خراب جيوسياسي إقليمي بقرارات – خيارات أميركية

التصورات الخاطئة هي رهانات المحافظين الجدد الجهلة بتركيبة المجتمعات في العراق وإيران على أمور معاكسة للمنطق

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

ليس الانسحاب الأميركي من أفغانستان بكل ما له وما عليه سوى تكملة لقرارات سبقته حول الشرق الأوسط، وهي قرارات في مرحلتين متعاكستين: مرحلة استخدام القوة لفرض التغيير، ومرحلة التراجع وترتيب هبوط هادئ للانحدار الأميركي، وأبرزها ثلاثة قرارات – خيارات سيئة وخطرة قادت إلى أكبر خراب جيوسياسي في المنطقة على حساب العرب. أولها في ولاية الرئيس جورج بوش الابن، وثانيها في ولاية الرئيس باراك أوباما، وثالثها في الأشهر الأولى من ولاية الرئيس جو بايدن، أما قرارات الرئيس دونالد ترمب، فإنها كانت عشوائية وغير مألوفة من قوة عظمى بحيث أضرت بمكانة أميركا وهيبة الرئاسة.

الأول كان قرار بوش الابن ونائبه ديك تشيني والمحافظين الجدد في إدارته غزو العراق عام 2003 في إطار ادعاءات كاذبة وتصورات خاطئة، الادعاءات الكاذبة هي اتهام بغداد بتملك أسلحة الدمار الشامل من دون أدلة، ودعم تنظيم “القاعدة” الإرهابي الذي ضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 2001/9/11.

ولم يجد المفتشون الدوليون شيئاً قبل الغزو، ولا القوات الأميركية بعد الاحتلال. ويروي المحقق الفيدرالي الأميركي اللبناني الأصل، جورج بيرد، الذي حقق مع الرئيس صدام حسين قوله الموثق، “ليس لدينا أسلحة دمار شامل، لكننا أوحينا أننا نملكها لئلا نضع العراق في موقف ضعيف. إيران أخطر علينا من أميركا، وأسامة بن لادن زعيم (القاعدة) طلب منا عشرة ملايين دولار فلم نعطه دولاراً واحداً”.

والتصورات الخاطئة هي رهانات المحافظين الجدد الجهلة بتركيبة المجتمعات في العراق وإيران على أمور معاكسة للمنطق. ريتشارد بيرل اعتبر أن “سقوط صدام يحفّز الإيرانيين على التخلص من ديكتاتورية الملالي”، وروبرت كاغان، وسواه، مشوا في وهم مضحك هو الاعتقاد “أن إزالة صدام تدفع الشيعة العراقيين إلى الخلاف مع طهران”، لكن ما فعلته أميركا، سواء بالتخطيط والقصد أو بقوة الأشياء، هو تقديم العراق “هدية” للملالي الذين هيمنوا على بلاد الرافدين عبر حذف صدام الخصم القوي لهم الذي كان يلعب دور “حارس البوابة الشرقية للأمة”.

والثاني هو الذي اتخذه الرئيس باراك أوباما بالانسحاب الكامل من العراق بلا قيد ولا شرط، ثم بالاندفاع في التفاوض مع إيران من أجل اتفاق نووي بأي ثمن. الانسحاب خلق فراغاً أمنياً وسط سياسات داخلية عراقية سيئة بما أسهم في بروز “داعش” وإقامة “دولة الخلافة” فوق مساحات واسعة من العراق وسوريا. وهذا ما دعا بغداد، بدعم إيراني، إلى المطالبة بعودة القوات الأميركية لمحاربة “داعش”. و”تطويع” كل شيء من أجل الاتفاق النووي قاد إلى التسليم بالنفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن ضمن رهان أوباما الفاشل في بداية ما سمي “الربيع العربي” على إقامة توازن بين محور شيعي بقيادة إيران، ومحور سني بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان و”الإخوان المسلمين”، بما يريح أميركا من أعباء في الشرق الأوسط لتلتفت إلى التحديات في الشرق الأقصى.

والثالث هو ما يحاوله الرئيس جو بايدن، ضمن سياسة الخروج من قرارات ترمب، لإكمال ما بدأه أوباما. فالإدارة اندفعت نحو إيران واعدة بإلغاء تسعين في المئة من العقوبات مقابل عودة طهران عن خرق التزاماتها، وبالتالي عودة أميركا إلى الاتفاق النووي، ثم تحدثت عن تأخير إلى مرحلة ثانية، ما كانت تطلبه من قيود أكبر في الاتفاق النووي كما في ملف الصواريخ الباليستية، و”السلوك المزعزع للاستقرار”، والرد جاء بالغ التعبير من طهران: انتخاب المتشدد إبراهيم رئيسي رئيساً، وتأخير التفاوض في فيينا، وتشديد اللهجة، فضلاً عن دفع وكلائها في العراق إلى المطالبة بخروج القوات الأميركية فوراً، وهو ما دعا إلى الإعلان عن سحب “القوات المقاتلة” في نهاية العام.

والمشهد الجامع لهذه الصور هو، حتى إشعار آخر، خسارة عربية في الصراع الجيوسياسي وربح إيراني، لكن من الصعب أن يستمر هذا المشهد، بصرف النظر عما تفعله أميركا، فالعرب ليسوا خارج التاريخ. واللعبة الجيوسياسية تُدار في اتجاه محدد: تغيير النظام الأمني الإقليمي، وترتيب النظام الدولي بصفقة بين الكبار.