وسائل بلوغ أهداف جيوسياسية من دون الانزلاق إلى مواجهة كبرى

عودة عمليات التخريب بين القوى العظمى

جيل كاستنر ويليام ك. وولفورث 

في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016، تمكنت قوة أجنبية من ممارسة ما بدا وكأنه تأثير غير مسبوق على الطقوس المقدسة للديمقراطية الأميركية. على وسائل التواصل الاجتماعي، قام عدد كبير من المتصيدين المأجورين الروس بزرع بذور الفتنة، فنشروا أكاذيب خبيثة حول المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، وسعوا إلى زيادة نسبة الإقبال على انتخاب المرشح الجمهوري، دونالد ترمب. وسعى الروس النافذون المقربون من الكرملين إلى التواصل مع ترمب وحاشيته، قاطعين وعداً مغرياً بنشر معلومات ضارة عن كلينتون، فقام قراصنة ترعاهم الدولة بسرقة رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بفريق حملتها الانتخابية وسربوها. استمروا في استهداف أنظمة الانتخابات في جميع الولايات الخمسين، بل نجحوا حتى في التسلل إلى قواعد بيانات الناخبين.

هذا التدخل دق ناقوس الخطر. “لقد تعرضنا للهجوم. نحن في حالة حرب”، هذا ما أعلنه الممثل مورغان فريمان رسمياً في عام 2017، في مقطع فيديو أصدرته مجموعة تطلق على نفسها اسم لجنة التحقيق في التدخلات الروسية، التي كانت مدعومة من قبل قدامى المخابرات الأميركية مثل جايمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية، و مايكل موريل، القائم بأعمال مدير الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه” سابقاً. وظهر عنوان في صحيفة “نيويورك تايمز” يشير إلى أن “القوة السيبرانية الروسية” قد “غزت” الولايات المتحدة. توقع خبراء السياسة الخارجية موجة قادمة من التخريب الرقمي، بقيادة الدول الاستبدادية التي تستهدف منافسيها الديمقراطيين. وفي هذا الإطار، أدلت ألينا بولياكوفا من معهد بروكينغز بشهادتها أمام لجنة تابعة للكونغرس في عام 2019، “تخلق هذه البيئة الرقمية فرصاً للتلاعب تجاوزت قدرة الدول الديمقراطية على الاستجابة (الرد والتصدي)، وأحياناً على فهم حجم التحدي”. وأضافت ” الديمقراطيات جميعها أهداف راهنة أو مستقبلية محتملة”.

تهافت صناع السياسة الأميركية على الرد. في الأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق أوباما، طردت إدارته 35 دبلوماسياً روسياً، وصادرت ممتلكات دبلوماسية روسية، وتعهدت بأن الولايات المتحدة ستنتقم في الوقت والمكان اللذين تختارهما. وفي عام 2018، أنشأ الكونغرس وكالة جديدة تماماً، وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، وهي قسم تابع لوزارة الأمن الداخلي، للحؤول دون تدخلات مماثلة في المستقبل.

 كانت انتخابات عام 2016 بمثابة صفعة قوية، ولكن لم يكن من المفترض أن يتفاجأ أحد بها

ربما كانت انتخابات عام 2016 بمثابة صفعة قوية متوقعة، ولكن لم يكن من المفترض أن يتفاجأ أحد بالأمر. كانت عملية روسيا أحدث مثال على نمط يعود إلى زمن بعيد جداً في التاريخ. لطالما كان التخريب (وهو عبارة عن تدخل محلي لتقويض خصم أو التلاعب به) جزءاً من سياسات القوى العظمى. أما ما هو خلاف المألوف إلى حد بعيد فهو المدة القصيرة للهيمنة الأميركية غير العادية، التي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عندما بدت الولايات المتحدة محصنة ضد التدخل الخبيث من قبل المنافسين الأنداد، إلى حد كبير بسبب غياب أي نوع من التدخل الخبيث. والآن، مع بدء تضاؤل (أفول) تلك الهيمنة، عادت المنافسة بين القوى العظمى، ومعها، عاد تخريب القوى العظمى.

