مشهد كابول بين الخطأ والخطيئة


عدم الاعتماد على واشنطن أكثر من اللازم ضرورة فلن تتردد في اتخاذ قرارات على حساب الأصدقاء والحلفاء

نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق

أخطأ من فوجئ بالخروج الأميركي من أفغانستان، وإن كان من حق الجميع الاستغراب من عدم الانضباط الذي شهد الإجراءات الخاصة بترحيل مواطنيها، والتعامل غير الإنساني الذي تعرض له أصدقاء أميركا من الأفغان المهددين بمستقبل مظلم وسلامة أرواحهم.

يتساءل بعضهم كيف تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان بعد أن أنفقت أكثر من تريليون دولار وفقدت أرواح الآلاف من جنودها؟ ويتساءل آخرون كيف تصل واشنطن إلى اتفاق مع طالبان بكل ما يمثله هذا التنظيم من رؤى وصفات وممارسات بعيدة كل البعد عن المبادئ التي تحكم الحياة المعاصرة في الولايات المتحدة والعالم الغربي.

تساؤلات في محلها، ولكن ليس هناك مكان أو مبرر للمفاجئة أو الاستغراب، ويكفي الرجوع إلى مقولة “الصورة بألف كلمة” وأوجه التشابه بل التطابق بين أحداث كابول 2021 ومغادرة سايغون الولايات المتحدة عام 1975، كان ذلك في تحليق الطائرة المروحية العسكرية فوق السفارة، ومشاهد إقلاع الطائرات الأميركية من مطار كابول محملة بالركاب حتى على أجنحتها، وهو نفسه ما شهدناه في فيتنام قبل ذلك بنصف قرن.

لا يستبعد أن يكون القرار الأميركي في إطار تحرك استراتيجي يشمل صراع القوى الكبرى، بخاصة في ظل التركيز على آسيا ومواجهة وإشغال الصين الصاعد بقوة وبسرعة، وعلى المدى المتوسط هناك اعتبارات محددة تحكم تحرك أميركا وسياساتها بصرف النظر عن الانتماء الحزبي لرئيسها أو الأغلبية في الكونغرس، وظلت كذلك ولم تتغير ولم تحد عنها منذ بروز دورها عقب الحرب العالمية الثانية.

أولى تلك الاعتبارات هي تقدير حجم المكسب أو الخسارة من أي قرار، وكان ذلك بدخول أي ساحة أو البقاء فيها أو الخروج منها، وكما أكرر دائماً السياسة الخارجية الأميركية تحكمها المبادئ والأهداف نفسها التي تحكم السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة، وهو اقتصاد السوق. قد يتساءل البعض كيف تهدر واشنطن كل ما استثمرته أو أنفقته في أفغانستان بالخروج من الساحة، والإجابة في فهم النظام السياسي الأميركي وتحديداً الانتخابي المتعدد والمتكرر على مستويات مختلفة، رئاسياً كل أربعة سنوات بحد أقصى دورتين، وبرلمانياً على فترات أقصر تصل إلى عامين، وكذلك على مستوى المحليات. هو نظام يفرض على السياسيين النظر لأغلب القضايا بمنظور مستقبلي قصير الأجل، بعيداً من أحداث الماضي وقراراته، ويعني هذا بإيجاز شديد أن قرار بايدن المنتمي للحزب الديمقراطي بالانسحاب من أفغانستان الآن على الرغم من ضخامة الكلفة السابقة، جاء لرغبته في عدم تحمل مزيد من الإنفاق المادي أو الخسائر الإنسانية، بصرف النظر عن سلامة قرار التدخل فيها من عدمه بالأساس، الذي اتخذه جورج بوش الابن، ويطبق بايدن في ذلك مبادئ اقتصادية مادية، ومقولة عدم إهدار مزيد من المال على مشروع فاشل، وغرضه من تلك الخطوة الحد من الخسائر المستقبلية، وهو نفسه ما فعله رئيس أميركي جمهوري في فيتنام.

