“رفع عنوان الإصلاح لم يعد مقنعاً لانعدام الثقة خلال السنوات الماضية بين المجتمع ومؤسسات الدولة”
أحمد السهيل مراسل @aalsuhail8
يمثل الفساد المالي والإداري أحد أبرز مرتكزات الإشكالات التي يعاني منها العراق خلال العقدين الماضيين، حيث تسبب الفساد بهدر المليارات من الدولارات التي كان يفترض أن تشكل عماد الاقتصاد العراقي، فيما تذهب عشرات المليارات سنوياً إلى فاسدين ومتنفذين حزبيين وميليشيات مسلحة، بحسب مراقبين.
وتقف العديد من العقبات في طريق إمكانية إنهاء ظاهرة الفساد في البلاد، لعل أبرزها استفادة قادة سياسيين بارزين وميليشيات مسلحة من هذا النشاط المالي الكبير، فضلاً عن غياب آليات الرقابة ونظام المحاصصة الذي أسس وفقه النظام السياسي في العراق ما بعد عام 2003.
ويعزز نظام المحاصصة في العراق من تفشي الفساد بشكل أكبر، حيث باتت غالبية الوظائف الرفيعة في الدولة العراقية تدار ضمن هذا العنوان، حتى بات العديد من المناصب ما دون الوسطية حصصاً لأحزاب ومافيات فساد.
إجراءات الكاظمي وارتفاع منسوب التفاؤل
وعلى الرغم من مرور العراق بالعديد من الأزمات المالية كان آخرها الأزمة المركبة خلال العام الماضي نتيجة تفشي فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط عالمياً، إلا أنها لم تحفز على اتخاذ أي خطوات حقيقية باتجاه إنهاء ملف الفساد في البلاد أو الإطاحة بالشخصيات الرئيسة المتورطة فيه.
وكانت جولة من الاعتقالات التي قامت بها لجنة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي المكلّفة بالتحقيق في قضايا الفساد الكبرى، في سبتمبر (أيلول) 2020، والتي أسفرت عن اعتقال عدد من المسؤولين الحكوميين بتهم فساد، قد رفعت منسوب التفاؤل في الشارع العراقي من احتمالية أن تكون تلك العمليات ممهدة للإطاحة برؤوس فساد كبرى في البلاد.
وكانت قوة عسكرية خاصة اعتقلت مدير هيئة التقاعد السابق أحمد الساعدي، ورئيس هيئة استثمار بغداد شاكر الزاملي ومدير عام المصرف الزراعي عادل خضير، فضلاً عن اعتقال مدير ومالك شركة (كي كارد) بهاء عبد الحسين، وآخرين ممن يشغلون مناصب إدارية رفيعة في الدولة العراقية.
وتبين طبيعة الشخصيات التي تم اعتقالها أو تسربت معلومات عن ملاحقتها خلال الفترات الماضية، أن تلك الحملات ربما ستكتفي بالإطاحة بشخصيات تشغل مناصب وسطية في الدولة من دون المساس بقادة الصف الأول من السياسيين.
وعلى الرغم من التفاؤل الكبير الذي حصل حينها، إلا أن أي إجراءات أخرى ترتقي إلى مستوى أعلى من الكوادر الوسطية لم يجر حتى الآن، الأمر الذي يعزز النظريات التي تقول إن ما جرى في الفترة الماضية كان نتيجة لتوافق بين القوى السياسية الرئيسة.
ملف تهريب الأموال العراقية
وإضافة إلى عمليات الملاحقة التي أدارتها حكومة الكاظمي خلال الفترة الماضية، دار الجدل طويلاً حول الأموال العراقية المهربة إلى الخارج، خصوصاً مع تفاقم الإشكالية المالية التي مرت بها البلاد مطلع العام الحالي.
وكانت العديد من عمليات الفساد وتهريب الأموال قد أديرت من قبل وزراء ومسؤولين بارزين في الحكومات العراقية المتعاقبة خلال السنوات الماضية، حيث صدرت أولى الأحكام بالسجن لمدة سبع سنوات على وزير الدفاع في حكومة إياد علاوي حازم الشعلان الذي هرب من البلاد بنحو مليار دولار، إلا أنه لم يجر إلقاء القبض عليه أو استرداد الأموال المنهوبة.
وتلا الشعلان العديد من الوزراء ورؤساء الهيئات والمسؤولين البارزين المتهمين أو من صدرت بحقهم أحكام قضائية بتهم فساد بمليارات الدولارات، وعلى رأسهم وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي والذي هرب من السجن إلى خارج البلاد.