فنون الظلام

في العلاقات الدولية، أفضل تعريف للتخريب هو أنه ممارسة لمحاولة الحصول على ميزة من خلال التأثير المباشر على السياسة الداخلية لبلد أجنبي على خلاف مشيئته. من خلال التلاعب بالأحداث داخل حدود دولة أخرى، يأمل المخرب في تغيير سياسة النظام القائم، أو تغيير النظام نفسه. يجمع التخريب بين عدائية الحرب وسرية التجسس خلسة، لكنه لا يندرج ضمن أي من الفئتين بدقة. فهو يفتقر إلى الطبيعة العلنية للتهديدات القتالية والعسكرية، والطبيعة الهامدة للتجسس وجمع المعلومات الاستخباراتية، واللباقة الحيادية للدبلوماسية والإكراه. إنه سري ونشط وعدواني.

يمكن تصنيف التخريب وفقاً لثلاثة مستويات من الشدة. يتضمن المستوى الأول البروبغندا، وهو تكتيك قديم قدم الكلام بحد ذاته. ففي عام 1570، عندما أصدر البابا بيوس الخامس بياناً بابوياً يعلن أن الملكة إليزابيث الأولى مهرطقة، ودعا الكاثوليك الإنجليز المؤمنين إلى تنحيتها عن العرش، كان يشارك في بروبغندا تخريبية. حدث الشيء نفسه خلال الحرب الباردة عندما بث “راديو ليبرتي” (Radio Liberty) نشرات معادية للشيوعية في الاتحاد السوفياتي. يمكن أن يستلزم التخريب من المستوى الأول تأييد الدولة المطلق لمرشحي أو أحزاب المعارضة في انتخابات دولة أخرى، كما حدث عندما دعم ستالين علناً ترشيح الخيار الثالث هنري والاس ضد الرئيس الأميركي هاري ترومان في عام 1948.

يمكن أن يشمل أيضاً إضعاف مكانة شخص يشغل منصباً مهماً. في أوروبا القرن التاسع عشر، اختلف المستشار الألماني أوتو فون بسمارك بشدة مع نهج رئيس الوزراء البريطاني ويليام غلادستون في التعامل مع الشؤون الأوروبية لدرجة أنه شرع في محاولة تدمير سمعة غلادستون في الداخل، من طريق حملة تشهير في بروبغندا مناهضة له. على حد تعبير نجل بسمارك، هربرت، في خطاب كتبه في عام 1884، كانت الخطة هي “سحق غلادستون بقوة، حتى يكف عن النباح”. وأضاف أن هيبة رئيس الوزراء “ستختفي حتى بين جماهير الناخبين الإنجليز الحمقى”.

إن زيادة حدة الأمور قليلاً تؤدي إلى مستوى التخريب الثاني. هذا النموذج دائماً ما يكون سرياً، ويتضمن معلومات مضللة، وهي نسخة أكثر قوة من البروبغندا. في ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المثل، عملت المخابرات السوفياتية “كي جي بي” مع جهاز المخابرات السري في ألمانيا الشرقية (شتازي) على نشر إشاعة مفادها، أن فيروس نقص المناعة البشرية قد تم تطويره في الولايات المتحدة كجزء من برنامج أسلحة بيولوجية. زرعوا القصة في صحيفة هندية في عام 1983، حتى وصلت أخيراً إلى وسائل الإعلام الرئيسة في أماكن أخرى. وفي غضون عامين، انتشرت القصة في جميع أنحاء أفريقيا وخارجها، وما زال البعض يصدقها حتى اليوم. التزوير هو تكتيك شائع للتخريب من المستوى الثاني. بعد أن تعرض البابا يوحنا بولس الثاني لهجوم مسلح في عام 1981، أطلق عملاء “كي جي بي” وثائق مزورة زُعم أن مصدرها السفارة الأميركية في روما، وأشارت إلى أن واشنطن كانت وراء محاولة الاغتيال. أما خلق شخصيات مزيفة، أخيراً عبر الإنترنت، فيعد تكتيكاً آخر – وهو ليس أسلوباً اخترعته روسيا في عام 2016. فبدءاً من عام 2011، قام الجيش الأميركي بمثل هذه الأنشطة في الحرب ضد الإرهاب، حيث طور برنامجاً لإنشاء حسابات مزيفة بلغات أجنبية لمواجهة التطرف عبر الإنترنت.

