حركة «النهضة» التونسية تواجه حاليا أسوأ وضع في تاريخها فلأول مرة يلتقي عليها القرار الرسمي والسخط الشعبي واللوم السياسي عما جرى، وفوق ذلك تصدّع داخلي غير مسبوق.
كيف وصلت تونس إلى ما هي عليه الآن بعدما فعله الرئيس قيس سعيّد ودرجة مسؤولية كل طرف قصة طويلة، لكن ما استقر في النهاية هو تحميل الحركة وزر كل شيء وهو ما عليها إلا أن تواجه ذلك لتقتلع شوكها بيدها لأن لا أحد في تونس يرغب، على ما يبدو، في مد طوق نجاة لها.
من السابق لأوانه انتشاء البعض وقولهم إن الحركة انتهت فالحركات السياسية، خاصة من هذا النوع، لا تختفي هكذا بالتمني اللهم إذا كان البعض يدفع إلى منطق الاستئصال الذي انتهجه بن علي ولم يفلح، لكنها الآن شعبيا معزولة ومحاصرة وحتى منبوذة، وهو ما لم يحدث من قبل بمثل هذا الاتساع والحدة. بدا واضحا أن إزاحة الحركة عن المشهد قد استقبل كهمّ أزيح من على صدور الناس، كما أن الحملات ضدها في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف تكاد لا تتوقف مع شماتة واضحة، لم تخل أحيانا من سخف مضحك وصل بإحدى الأسبوعيات أن تتهمها بأنها هي التي نقلت مادة نيترات الأمونيوم إلى ميناء بيروت وتسببت في كارثته!!
إذا لم تسأل الحركة نفسها بكل شجاعة: لماذا وصلنا إلى هذا ؟ وكيف سنتعامل معه؟ فإنها لن تتعلّم شيئا. صحيح أن الحركة قدمت تنازلات مختلفة حتى تزيح عن نفسها صفة «الإخوانية» و»الإسلام السياسي» إلا أن ذلك لم يقابل، تونسيا قبل أي شيء آخر، سوى بكثير من الحذر أو التشكيك. الخلاصة هي أن هناك بلا جدال أزمة ثقة عميقة تفصل بين قطاعات واسعة من التونسيين و الحركة لم تزدها السنوات الماضية إلا اتساعا.
عام 2011 ومباشرة بعد سقوط حكم بن علي، صوّت لحركة «النهضة» في انتخابات المجلس التأسيسي مليون ونصف مواطن فتحصلت على 89 مقعدا من بين 217، وفي انتخابات 2014 تراجع العدد إلى 950 ألف و69 مقعدا، ثم تراجع ثانية في انتخابات 2019 إذ لم يصوّت لها سوى 560 ألف ولم تحصل سوى على 52 مقعدا في البرلمان الحالي المجمّد. ولو قدر لتونس أن تشهد انتخابات برلمانية جديدة سواء في موعدها عام 2024 أو سابقة لأوانها لرأينا هذا التراجع يزداد حدة وفق المزاج الشعبي السائد الآن.
أبدت الحركة، كما عبّر عن ذلك بيان مجلس شوراها الأخير، استعدادا لــ»التنازل» وكذلك لــ «الاعتذار» لكن ذلك، على أهميته، لم يبد كافيا ليس فقط لجموع التونسيين بل حتى لبعض أعضاء مجلس الشورى نفسه الذين أعلنوا معارضتهم لسياسات الحركة وخاصة رئيسها راشد الغنوشي. لم يغفر التونسيون للحركة سماجة الادعاء بأنها لم تحكم طوال السنوات العشر الماضية بينما هي كانت في قلب المعادلة الجديدة ومفتاحها الأول خاصة بعد أن تولى راشد الغنوشي رئاسة البرلمان، ومن هنا برزت المتاعب الكبرى للحركة كما لم تبد من قبل. ارتكب الرجل غلطة عمره التي كلفت حركته وكلفت التجربة التونسية أثمانا غالية إذ جعلته في صدارة مشهد كان عليه أن يتحمّل تبعاته، الحقيقية منها والمفتعلة، الطبيعية والمدبّرة.
غلطة العمر هذه بدأت منذ أن تراجع عما قطعه هو على نفسه وهو يهمّ بالعودة إلى تونس في نهاية يناير كانون الثاني 2011 فقد تعهّد وقتها بأنه لا ينوي الترشح لأي انتخابات ولا يسعى لأي منصب وأنه يرغب في تسليم قيادة الحركة إلى جيل الشباب. ليته فعل، فلو التزم الرجل بوعده لما وصل هو وحركته إلى هذه النقطة، فضلا عن أنه كانت أمامه فرصة الخروج من الباب الكبير حين أسقط البرلمان لائحة سحب الثقة منه نهاية يوليو تموز 2020 فقد تمنى عليه بعضهم وقتها أن يفعلها بنفسه لكنه أبى ( مقالي في «القدس العربي» 4 أغسطس – أب 2020).
المراجعة الصعبة والمؤلمة لحركة «النهضة» ورئيسها كان يمكن أن تتم قبل اليوم، وفي ظروف أفضل بكثير، فالمعضلة الآن أنه إذا ترك الغنوشي الساحة فسيبدو منسحبا ومستسلما للأمر الواقع الذي فرضه الرئيس سعيّد أما إن بقي فقد تزداد الأمور سوءا في وقت يتوثب فيه الجيل الشاب في الحركة إلى تجديد دمائها.
هل الحركة تتحمّل وحدها مسؤولية ما حدث؟ بالتأكيد لا، لكنها تتحمّل القسط الأكبر منها مع تمسكها بمربع الحكم، بأي تحالفات وبأي ثمن، مع أن دور المعارضة كان يمكن أن يكون مفيدا لها أكثر وللبلاد. للآخرين أيضا نصيبهم الوفير من المسؤولية، خاصة أولئك الذين سعوا إلى إقصائها كيف ما كان بعد أن فشلوا في منازلتها عبر صناديق الاقتراع.
النتيجة أن التجربة الديمقراطية، بل والوطن، هو من يدفع الثمن وليس الحركة فقط، دون أن نُغفل بالتأكيد التدخلات الخارجية التي أرادت هدم النموذج التونسي المتميز، والتي سيأتي اليوم الذي ستنفضح فيه أكثر أمام الجميع وبالتفصيل، وتلك قصة محزنة أخرى…