أطلق بوش “الحرب على الإرهاب” مركزاً على “القاعدة” و”طالبان” وإيران مضيفاً نظام صدام حسين إلى اللائحة
وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية @WalidPhares
لقد واجه الرأي العام الأميركي في 10 أيام موجات من الضغط النفسي بكثافة لم يختبرها منذ ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، تلخصت بانسحاب فوضوي، ودموي، ودراماتيكي من أفغانستان من ناحية، وصدمة عاطفية في الذكرى الـ 20 لهذه الضربات، في ظل تساؤل حول معنى الحرب بكاملها، وأهدافها، ونتائجها، وخسارتها، وما هو المستقبل بعدها.
الانقسام العمودي في المجتمع تعّمق، كما كتبنا سابقاً، بسبب انقسام النخبة وصراع الإعلام على الأمور المصيرية، فما سمعناه، وشاهدناه، ورأيناه على شاشات التلفزة، وعبر السوشيال ميديا، خلال الانسحاب واحتفالات 11 سبتمبر، الأسبوع المنصرم، يمثل أكثر الأزمات السياسية والنفسية عمقاً منذ الحرب الأهلية الأميركية في القرن الـ 19، فالنخبة السياسية من الحزبين انشطرت حول رؤيا الأمن القومي، بالتالي السياسة الخارجية، وخلق ذلك شرخاً واسعاً على صعيد المواطنين، وبات واضحاً أن ما كان يعرف بأنه نظرة موحدة وطنية للشؤون الخارجية، ثنائية الحزبية، قد تقلّص وربما اندثر، وقد لعبت مأساة 11 سبتمبر، وحرب أفغانستان، دوراً بالغاً في هذا الانشطار الداخلي، واللافت للانتباه هو أن الرأي العام الدولي، لا سيما الشرق أوسطي، وبخاصة العربي، ربما لا يدرك خطورة المعادلة الأميركية الحالية، وتأثير الحربين في أفغانستان والعراق على التوازن الداخلي الأميركي. فلنستعرض تطور الثقافة السياسية تجاه الحرب على الإرهاب على مدى عقدين. ماذا جرى؟
تحديد 11 سبتمبر في 2002
على الرغم من الاختلافات السياسية الداخلية، اتفق الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، على أن الهجمات الإرهابية التي قتلت حوالى 3000 شخص في نيويورك، وواشنطن، وبنسلفانيا، هي هجمات إرهابية كبرى هندسها تنظيم “القاعدة”، ودعمتها قيادة حركة “طالبان”، وصفقت لها القوى “الإسلاموية” وأذرعتها الإعلامية، وأوحت بها عقيدة تكفيرية تهدف إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في العالم الإسلامي، وكذلك تمّ حسم مسألة من المسؤول. فالحرب كما توافقت الأكثرية الأميركية، ليست بين حضارات وأديان، بل بين المجتمع الدولي والإرهابيين، ومن هذه الأرضية التاريخية توحّد الأميركيون على دعم اجتياح أفغانستان لاقتلاع “طالبان”، وضرب “القاعدة”، ومنع قيام نظام متطرف في تلك البلاد حتى أن تقوم على رجليها بنفسها. هذا المبدأ وحّد أميركا كما لم تتوحد منذ الحرب العالية الثانية.
حرب العراق
وعلى هذه الأرضية، أطلق الرئيس جورج بوش “الحرب على الإرهاب” مركزاً على “القاعدة”، و”طالبان”، وإيران، وأضاف نظام صدام حسين إلى اللائحة، فانتزع قبولاً قومياً بشنّ حملة لإسقاط النظام في بغداد، “على ظهر الحرب على محور الشر”، إذ إن الرأي العام كان قد فهم سبب المواجهة مع “الإسلامويين”، بسبب 11 سبتمبر، وكان يتذكر ما فعله الإيرانيون بالرهائن في طهران في 1979 و1980، وما أقدم عليه “حزب الله” من خطف وقتل في لبنان في الثمانينيات، أما صدام، فالشعب الأميركي كان قد دعم بوش الأب في حملته لطرد الديكتاتور العراقي من الكويت، لكنه لم يكن مقتنعاً أن على واشنطن إسقاط كل ديكتاتور في العالم، إلا إذا شكّل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وهذا ما حاول أن يثبته بوش الابن للرأي العام في ملف أسلحة الدمار الشامل الذي لم يُثبت، ولكن بعد أن دخل الجيش الأميركي العراق، سقط الملف لانتفاء وجود الأسلحة، لكن صعود “القاعدة”، والجماعات المسلحة الإيرانية، ومهاجمتها العسكر الأميركي، أعطى شرعية لحرب العراق: مواجهة “القاعدة” وإيران.
ثقافة مواجهة الإرهاب
بعد ضربات 11 سبتمبر، وخطابات بوش التي حددت الأهداف والأعداء، وإسقاط “طالبان”، ومواجهة “القاعدة”، وإيران في العراق، جاءت لجنة 11 سبتمبر الثنائية الحزبين “The 9/11 Bipartisan Commission” في صيف 2004 لتصّلب القناعة لدى الشعب الأميركي أن الحربين الأميركيتين هما شرعيتان وتمثلان مفهوم الأمن القومي الأميركي، ومسؤولية الولايات المتحدة تجاه شعبها وحلفائها، وطبّقت الوزارات والإدارات هذه المبادئ على أرض الواقع على محورين، الأول ضرب المجموعات المسلحة المتطرفة في البلدين حتى قيام حكومات وطنية قادرة تعتمد على قوات مسلحة حاسمة، والثاني تنظيم مؤسسات دستورية، ديمقراطية ومساعدة المجتمع المدني لتنظيم صفوفه.