يمكن أن يشمل التخريب من المستوى الثاني أيضاً عرض المال أو الدعم المادي بشكل سري على قوى المعارضة أو جماعات الضغط. بمساعدة من الخارج، تأمل الدولة المخربة، أن تكون هذه الجماعات قادرة على تغيير السياسة الخارجية أو زرع الفتنة في البلد المستهدف. يروي ثوسيديديس أنه في القرن الخامس قبل الميلاد، قطعت أثينا وعداً مغرياً بتقديم مساعدة مالية من بلاد فارس للمتآمرين في جزيرة ساموس في محاولة للإطاحة بالديمقراطية فيها. وكتب أن الأثينيين “حثوا أقوى الرجال في ساموس نفسها على العمل معهم لمحاولة إقامة الأوليغارشية هناك، على الرغم من حقيقة أن أبناء ساموس كانوا قد شهدوا للتو انتفاضة داخلية لتجنب حكم الأوليغارشية”. وفي ماض أقرب، قدم السوفيات دعماً سرياً لحزب العمال في المملكة المتحدة في 1929، الذي فاز لاحقاً في تحالف مع الحزب الليبرالي، بما يكفي من الأصوات في الانتخابات البرلمانية لتشكيل حكومة.

خلال الحرب الباردة، سعى الاتحاد السوفياتي إلى مساعدة المرشحين الرئاسيين الأميركيين الذين اعتقد أنهم قد يكونون أكثر ودية، حيث تقرب مباشرة من أدلاي ستيفنسون في عام 1960، عارضاً تقديم دعم شامل له، ثم من هيوبرت همفري في عام 1968، عارضاً توفير مساعدة مالية لحملته التي تعاني من ضائقة. (رفض كلا المرشحين ذلك بأدب). وعملت موسكو أيضاً على تقويض المرشحين الذين اعتُبروا عدائيين تجاهها. في عام 1984، شرعت المخابرات السوفياتية ببذل جهد واسع النطاق، يشمل الجهات المؤثِرة، والمنظمات التي تعمل كواجهة أو غطاء لممارسات أخرى، والمعلومات المضللة، لإقناع الجمهور الأميركي بأن إعادة انتخاب رونالد ريغان تعني الحرب. وخارج النظام الانتخابي، سعت “كي جي بي” إلى جعل حركة الحقوق المدنية الأميركية راديكالية من أجل زرع عدم الاستقرار المحلي. وحاولت تشويه سمعة مارتن لوثر كينغ الابن، من خلال الإفصاح عن معلومات مريبة عنه، وتواطأت في الترويج لقادة حقوق مدنية أكثر راديكالية. في الوقت نفسه تقريباً، بالطبع، كانت وكالة الاستخبارات الأميركية تدعم المنشقين في الاتحاد السوفياتي، وتهرب مواد محظورة، وتوفر الأموال، وخدمات العلاقات العامة، ومنابر إعلامية للقوميين من روسيا وأوكرانيا ودول البلطيق، فضلاً عن الشيوعيين الإصلاحيين.

التخريب من المستوى الثالث عنيف، تسليح المتمردين وتمويلهم وتخريب البنية التحتية واغتيال المعارضين. عندما ثار البروتستانتيون في هولندا ضد الحكم الإسباني في سبعينيات القرن السادس عشر، ساعدتهم الملكة إليزابيث الأولى سراً في دفع أجور آلاف الجنود السويسريين وغيرهم من الجنود، ليأتوا للقتال من أجل القضية البروتستانتية. خلال الاضطرابات في إيرلندا الشمالية، زود الاتحاد السوفياتي الجيش الجمهوري الإيرلندي بالأموال والأسلحة، ما أدى إلى إرباك المسؤولين في لندن، الذين سارعوا إلى قطع تسريب هذا الدعم. في بداية الحرب الباردة، حاولت الولايات المتحدة تخريب الاتحاد السوفياتي من خلال ضخ الدعم اللوجستي والمادي للمتمردين في دول البلطيق وأوكرانيا. وقد جربت تكتيكاً مشابهاً ضد الصين الشيوعية، فدعمت المتمردين في التيبيت.

