوقنا، خصوصاً أن غالبيتها تكون لصالح الأطراف الأقوى دولياً وإقليمياً، إضافة إلى تكثيف الحوار والمصارحة بين الحكومات والشعوب العربية لضمان التفهم والتوافق حول معادلة وثمن حماية المصالح الوطنية الاستراتيجية وضرورات وطموحات الشعوب الآنية، بخاصة مع الشباب وهم الغالبية وأصحاب المستقبل والمتأثر بقرارات الحاضر سلباً أو إيجاباً، وبناء القدرات الذاتية الداخلية مادياً وفكرياً، فهي التي تشكل العمود الفقري للدولة، وتدعيم القدرات الأمنية والسياسية في مجال الأمن القومي، مع مزيد من التركيز على الاعتبار الإقليمي، فمن خصائص مرحلة ما بعد الحرب الباردة أقلمة نزاعاتها وعولمة أسواقنا.