التمكين والانسحاب
وقد أيّد الرأي العام هذه العقيدة الاستراتيجية وقبل بالتضحيات الغالية بالدم والمال، حتى يتم بناء بلدان حليفان قادران على مواجهة المخاطر بالتنسيق مع واشنطن، كما أيّد الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية مساعدة الألمان والإيطاليين واليابانيين على بناء ذاتهم لمنع عودة الفاشية إلى بلادهم، وكان بالطبع الهدف النهائي الانسحاب لصالح حكومات تلك الدول وجيوشها الوطنية، وقد كان ربما ممكناً أن تتم الانسحابات بعد 10 سنين وليس 20 سنة، وطال صبر الأميركيين العاديين وهم ينتظرون “إتمام المهمة”، ولكن إتمامها لم يكن ممكناً من دون معركة أيديولوجية، تربوية، تثقيفية، على نمط الإصلاحات الفكرية السعودية، والمصرية، والإماراتية، على أرض الواقع في أفغانستان. لماذا؟
سنوات أوباما
إدارة بوش خاضت شبه حرب فكرية ضد التطرف لخمس سنوات من 2002 إلى 2006 حيث حاولت بثّ “مشروع الديمقراطية” في العراق وأفغانستان، ولكن بصعوبة وببطء، فهي لم تدخل المعترك العقائدي ضد المتطرفين بالعمق، ولم تفهم هذه الساحة كما يعرفها العرب والمشرقيون. لذلك، فمرحلة بوش قامت بجهد محمود ولكن ببطء خطير، إذ إن إدارته خسرت الأكثرية الجمهورية في 2006، بالتالي بدأت تواجه تياراً موالياً للسيناتور باراك حسين أوباما، الذي باشر بشراكة مع القوى الراديكالية اليسارية من ناحية، وتياري الإخوان والنظام الإيراني، وهذا عنى أنه قاوم مشروع بوش لمواجهة تلك القوى فكرياً في المنطقة.
وجسد أوباما سياساته هذه بخطابه في القاهرة ورسالته لخامنئي في يونيو (حزيران) 2009، فتوقفت البرامج المؤيدة للديمقراطية في المنطقة، واستبدلت بشراكات لصالح الإخوان، ومفاوضات مع الإيرانيين، أوباما أوقف الحرب الفكرية، وبدأ بفك الاشتباك مع القوى المتطرفة في المنطقة. استمر بأفغانستان أن وجود القوات الأميركية كان له تأييد في أميركا، فقرر الانسحاب من العراق أولاً، فنفذه في 2011، ودعمت إدارته الإخوان في “الربيع العربي”، وكان هدف إدارته تمكين “الإسلامويين” في المنطقة ليتمكن من نيل مساعدتهم للانسحاب من أفغانستان، إلا أن صعود تنظيم “داعش” غيّر المقاييس، فطالبت الأكثرية في أميركا بضرب “داعش” قبل أي انسحاب، فتأخرت خطة الخروج بسبب ضغط المواطنين على إدارته.
ترمب مفاوضات الدوحة
حملة الرئيس السابق دونالد ترمب الرئاسية وعدت بقطع العلاقات مع الإخوان، وتفكيك “داعش”، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأضافت أنها ستواجه التطرف التكفيري وتقيم تحالفات مع الدول العربية ضد المتطرفين، والتزمت بمنع “طالبان” من العودة إلى السلطة ودعم الجيش الأفغاني، فأيدته أكثرية ناخبة كبيرة أوصلته إلى البيت الأبيض. إدارة ترمب نفذت كثيراً من وعودها، كضرب “داعش”، والتصدي لإيران. إلا أنها، بتأثير من اللوبي القطري، جلست مع “طالبان” في الدوحة في آخر سنتين من الرئاسة، ووقعت على اتفاق الانسحاب، القاعدة الشعبية لترمب لم تسأل المفاوضين كثيراً عن ذلك الاتفاق لثقتها بشخص الرئيس وقتها. الإدارة وعدت بإنهاء الحرب الطويلة، وهو مطلب شعبي دائم، إلا أن الخطة الفعلية للانسحاب أجلّت لما بعد الانتخابات، ولكن ترمب خسر الرئاسة.
بايدن ينفّذ انسحاب أوباما
وكما رأينا في الأسابيع الماضية، نفذت إدارة جو بايدن ما وصفته “باتفاق ترمب” ولكن على أسس كان قد أطلقها أوباما، أي شراكة مع “الإسلامويين” عبر الدوحة والإخوان الذين يبدون ممسكين بالعلاقات العامة لـ “طالبان”.
شاهد الأميركيون العاديون صور الانسحاب الدراماتيكي، وسيطرة شخصيات “إرهابية” على السلطة، فصعقوا لما رأوه ولما سمعوه من إدارتهم الحالية، فالمبادئ التي بنيت عليها سياسة 9/11 سقطت، ومشروع الانسحاب القوي وإبقاء حليف موثوق على الأرض تبعثر، فبات الناس في الوطن الأميركي ضائعين، يسألون السؤال تلو الآخر:
ماذا نفذنا في أفغانستان بعد 20 عاماً؟
لماذا عدنا إلى العراق بعد أن خرجنا؟
لماذا انسحبنا من أفغانستان قبل إنهاء العدو وتمكين الحليف؟
لماذا باتت “طالبان” شريكتنا؟
من هم حلفاؤنا الحقيقيون في الشرق الأوسط؟
وأسئلة عديدة أخرى.
أزمة وجود فكرية تتوسع.