قد تختلف أهداف التخريب على المستويات الثلاثة جميعها. يمكن استخدام الأنشطة التخريبية لإضعاف الجهة المستهدفة من طريق زرع خلاف داخلي يصرف انتباهها عن السعي وراء مصالحها على جبهة أخرى. هذا ما كانت إليزابيث الأولى تفعله عندما مولت المرتزقة لمساعدة المتمردين البروتستانت الهولنديين، كانت تأمل في أن تنغمس إسبانيا في الانتفاضة فتعلق خططها لاستعادة الكاثوليكية في إنجلترا، من خلال ضمان إزاحتها عن العرش، وما تحاول روسيا القيام به اليوم بدعمها للحركات القومية الشعبوية في الديمقراطيات الغربية. في المقابل، قد تنوي دولة ما تغيير السياسة الخارجية لدولة أخرى من خلال دعم جانب واحد من أطراف الخلاف الداخلي سراً. خلال الحرب الباردة، قدمت موسكو، من خلال منظماتها التي تؤدي دور الواجهة والغطاء، دعماً لوجستياً وتنظيمياً ومالياً لحركة السلام في الغرب. وفي الآونة الأخيرة، ربما تكون قد تدخلت في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، ما شجع الجمهور البريطاني على التصويت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي.

في بعض الأحيان، يكون للتخريب هدف متطرف، تغيير طبيعة النظام نفسه. في عام 1875، خطط بسمارك لتوليد الذعر من شبح الحرب، ملمحاً إلى أن ألمانيا كانت على وشك شن هجوم وقائي (استباقي) ضد فرنسا. كان هدفه تخويف الناخبين الفرنسيين من اختيار الملكيين المحافظين، الذين بدا أن انتصارهم يَعدُ بمنافس أشد ضخامة وأعظم قوة على الجانب الآخر من نهر الراين. فنجحت المناورة. وسرعان ما بدأت الصحافة الفرنسية تسمي بسمارك “ناخب فرنسا العظيم”.

أداة مغرية

هناك سبب وراء لجوء الدول إلى التخريب في كثير من الأحيان عبر التاريخ، إنه أقل تكلفة وخطورة بكثير من فن الحكم التقليدي. فالتخريب لإضعاف الخصم هو بديل زهيد الثمن للتوازن والحرب. والتخريب لتغيير سياسة المنافس هو بديل زهيد الثمن للإكراه أو الردع أو الدبلوماسية. لماذا تحشد جيشاً وتغزو خصماً بينما يمكنك نشر بروبغندا، أو دفع المال للسياسيين، أو إرسال المتصيدين عبر الإنترنت لتحقيق مكاسب أصغر ولكن ملموسة؟ لماذا تقحم نفسك في تحالفات محفوفة بالمخاطر أو تُفلس نفسك في بناء وسائل لاحتواء منافس ما، إذا كان بإمكانك ببساطة توحيد قواك مع فصيل من الداخل حريص على مساعدتك وعازم على توجيه قوة هذا الخصم إلى مكان آخر؟ حتى عندما يحقق التخريب أقل مما يمكن أن يحققه فن الحكم التقليدي، فهو قد يظل جذاباً. فعلى الرغم من كل شيء، في البيئة التنافسية بين القوى العظمى المتناحرة، تواجه كل دولة حوافز لإضعاف الأخرى. وبما أن القوى العظمى تهيمن على السياسة الدولية، فإن أي تأثير صغير على هدف كبير قد يستحق الجهد المبذول.

كما أن التخريب يضمن المرونة، يمكن لدولة ما أن تضغط على الخصم لتغيير سلوكه من دون الاضطرار إلى توجيه نيران المدفعية عبر الحدود أو تقديم إغراءات أو تنازلات باهظة الثمن. إذا تعقدت الأمور، فيمكن تخفيف التخريب أو إنكاره، ما يمنح المخرب مساحة أكبر للمناورة في بيئة متغيرة. سيكون من الحماقة أن يشن جنرال حرباً ليكتشف إلى أي مدى يمكن أن يصل، بينما يمكن للمخرب فعل ذلك ببساطة. يمكن أن يعمل التخريب كصمام أمان، ينفس عن بعض المخاوف والإحباطات التي تدفع الدول لمهاجمة بعضها بعضاً. إنه إجراء مغر أقل حدة من الحرب. إذا كانت تكاليف الصراع باهظة، فإن التخريب يَعدُ بطريقة بديلة للتقدم.

