كل مَن يثق بتصريحات أعضاء حركة النهضة حول الانشقاق وضرورة مراجعة النفس والنقد الموجه إلى الغنوشي والرغبة في البدء بحوار وطني في ظل الانقلاب التصحيحي الذي قام به الرئيس التونسي قيس سعيد هو لا يعرف شيئا عن تلك الحركة وعن زعيمها وعن ارتباطها بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
بعد عشر سنوات من الحكم المباشر وغير المباشر تمكنت حركة النهضة من الاستيلاء على مفاصل مهمة في الدولة، بحيث لم يجد رئيس الجمهورية امامه من أجل إنجاح التحول المنشود سوى أن يطلق حملة لإنهاء سيطرة النهضويين على مؤسسات تملك القدرة على تحريك عجلة العمل وتعطيلها في جميع المجالات وفي مقدمتها المجال الاقتصادي.
تلك ضربة تلقتها حركة النهضة بهدوء وهي تعد أعضاءها بالعودة حتى لو بالعمل السري، تحت الأرض. ذلك ما كان يتوقعه الكثيرون بعد ان صاروا على يقين أن حركتهم غير قادرة على السيطرة تماما على الدولة، الامر الذي اضطرها إلى عقد تحالفات مع قوى غير إسلامية تحوم عليها شبهات الفساد كما هو حال حزب قلب تونس الذي يتزعمه رجل الأعمال نبيل القروي الذي غادر السجن من غير أن يحصل على البراءة.
ربما كان هناك خلاف بين قياديي الحركة حول التوقيتات والأولويات التي أتبعتها الحركة في عملها، غير أن خلاقا من ذلك النوع لا يمكن أن يكون دافعا للانشقاق. وإذا راجعنا تاريخ الجماعات الإسلامية نجد أن الانشقاقات نادرا ما تقع وذلك لا يمنع من وقوع حالات عنف تروح ضحيتها أعداد من أعضاء تلك الجماعات من غير أن يتبنى أحد مسؤولية ذلك. وهو ما يعني أن تلك الجماعات تصفي نفسها بنفسها من غير ضجيج. لذلك يمكن القول إن كل الضجيج الذي افعلته أعضاء في الحركة ليس سوى غطاء، يُراد منه التستر على ردود أفعال الحركة على ما يمكن أن يشكل نهاية لسلطتها في هذه المرحلة.
يستعد النهضويون إذاً للانتقال إلى مرحلة جديدة من سيرتهم “النضالية”. هي سيرة حافلة بالعنف، يوم بدأوا أول ما بدأوا برشق الناس بالحجارة أمام البرلمان. ولكن قبل أن يتم ذلك الانتقال فإن هناك ما يفعلونه من أجل تضليل الرأي العام أولا ومن أجل أن يُظهروا حسن النية مراوغة وخداعا من أجل الإفلات من أي محاولة تقوم بها الجهات الحكومية لمراجعة ما حدث خلال العشر سنوات الماضية من تجاوزات قامت بها حركة النهضة في سعيها للاستيلاء على الدولة وتصفية خصومها السياسيين واستباحة المال العام وفتح أبواب تونس أمام تنظيمات تحوم حولها الشبهات وتقديم خدمات وتسهيلات لتلك التنظيمات.
لقد أغرق النهضويون وسائل الاعلام بأخبارهم المتناقضة التي يشير بعضها إلى أن الحركة قد تعرضت لزلزال داخلي فيما يشير البعض الآخر إلى تدني شعبية الغنوشي وعدم إمكانية استمراره زعيما للحركة. غير أن الأهم من كل هذا أن الحركة عرضت استعدادها لمراجعة ماضيها والقرارات التي اتخذتها لكن بشرط أن يتم ذلك في سياق حوار وطني شامل. ينطوي ذلك الشرط على مطالبة الرئيس التونسي بالعودة عن قراري الاطاحة بالحكومة وتجميد عمل مجلس النواب. وكما هو واضح فإن ذلك يدخل في دائرة المستحيل. فما حدث في 25 تموز/يوليو الماضي ليس في الإمكان التراجع عنه لأسباب كثيرة تقف في مقدمتها استجابة الشعب الفورية التي مزجت من الفرح والغضب. فرح التونسيون بالتخلص من حركة النهضة التي كان استمرارها في الحكم محل غضبهم، لذلك سارعوا ومنذ اللحظة الأولى إلى الالتفاف حول الرئيس وصار سعيد بالرغم من حاجزه اللغوي بطلا شعبيا.
الغنوشي من جهته صار يكرر المطلب النهضوي ذاته، غير أنه في كل تصريحاته كان يترك مسافة فارغة تتبع توقع أن يكون المطلب خياليا. صحيح أنه لم يهدد أحدا غير أنه أكد أن حركته لن تتخلى عما سماه بشرعية وجودها في الحكم وقوة نفوذها على مستوى شعبي. وما لا يمكن انكاره أن حركة النهضة مطمئنة إلى جمهورها الأعمى كما أنها تملك قوة ضاربة تتمثل بجهازها السري المتهم بممارسة العنف في حق الخصوم السياسيين وهو ما يمكن أن يكشف عنه القضاء بعد أن تحرر من سيطرة القضاة النهضويين.
وكما أرى فإن النهضة التي فشلت حتى الآن في إيقاف عجلة التحول الذي سيؤدي بالضرورة إلى عزلها وتحويل العديد من قادتها وأعضائها إلى القضاء لن تتوانى عن قلب صفحة المصالحة المؤقتة مع الآخرين لتلجأ إلى الوصية الاخوانية في ممارسة العنف وهي وصية لا تقبل التأويل. فإذا شعر الغنوشي وهو سياسي مخادع أن الطرق قد سدت أمامه فإنه سيأمر بفتحها ولو عنوة.
لن تصل تونس إلى ضفة الأمان إلا بعد أن تعلن حركة النهضة عن استسلامها. ذلك سيستغرق زمنا ليس بالقصير.