هزائم الإمبراطوريات والاستثناء الأميركي


واشطن تمكنت خلال ما يزيد على نصف قرن من “احتواء” هزائم عدة بأقل قدر من التأثر

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

في مقال نشرته “وول ستريت جورنال”، روى المؤرخ المستشرق الراحل برنارد لويس قصة معبرة: عام 1853 قال القيصر نقولا الثاني للسفير البريطاني السير هاملتون سيمور، “بين يدينا رجل مريض هو الإمبراطورية العثمانية، والوقت حان لاقتسامها بيننا”. رد السفير بالقول، “المريض يحتاج إلى طبيب لا إلى جراح”. بعد هذا وقعت حرب القرم. ثم تقاسم الحلفاء بالفعل أرض السلطنة المهزومة في الحرب العالمية الأولى، عبر تفاهم بين فرانسوا جورج بيكو، والسير مارك سايكس، ووزير الخارجية الروسي سيرغي سازونوف، الذي صار اسمه “اتفاق سايكس-بيكو” بعد انسحاب روسيا في أعقاب ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917. فالهزائم تسقط الإمبراطوريات. ومع سقوط السلطنة، سقطت الإمبراطورية النمسوية-المجرية، التي كان اغتيال ولي عهدها على يد صربي ثوري شرارة الحرب. هزيمة “واترلو” أنهت نابوليون بونابرت وإمبراطوريته. وهزيمة الإمبراطورية البريطانية في أفغانستان عجلت في مسار المقاومة في الهند، وإن لم تسقط كل الإمبراطورية التي انتهت بعد ذلك. هزيمة الروس في أفغانستان كانت من الأسباب التي قادت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي. والرأي الشائع “أن الاتحاد السوفياتي هو أول إمبراطورية تسقط من الداخل، وأميركا أول إمبراطورية تمول نفسها بنفسها”. لكن هذا ليس الجانب الوحيد الذي تتميز به أميركا. فالهزائم التي تسقط الإمبراطوريات ليست “القانون” الذي ينطبق على أميركا. وهذه ظاهرة تفرض نفسها على المؤرخين والدارسين للتعمق في قراءتها، وسط القراءات السائدة حالياً في الانسحاب من أفغانستان وآثاره على الداخل الأميركي كما على حلفاء واشنطن وخصومها في العالم.

“احتواء” هزائم عدة                      

ذلك أن أميركا تمكنت خلال ما يزيد على نصف قرن من “احتواء” هزائم عدة بأقل قدر من التأثر، وأحياناً بالقدرة على مضاعفة القوة. ففي بداية الستينيات في القرن الماضي، واجهت هزيمة “خليج الخنازير” في كوبا، حين أرسل الرئيس كينيدي جيشاً من الكوبيين المنفيين لإسقاط نظام كاسترو. بعد الهزيمة قام خروشوف بامتحانه عبر نصب الصواريخ السوفياتية في كوبا، فأجبره كينيدي على سحبها بالوقوف على حافة الحرب النووية، وفتح قناة تفاوض عبر السفير السوفياتي دوبرينين. ويُروى أن كينيدي جمع أركان إدارته بعد الفشل في “خليج الخنازير” وقال لهم، “كيف يمكن أن تصل هذه المجموعة الخبيرة والجيدة إلى هذه النتيجة السيئة؟”. عام 1975 سحب الرئيس جيرالد فورد القوات الأميركية بشكل ذليل من فيتنام.                         

عام 1984 سحب الرئيس رونالد ريغان قوات المارينز من بيروت، بعد مصرع أكثر من 200 عنصر باقتحام سيارة مفخخة لمقرهم يقودها انتحاري من أنصار النظام الإيراني. عام 2011 سحب الرئيس باراك أوباما القوات الأميركية من العراق، فتمددت إيران في بلاد الرافدين، وظهرت “داعش”. وعام 2021 سحب الرئيس جو بايدن القوات الأميركية من أفغانستان بعد 20 عاماً من الغزو وإنفاق نحو 6 تريليونات دولار في كابول وبغداد، وتسليح جيش من 300 ألف أفغاني هربوا قبل وصول “طالبان” إلى العاصمة.

تصحيح الأخطاء والمسار!

لكن أميركا لا تزال القوة العظمى الأولى في العالم عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً. لا بل أن الفيتناميين المنتصرين لجأوا إليها لتعلم الخبرة في إدارة الاقتصاد وطلب الاستثمارات. كوبا تحلم برفع العقوبات الأميركية عنها. العراق لا يزال في حاجة إلى حماية الطيران الأميركي وتدريب جنوده وتقديم المعلومات لمحاربة “داعش”. و”طالبان” العائدة إلى حكم أفغانستان لن تقدم للشعب سوى التخلف الاجتماعي والثقافي والحضاري، وللعالم سوى ملايين اللاجئين الهاربين من حكم المتعصبين. ولا شيء يضمن ألا تكون أفغانستان الملاذ الآمن لـ”القاعدة” و”داعش”. ولا أحد يجهل أن تعاطف قوى يسارية وليبرالية مع انتصار “طالبان” له سبب وحيد هو كره أميركا والعداء للإمبريالية. لكن المتعاطفين مع “طالبان” والمتباكين على حكم “الإخوان المسلمين” في مصر، والمحتفلين بصمود مادورو في فنزويلا، والمتحمسين للنظام الإيراني، ليس بينهم من يقبل أن يعيش في ظل الأنظمة التي يدافع عنها نكاية بأميركا.                   

والجدل في أميركا واسع وكبير. لكنها تبقى قادرة على تصحيح الأخطاء والمسار. والسر في نظامها. والسؤال مع ذلك هو، إلى أي حد يمكن أن تبقى أميركا الاستثناء من قاعدة الهزائم التي تسقط الإمبراطوريات؟