بعبارة أخرى، التخريب هو ضبع العلاقات الدولية. فهو يتنقل خلسة في أنحاء العالم المشروع (القانوني، منتظراً للاستفادة من الارتباك أو الضعف، لكنه يفتقر إلى الشجاعة للهجوم على المكشوف. ومثلما يشغل الضبع موقعاً رئيساً في السلسلة الغذائية في الطبيعة، فالتخريب يؤدي دوراً مهماً في فن الحكم الدولي. في كثير من الحالات، يسمح للدول بتجنب الاختيار الثنائي ما بين الحرب والسلم، ما يتيح لها ممارسة عداواتها بطرق مقلقة ومزعجة ولكن ربما أقل خطورة.

يسمح التخريب للضحايا أيضاً بالتحلي بضبط النفس. فالقوى العظمى التي تتعرض للتخريب قد تمتنع عن الرد لأنها بالتحديد تجد هذا الشكل من أشكال فن الحكم مفيداً فتُحجم عن اتخاذ تدابير قد تزيله نهائياً من مجموعة الأدوات (الوسائل) المتاحة. من وجهة نظرنا اليوم، إن رد فعل إدارة ريغان على الحرب السياسية المتصاعدة التي شنتها المخابرات السوفياتية في الثمانينيات يبدو خفيفاً، فقد اقتصر على إنشاء فريق مشترك بين الوكالات يهدف إلى إعلام الناس عن حملات التضليل السوفياتي. ربما كان أحد أسباب ضبط النفس هو أن الولايات المتحدة كانت مشغولة في الوقت نفسه بتخريب الاتحاد السوفياتي. ففي وثيقة من عام 1987، رُفعت عنها السرية، ذُكر برنامج لوكالة الاستخبارات الأميركية “مصمم لاستغلال سياسة الـ “غلاسنوست” (تعزيز معايير الشفافية والعلانية) السوفياتية في ذلك الوقت والثورة في الاتصالات الإلكترونية، وهما ظاهرتان توفران فرصة غير مسبوقة لبرنامج العمل السري لدينا للتأثير على الجماهير السوفياتية”. وثيقة أخرى رفعت عنها السرية، تروي تفاصيل اجتماع في البيت الأبيض عام 1987، تكشف أن حكومة الولايات المتحدة طبعت منشورات وُصفت زوراً أنها صادرة عن منظمة شباب شيوعية. وجاء في الوثيقة أن “ستة آلاف نسخة سُربت إلى الاتحاد السوفياتي، تدعي دعم برنامج إصلاح غورباتشوف، لكنها تطالب بإصلاحات ديمقراطية تتجاوز إلى حد كبير ما يمكن للنظام أن يتحمله”. لا عجب أن إدارة ريغان أبدت القليل من الاهتمام في معاقبة موسكو على سلوك مماثل.

التخريب هو ضبع العلاقات الدولية

هذه هي فوائد التخريب، ولكن له تكاليفه أيضاً. أكثرها وضوحاً هو الانتقام، وكلما كان الهدف أكبر، كان الانتقام أكبر. ويمثل التصعيد، العرضي والمتعمد، خطراً حقيقياً، لا سيما مع التخريب من المستوى الثالث، عندما يُتجاوز الخط الأحمر لدى الجهة المستهدَفة (يتجاوز محظورات الجهة المستهدفة)، أو عندما تتخطى الجهات الفاعلة على الأرض الصلاحيات الممنوحة لها.

ما هو أقل وضوحاً، ولكن ربما يكون أكثر أهمية، هو احتمال الإطاحة بالثقة الذي يصاحب التخريب. الثقة أمر حاسم في العلاقات الدولية. حتى بين الأعداء اللدودين، فإن قدراً ضئيلاً منها يسمح بالتعاون ووقف التصعيد. يخاطر التخريب بتبديد الثقة، ويمكنه أن يفعل ذلك بسهولة أكبر بكثير من التحركات التقليدية مثل الحشد العسكري أو تشكيل تحالفات جديدة، التي لا تَعد بإلحاق ضرر إلا إذا قامت الجهة المستهدفة بتحرك مستقبلي في الاتجاه الخاطئ.

