أكد مشهد طوكيو أن العالم مترابط ومتواصل وقضايا العصر تؤثر في الكل وتحتاج إلى تعامل جماعي شامل
نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق
افتتحت الدورة الـ 32 من الألعاب الأولمبية عاماً بعد موعدها الأصلي، نتيجة تداعيات جائحة كورونا. أولمبياد أنشئت أصلاً كتجمّع للتفاعل الدولي الرياضي بعيداً من السياسة، وفقاً لما ذكره مؤسسها السيد بيير دو كوبرتان.
وانعقدت الدورات بانتظام، باستثناء التي تزامنت مع الحروب العالمية أعوام 1916 و1940 و1944، وعاصرت ظروفاً سياسية صعبة كدورة برلين عام 1936، مع تفاخر هتلر بتمييز العرق الألماني، في تناقض مع مفاهيم التآلف الاجتماعي المتنامية حينذاك، ومع بوادر الحركات الوطنية الساعية للتحرر من الاستعمار الأوروبي، وقاطعت الولايات المتحدة دورة موسكو عام 1980 اعتراضاً على الغزو السوفياتي لأفغانستان وغير ذلك.
ومن ثم تحققت بعض طموحات وتمنيات مؤسسها، غير أن الأولمبياد لم تنجح في عزل نفسها عن السياسة، فترددت القيادة الألمانية في حضور مراسم الفوز للعداء الأميركي من أصل أفريقي جيمس أوينز، وإن كان منافسه في دورة برلين الألماني لوز لونج تعامل معه بروح رياضية بالغة الرقة والسمو، وارتقى التعامل الإنساني الفردي على الموقف السياسي، وعام 1968 وقف العداءان الأميركيان تومي سميث وجون كارلوس مرفوعين الذراع، مقلدين بجورب أسود على يدهم، اعتراضاً على سوء المعاملة والعنصرية ببلادهم، وعبر السنين انعكست بعض النزاعات الإقليمية على الساحة خاصة بين العرب والإسرائيليين .
من السذاجة تصور أن المناسبات الرياضية أو الاجتماعية بهذا الحجم والتنوع والطموح يمكن أن تظل في عزلة عن الأوضاع والأحداث المعاصرة التي تؤثر في البلدان والمجتمعات والشعوب والأفراد في كل زمان ومكان، فالسياسة والاقتصاد والاعتبارات الاجتماعية والأمنية تتفاعل مع بعضها بعضاً، وبشكل متزايد في عصر العولمة، والمعادلة الحياتية الفردية المتعددة الجوانب واجب أخذها جميعاً في الاعتبار في وضع سياساتنا وقراراتنا.
وهناك دروس مستفادة من أولمبياد طوكيو وقضايا تذكرنا بها، فإذا كان من الضروري التمسك بالمنافسة الشريفة بين الرياضيين في ساحتهم المختلفة، فمن الأهمية بمكان الالتزام بذلك أيضاً في تعاملات الدول مع بعضها، أي القبول بالمنافسات والنتيجة غالباً أو مغلوباً، طالما احترم الكل قواعد وأسس الممارسة وحارات السباحة، مثل سيادة الدول غير قابلة للتجاوز، والضربات المختلفة لكل سباق تشكل القواعد والحقوق المتفق عليها لممارسة بعينها، وهو المطلوب نفسه اتباعه في إطار المنظومة الدولية، ويعد تمركز الصين أخيراً كثاني أكبر اقتصاد عالمي على حساب اليابان ترجمة فعلية لذلك، علما أن منافستها الاقتصادية مع الولايات المتحدة الآن أشرس وأشد، وتثير كثيراً من الحساسيات الغربية .