فيما يمثل ملف وزير التجارة في حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والعضو البارز في حزب الدعوة عبد الفلاح السوداني، أحد أبرز تلك الملفات، حيث كان متهماً بسرقة 4 مليارات دولار، وتم الحكم عليه بالسجن 21 عاماً بعد هروبه إلى الخارج، إلا أن السوداني تم تسليمه إلى السلطات العراقية من قبل الإنتربول في يناير (كانون الثاني) 2018، وأفرجت عنه المحاكم العراقية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، حيث نص قرار المحكمة أنه أفرج عنه لتنازل المشتكين وقررت شموله بالعفو العام.
وتتباين تقديرات الأموال المهربة إلى خارج العراق إثر عمليات الفساد الممنهج خلال السنوات الماضية، حيث كان نواب في اللجنة المالية في البرلمان العراقي قد قدروا حجم تلك الأموال بنحو 350 مليار دولار، فيما يذهب مراقبون ومتخصصون اقتصاديون إلى تقدير الأموال المهربة إلى الخارج بأعلى من هذا الرقم بكثير.
“الإصلاح” عنوان لم يعد مقنعاً
ولطالما تردد مصطلح الدولة العميقة في وصف القوى السياسية التي تقف خلف حالات الفساد وتهريب الأموال الكبرى من البلاد، إلا أن أي إجراءات من شأنها محاسبة المسؤولين عنها لم ترتق إلى المستوى المطلوب، بحسب مراقبين.
وعلى الرغم من تفشي الفساد في الدولة العراقية والاتهامات الواسعة التي تطال العديد من الكتل والأحزاب السياسية البارزة على الساحة العراقية، إلا أن عنوان “الإصلاح ومكافحة الفساد” لا يزال يتصدر عناوين الدعاية الانتخابية للقوائم الرئيسة المتنافسة.
ويرى أستاذ الإعلام غالب الدعمي أن “رفع عنوان مكافحة الفساد لم يعد يقنع العراقيين، لانعدام الثقة خلال السنوات الماضية بين المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة”، مبيناً أن حالة عدم الثقة لم تعقد مقتصرة على مؤسسات الدولة بل باتت تشمل غالبية القوى السياسية في البلاد”.
ولا تخلو أي انتخابات في العراق من رفع العديد من القوى السياسية لعنوان مكافحة الفساد كهدف رئيس في حملاتها الدعائية، إلا أنها وبحسب الدعمي “لم تعد مقنعة للعراقيين سوى بعض الطبقات المرتبطة مصلحياً مع الأحزاب السياسية”.
وبشأن ما جرى من عمليات اعتقال لمتهمين بالفساد خلال حكومة الكاظمي، يعتقد الدعمي أن الشخصيات التي تمت الإطاحة بها خلال الفترة الماضية، تمثل “الكوادر الوسطية من جباة الأموال للفاسدين الرئيسيين”، مبيناً أن “الإطاحة برؤوس الفساد الكبرى يمثل أمراً صعباً لعدم وجود وثائق أو أدلة مباشرة عليهم”.
ولطالما انشغلت الأوساط العراقية بسيناريوهات محتملة في حال إسقاط رؤوس كبيرة متورطة بعمليات الفساد في البلاد، والتي ربما تتسبب بإشكالات أمنية نتيجة ارتباط معظم تلك الشخصيات بجماعات مسلحة أو مصالح مباشرة مع تلك الجماعات.
ويشير الدعمي إلى عدة عوامل تقف في طريق الإطاحة بالشخصيات الرئيسة المتورطة بالفساد في العراق، من بينها “الدعم التي تحظى به الشخصيات من أجنحة مسلحة أو دوّل خارجية”.
ويلفت إلى أن الفساد بات يشمل حتى بعض الوظائف البسيطة في الدولة العراقية، مستدركاً “بماذا يمكن تفسير وصول المحاصصة إلى مناصب الإدارات العامة في الدولة والتكالب بين الأحزاب على تلك المناصب سوى أنها باتت بوابات فساد لتمويل الأحزاب”. ويستبعد أن يتم حسم ملف الفساد في العراق، مبيناً أن السبب في ذلك يعود لكون العراق بات “مرتعاً لغاسلي الأموال والشركات الدولية والإقليمية”.
الميليشيات حجر عثرة في طريق مكافحة الفساد
ويبدو أن الدعم الواسع الذي توفره الميليشيات المسلحة للأحزاب المتهمة بالفساد يعد أحد أبرز المعرقلات التي تقف في طريق حسم العديد من ملفات الفساد، حيث يرى مراقبون أن أي عملية مكافحة للفساد تتطلب جهداً عسكرياً واسعاً.
ويحدد رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، عدة أسباب لتفشي الفساد في البلاد من بينها “سيطرة القوى السياسية على الجهات الرقابية الرسمية من خلال نظام المحاصصة السائد بعد عام 2003”.
ويشير الشمري إلى أن من بين الأسباب الأخرى هي “وجود تخادم بين القوى السياسية العراقية في قضايا الفساد وتقاسم الحصص، فضلاً عن وجود اتفاق غير معلن بين القوى السياسية على عدم تفعيل ملف محاسبة الفاسدين”.