التخريب هو أيضا خيار غير مناسب لإظهار النوايا. عادة ما يكون من الأسهل والأكثر أماناً محاولة تغيير سلوك دولة أخرى من طريق بناء قوتك الخاصة أو استخدام وسائل الترغيب والترهيب. ومن خلال فن الحكم التقليدي هذا، يمكن للدولة أن تلمح أنها ليست معادية للمنافس (الخصم) بشكل لا رجعة فيه، بل هي تستعد فقط لفرض ثمن ينبغي دفعه في حال قيام المنافس ببعض الإجراءات الإضافية. ومع ذلك، فإن التخريب يجعل إرسال مثل هذه الرسالة أكثر صعوبة. فبمجرد القيام بالتخريب، سيصبح من غير الممكن للمخرب أن يدعي بأنه ليس عدائياً بطبيعته، ولن يتمكن الهدف من تغيير سلوكه لتجنب العقوبة. وحقيقة أن الجاني ينكر التخريب عادة ما يفاقم تعقيد الأمور. فمن الصعب على الحكومة أن تتظاهر بأنها لا تفعل شيئاً، وتعرض في الوقت نفسه التوقف عن فعله.

ثمة تكلفة أخرى تعد أقل واقعية وأكثر قابلية للنقاش. الحكومات التي تلجأ إلى التخريب قد تواجه العار لخرقها أحد أسمى معايير العلاقات الدولية: السيادة. هذه القاعدة، التي يرجع تاريخها غالباً إلى اتفاقية سلام وستفاليا في عام 1648، تنص على أن الدول لها السلطة النهائية داخل أراضيها،  بالتالي يجب ألا تتدخل الدول الأخرى فيها. بالنسبة إلى عدد من العلماء، من البديهي أن تكون عواقب انتهاك هذا المعيار بمثابة كابح للتخريب. لكن كما يشير الواقعيون (الواقعية السياسية)، الأهمية الفعلية ليست للقاعدة بحد ذاتها بل لقدرة الدول على فرض سيادتها. ففي النهاية، لطالما استاءت الدول من أنشطة خصومها العدائية على أراضيها قبل وقت طويل من وضع القواعد ضد سلوك مماثل في وستفاليا. ومنذ ذاك الحين وعمليات التخريب كثيرة، حتى من قبل الدول التي تدعي أنها تبجل معيار السيادة. القواعد هي صنو قيود مرنة.

التوسل بخيار التخريب

في مرحلة ما، بالطبع، تصبح تكاليف التخريب أكثر من فوائده، فتقرر الدولة التراجع. الحيلة بالنسبة إلى المخربين المحتملين هي حساب التكاليف بشكل صحيح، لا سيما إمكانية الانتقام. ففي النهاية، قد يكون الانزعاج الطفيف لدولة ما بمثابة خط أحمر لدولة أخرى.

عندما تواجه قوة عظمى قوة أضعف، فإن ميزان حساب التكاليف والفوائد ينحرف بشكل روتيني لصالح القوة العظمى، لذلك من المتوقع أن تستخدم الدولة الأقوى التخريب، إذا كان الخلاف عميقاً إلى حد كبير. هناك كثير من الأمثلة على تطور التخريب عند وجود مثل هذا الخلل في توازن القوى، من الاتحاد السوفياتي في أفغانستان إلى الولايات المتحدة في إيران وتشيلي. قام عالِما السياسة ألكسندر داونز وليندسي أورورك بإحصاء أكثر من 100 حالة منذ عام 1816، حاولت فيها دولة ما أن تفرض تغيير النظام على دولة أخرى. ليس من المستغرب أن أياً من هذه الحالات لم تحدث بين أقران من القوى العظمى في وقت السلم. ففي نهاية المطاف، تغيير النظام هو عمل جاد. إذا شرعت قوة عظمى في اتخاذ إجراءات لمحاولة إحداث تغيير في نظام بلد نظير، فإن الدولتين تكونان تقريباً تعريفاً في حالة حرب، أو ستكونان كذلك قريباً.