وكل منظومة قابلة للتعديل، بما فيها الأولمبياد التي أضيفت إليها ألعاب جديدة، والنظام الدولي بقواعده وقوانينه متجدد كذلك، بخاصة في الحقوق الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالفرد، على الرغم من أن النظام الدولي أسس على العلاقات بين الدولة الوطنية، والمطلوب تحقيق توازن أفضل وأكثر عدالة بين الدول بتعديل عضوية وإجراءات مجلس الأمن، وفي ما بين حقوق المجتمع والفرد حفاظاً على الاستقرار، ويعد الخلل الصارخ في توزيع لقاحات كورونا دولياً بخاصة لأفريقيا مثالاً للتصرفات الدولية غير العادلة، وبما يمس صدقية الجهود الرامية إلى إقامة نظام دولي سوي ومستقر.
وأكد مشهد طوكيو أن العالم مترابط ومتواصل، وأن المستجد في قضايا العصر أن لها طبيعة كونية، التي تفشل أي جهد أو محاولة لوضع حواجز عازلة بين طرف وآخر، مهما زادت من قوته واحتدت عزلته. في تأجيل الدورة ثم انعقادها من دون مشجعين دليل أن قضايا العصر تؤثر في الكل، وتحتاج إلى تعامل جماعي وشامل، ومن أبرزها قضايا البيئة والصحة والموارد الطبيعية والتصحر التي لا حدود أو انضباط سيادي لها، ولعل فيضانات أوروبا وجفاف آسيا إنذار لنا جميعاً، وتعتبر قمة “جلاسكو” المناخية فرصة مواتية لخطوات مهمة في هذا السبيل.
وذكرني اشتراك فريق من الرياضيين اللاجئين أو المهجرين في الألعاب الأولمبية مرة أخرى بالقضايا الإقليمية المتنازع عليها، وعلى رأسها الرياضيون الفلسطينيون والسوريون الذين يمثلون أكثر وأقدم اللاجئين عالمياً، ألم يحن الأوان لجهد حقيقي لحل قضيتي هذين الشعبين العربيين؟
وتأثر أقوى وأنجح الرياضيين بالضغوط النفسية، وانسحبت بطلة العالم الأميركية للجمباز، وخسرت بطلة التنس اليابانية نتيجة لاضطرابها، وهي رسالة مهمة بأن الاستقرار النفسي للمواطنين الذي يفرض ضرورة الانتباه إلى قضاياه والعدالة لا يمكن إغفاله مهما زادت القوة والثراء، الذي يتحقق بالحكم السياسي الكفء والرشيد المتواصل مع الشعوب على كل المستويات، وكانت التقلبات في شرق أوروبا والعالم العربي التي شاهدناها في الولايات المتحدة انعكاساً لعدم ارتياح مجتمعي.
وشكل فوز رياضيين من جزيرة برمودا وسان ريمو بميداليات برونزية، وهما أصغر الدول المشاركة، رسائل أمل وتفاؤل للإنسان وللدول الصغيرة قبل الكبيرة بأن الأحلام قابلة للتحقيق مع العزيمة وسلامة منظومة العمل والجدية، وليس مصادفة أن نسبة النبوغ مرتفعة للجاليات الآسيوية في مجالات تكنولوجيا المعلومات، كان ذلك في أوطانهم أو في إطار جالياتهم المختلفة في الدول الصناعية الكبرى، وهو ترجمة للجدية الشخصية والالتزام، وما شهدته جزيرة سنغافورة الصغيرة من نجاح اقتصادي باهر واندماج مجتمعي مع كفاءة وتكامل منظومتها الاقتصادية والمجتمعية حال أخرى يستفاد منها.
لا يزال أمام المجتمع الدولي ماراثون طويل ومتعدد الجوانب والتحديات والحواجز ليصل إلى جزء مما تحقق من طموحات كوبرتان، إنما لعلنا نخرج من تجربة الأولمبياد التي عقدت بإجراءات وقائية تفرض التباعد ومن دون جمهور بيقين راسخ أن كثيراً من أخطارها جامعة، وأن التعامل الجاد معها يتطلب عملاً وتعاوناً ومنافسات مشروعة، سعياً إلى تحقيق التوازن بين المصالح على المستوى الفردي والوطني والدولي.