أما الأمر الآخر، بحسب الشمري، فيتمثل بـ”وجود إشكالات في تشريعات مكافحة الفساد في البلاد الأمر الذي أتاح الفرصة للفاسدين بتطوير آليات التلاعب بالقوانين والالتفاف عليها”.
ويشير إلى أن “ملف مكافحة الفساد لا يقتصر فقط على التشريعات والمؤسسات الرقابية والقانونية، بل بات يتطلب تدخلاً عسكرياً واسعاً، لأن الفصائل المسلحة تمثل طرفاً رئيساً من أطراف الاستقواء على إجراءات مكافحة الفساد ودعم سياسيين نافذين متهمين بتلك القضايا”.
ويلفت إلى أن “ارتباط بعض ملفات الفساد بحلفاء دول وجهات خارجية بات أمراً معرقلاً لإمكانية مكافحة الفساد في العراق، حيث باتت تلك القوى تمتلك القدرة على إرباك الوضع الداخلي في البلاد”.
ويختم أن السبب في اقتصار ملف مكافحة الفساد على الكوادر الوسطية في الدولة “لأن ما فوقهم هم قيادات لأحزاب نافذة، ولذلك هناك شبه اتفاق على توقف عمليات الملاحقة على صغار الموظفين”.
المحاصصة مرتكز الفساد الأبرز
ويحدد مراقبون للشأن السياسي والاقتصادي العديد من العقبات التي تقف في طريق مكافحة الفساد في العراق، لعل أبرزها هو نظام المحاصصة الطائفية وتسلط الميليشيات المسلحة على العديد من مؤسسات الدولة ومنافذ المال في البلاد وتوفيرها الحماية لزعماء سياسيين يتهمون بالفساد، فضلاً عن دعم بعض الدوّل المتنفذة في الساحة السياسية العراقية لأحزاب تتهم بالفساد.
في السياق، يعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي عبد الحسن الشمري أن نظام المحاصصة يمثل العقدة الرئيسة التي تقف في طريق حسم ملفات الفساد. ويضيف لـ”اندبندنت عربية”، أن ما يجري من ملاحقات للفاسدين في البلاد لا يرتقي إلى ما هو أعلى من الكوادر الوسطية في مؤسسات الدولة في محاولة لإسكات الرأي العام العراقي”.
ويشير الشمري إلى أن أي محاولة للإطاحة برؤوس الفساد في العراق لا تشمل قادة من الصف الأول السياسي “لن تكون مقنعة”، لافتاً إلى أن “الأحزاب السياسية هي التي تدير مشهد الفساد الكبير في البلاد”.
ويبدو أن عدم تحقق الإرادة السياسية لمكافحة الفساد ودعم ميليشيات ودول مجاورة للأحزاب المتهمة بالفساد، تمثل عوامل رئيسة تعرقل أي تحركات لإنهاء ظاهرة الفساد في البلاد، كما يعبّر الشمري الذي يلفت إلى أن “العراق بات منفذاً لدعم اقتصادات بلدان مجاورة وتمويل جماعات مسلحة كبيرة”.
ويختم أن، ما جرى من إسقاط لكوادر وسطية في الدولة العراقية لم يعد مقنعاً، لأن الرأي العام العراقي بات يدرك أن تلك التحركات لا تجري إلا بتوافق سياسي بين القوى الرئيسة الداعمة لتلك الشخصيات”.
بالمقابل، يقول أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي إن “وجود قاعدة تشريعات رصينة والاستعانة بمؤسسات مالية عالمية تستطيع متابعة حركة المال في البلاد، تمثل الأسس الرئيسة لمعالجة الفساد، إلا أنها لا تزال غائبة عن المشهد العراقي”.
ويوضح أن ما جرى في فترة حكومة الكاظمي من الإطاحة بكوادر وسطية في الدولة يمثل قفزة في سياق مكافحة الفساد، خصوصاً أن الحكومات السابقة كانت تكتفي بإطلاق الوعود.
وعلى الرغم من وصف خطوات حكومة الكاظمي الأخيرة على أنها تمثل “قفزة نوعية في سياق مكافحة الفساد”، إلا أن مخاوف عدة من احتمالية أن تكون تلك الحملة “محاولة لامتصاص حالة الغضب الجماهيري الذي تلا انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019″، بحسب الفيلي.
ولا يبدو السلاح المنفلت في العراق بمعزل عن معضلة الفساد في البلاد، حيث بات يمثل “أداة استحواذ على مقدرات الدولة والمنافذ الحدودية وغيرها من أوجه الفساد الأخرى”، حيث يشير الفيلي إلى أن، هذا السلاح يمثل “أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة العراقية في محاسبة الفاسدين تحديداً الدوائر المقربة أو المرعية من الجماعات المسلحة”.