ولكن في زمن الحرب، تتغير الحسابات، لأن معظم التكاليف لا تأثير لها. يعد الانتقام والتصعيد من الشواغل الأقل أهمية عندما تكون الحرب قد بدأت بالفعل، كما تتبدد المخاوف من فكرة أن سمعة التخريب قد تعيق التعاون. وهكذا تميل القوى العظمى إلى مواجهة بعضها بحماسة في خضم المعركة. خلال الحروب النابليونية، بذلت فرنسا والمملكة المتحدة جهوداً محمومة لتخريب كل منهما الأخرى، ففوضت كل واحدة في أرض الأخرى صلاحيات واسعة للقوى السياسية المتعاطفة معها.

وخلال الحرب العالمية الأولى، كان لدى ألمانيا برنامج تخريب واسع النطاق ضد روسيا القيصرية، بلغ ذروته عندما رتبت رحلة قطار لإحضار فلاديمير لينين إلى محطة بتروغراد الفنلندية، ما أدى إلى اندلاع الثورة التي أخرجت روسيا من الحرب. وفي الحرب العالمية الثانية، قامت ألمانيا بتنمية الطابور الخامس (المؤلف من المواطنين الأجانب الذين يعود ولاؤهم إلى أعداء حكومتهم) لتقويض فرنسا والاتحاد السوفياتي.

radio free eu ap.jpg

 في مركز راديو أوروبا الحرة في ميونيخ ، أغسطس 1977 (أ ب)

ولكن بين القوى العظمى المتنافسة التي ليست في حالة حرب، عادة ما يُحافظ على التخريب على “نار هادئة”، فيكون مفيداً وواسع الانتشار، لكنه لا يغير قواعد اللعبة. طوال القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطوريات النمساوية والألمانية والروسية قلقة من أن تهدد فرنسا أو المملكة المتحدة السلامة الإقليمية فيها من خلال دعم الاستقلال البولندي. لكن مخاوفها لم تتحقق مطلقاً، لأن القادة في باريس ولندن كانوا يعلمون أن الإمبراطوريات ستخوض الحرب على الأرجح للحؤول دون استقلال بولندا. خلال الفترة نفسها، كانت المملكة المتحدة قلقة من أن تضعف روسيا الموقف البريطاني في الهند، بهدف إلحاقها بإمبراطوريتها المتنامية، لكن هذا ما لم تقدم عليه (روسيا). في كل هذه الحالات، وجهت الدول خناجر نحو قلوب القوى العظمى المنافسة لها، لكنها قررت عدم طعنها. في زمن السلم، كانت التكاليف ببساطة كبيرة للغاية، تدمير الثقة والإمكانية الحقيقية للانتقام والتصعيد. في الواقع، إن القوى العظمى أهداف صعبة.

هذا هو النمط السائد، ولكن هناك بعض التباينات. غالباً ما تستغل القوة العظمى الفرصة إذا كان منافسها ضعيفاً. في عام 464 قبل الميلاد، عندما أدى زلزال مدمر في إسبرطة إلى ثورة، طلبت من مدن يونانية أخرى المساعدة في إخضاع التمرد، لكنها رفضت مساعدة عرضتها فرقة من 4000 عنصر من أثينا خوفاً من تغيير مواقفهم ومساعدة المتمردين. (لاحظ ثوسيديديس أن “الطابع الجريء والثوري” للأثينيين يشكل تهديداً خاصاً). وفي عام 1875، كانت فرنسا تترنح من الهزيمة والاحتلال في أعقاب الحرب الفرنسية – البروسية، عندما قرر بسمارك التلاعب بسياستها الداخلية. وكانت الصين الشيوعية لا تزال تتعافى من الثورة والحرب في خمسينيات القرن الماضي، عندما قامت وكالة الاستخبارات الأميركية بتسليح جيش قومي في بورما، وتقديم المشورة له فشن غارات متكررة على مقاطعة يونان الصينية.