وغني عن القول إن الفوضى وعدم الانضباط في عمليات الخروج من كابول ترك انطباعاً سيئاً عن صورة الولايات المتحدة وأداء الإدارة الحالية، في ما يتعلق بخروج الدبلوماسيين الأميركيين والأجانب ومؤيديها من الأفغان، فضلاً عن تسليم البلاد لـ “طالبان” التي تتضمن قيادات كانت في السجن الأميركي في غوانتانامو، ومع هذا خرج الرئيس بايدن معلناً وبقوة أنه متمسك بقرار الخروج باعتباره في مصلحة بلاده، وتحدث كذلك لعلمه أن المجتمع الأميركي مرهق سيكولوجياً من استمرار المواجهات العسكرية الممتدة، بخاصة مع صعوبة إيضاح الخطر المباشر على بلاده أو المصلحة في البقاء واستمرار الإنفاق.

وتحدث بايدن كذلك لاقتناعه أن بلاده ستتجاوز التداعيات قصيرة الأجل على سمعتها من هذا القرار، وأن المجتمع الدولي لن يستطيع مقاطعة أميركا أو الاستغناء عنها، أسوة ما تم بعد فيتنام القرن الماضي وغزو العراق أخيراً.

وشخصياً لا أتفهم تساؤلاتنا عن السياسات الأميركية، وعلى الرغم من أن الاعتبارات التي تحكمها واضحة، وهي المصلحة الوطنية والمادية قصيرة الأجل اليوم وغداً، في حين أن السؤال الأوقع والأهم هو موقف الدول الصديقة وغيرها إزاء تلك السياسات بكل ما تحمله من خطيئة، فإن تساؤلنا يجب أن ينصب على ردود أفعالنا وسياساتها إزاء هذا الثبات في المواقف والخطيئة الأميركية.

لا أشك في قوة الولايات المتحدة وغناها، وهو ما سيجعل كثيراً من الدول تتجاوز تلك الأحداث وتظل تسعى إلى علاقات قوية معها، وهو ما فعلته بعد أحداث فيتنام والعراق، وسبق أن وصفت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت بلادها بأنها قوة لا غنى عنها، وإنما بات واضحاً مرة أخرى من الأحداث الأخيرة أن القوة والثروة وقوة التحمل لها حدود، وأن الخطأ بل الصحبة لها ثمن.

ومن الدروس المستفادة والمهمة التي يجب أن يخرج بها المجتمع الدولي من الأحداث الأخيرة هي أنه مع أهمية الولايات المتحدة فإنه من الخطأ الاعتماد عليها أكثر من اللازم، لأنها لن تتردد في اتخاذ قرارات على حساب مصالح غيرها بمن فيهم الأصدقاء والحلفاء إذا لزم الأمر، إذاً إدارة التعاون مع أميركا واجبة، إنما الاعتماد المبالغ فيه عليها خطأ، وأرى أن التفاعل الوطني والإقليمي أفضل سبيل على المدى المتوسط والطويل، لأنه يستجيب ويتفاعل مع الواقع المباشر على الأرض، وقدرات وطموحات مباشرة في ساحتنا المشتركة يمكن تقديرها والتفاعل معها بشكل أفضل.

من ناحية أخرى، وبعد غزو العراق وأفغانستان وغير ذلك من الاشتباكات العسكرية المكلفة وغير الناجحة، على الولايات المتحدة اليقين أن صراع القوى الكبرى في إطار نظريات استراتيجية شيء، والتعامل مع الواقع الوطني والهوية المجتمعية للدول عبر العالم شيء آخر، وعليها الاستفادة من أخطاء غرور القوة والثراء المبالغ فيه، وقراءة الساحات الوطنية والإقليمية قبل الاشتباك فيها، والتهور في عمليات عسكرية تحمل في طياتها خسائر كبيرة، بل عليها بحث ومراجعة السبل المختلفة لتحقيق أهدافها في ساحات مختلفة، فالتفوق في معارك لا يعني بالضرورة الانتصار في الحروب، والأعمال العسكرية لا تحسم كل القضايا، أو تحقق كل الأهداف، خصوصاً مع توافر أدوات تحفيزية عدة لها، إذا كانت أكثر احتراماً وتقديراً لمصالح الغير، وتسعى إلى الوسطية والاعتدال الأمني والاستقرار الدولي.