ويعزى مصدر آخر للتباين إلى عامل وثيق الصلة بمدى قابلية الهدف للتخريب، وعلى وجه التحديد، انتشار الوكلاء المتعاطفين الذين يحظون بالمشروعية ويتمتعون بالنفوذ السياسي في البلد المستهدف. خلال الحرب الباردة، قامت شبكة عالمية من الأحزاب الشيوعية بإذكاء الأمل في موسكو والخوف في العواصم الغربية. على سبيل المثال، تمتع الحزب الشيوعي الفرنسي بشعبية واسعة، وجعل دعم المصالح السوفياتية جزءاً أساسياً من هويته. وكان الحزب على استعداد للتصرف بناءً على أوامر ستالين، كما فعل عندما نظم إضرابات جماهيرية معارضة لخطة مارشال. على ما يبدو، لم تستطع فرنسا، التي تضاءلت قوتها بسبب الحرب العالمية الثانية، ردع موسكو عن التأثير على الحزب، لذلك تُركت تلعب دور الدفاع ضد هذا التهديد الداخلي، الذي غالباً ما كان يعني قمعاً عنيفاً للشيوعيين الفرنسيين. لكن سرعان ما هدأ التخريب. في عهد شارل ديغول، قدمت الحكومة الفرنسية نفسها إلى الكرملين على أنها جائزة دبلوماسية أكثر قيمة بكثير مما يمكن أن يقدمه الشيوعيون الفرنسيون، ما أدى إلى تهميش الحزب هذا إلى مصاف عرض جانبي لبقية الحرب الباردة.

“من بين القوى العظمى المتنافسة التي ليست في حالة حرب، عادة ما يبقى التخريب على نار هادئة، فيكون مفيداً وواسع الانتشار، لكنه لا يغير قواعد اللعبة”.

والتخريب يزداد ويتراجع على وقع العلاقات بين قوتين عظميين. كلما كانت المنافسة أكثر حدة، خف قلق المخرب المحتمل بشأن تدمير سمعته من حيث موثوقيته، فإمكانية التعاون منخفضة في الأساس. كانت هذه بالضبط هي الطريقة التي نظر بها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان إلى التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في بداية الحرب الباردة.

رأى كينان أن التخريب ينطوي على سلبيات قليلة، فهو كان بالتأكيد أقل تكلفة وخطورة من الحرب الوقائية أو التحالفات الأوروبية الدائمة، لذلك دعا إلى جعل التخريب محوراً أساسياً لاستراتيجية الولايات المتحدة. وهكذا، في مذكرة سرية للغاية وجهها إلى الرئيس في عام 1948، نصح واشنطن “بتشجيع تنمية مواقف الشعوب الروسية التي قد تساعد على تعديل السلوك السوفياتي الحالي، وتسمح بإحياء الحياة القومية للمجموعات التي تثبت قدرة وعزماً على تحقيق الاستقلال الوطني والحفاظ عليه” بتعبير آخر، تأجيج نيران القومية، بالتالي النزعة الانفصالية، ضمن الاتحاد السوفياتي في محاولة لإطاحة موسكو من الحرب الباردة.

ولكن في نهاية المطاف، أثبت الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، أنه هدف صعب للغاية، وكان تهديده بالتصعيد رداً عالي المصداقية. وكان كينان قد بالغ في تقدير شعبية معارضي ستالين وقلل من قدرة الديكتاتور على سحقهم. مع مرور الوقت، توصل الدبلوماسيون الأميركيون إلى الاعتقاد بأن التخريب من المستوى الثالث، سيجعل من المستحيل الاستمرار في الدبلوماسية الضرورية مع موسكو، لذلك ركزت واشنطن على المستوى الأول والثاني لبقية الحرب الباردة. (لم تحاول مطلقاً مرة أخرى، على سبيل المثال، إدخال متمردين مسلحين خلسة إلى الأراضي السوفياتية. لهذه الأسباب تحديداً، أوقفت التجربة القصيرة مع باكستان خلال الثمانينيات لإرسال المجاهدين الأفغان المدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية إلى طاجيكستان السوفياتية). على النقيض من ذلك، شكلت الصين هدفاً أكثر إغراءً. فقد كانت أضعف بكثير من الاتحاد السوفياتي، مع تفاعل دبلوماسي ضعيف ليس التفريط به مدعاة قلق. وفقاً لذلك، ساعدت وكالة الاستخبارات الأميركية متمردي التيبيت من أواخر الخمسينيات وحتى الستينيات. لم تؤجل العملية إلا عندما قدم الرئيس ريتشارد نيكسون عرضه الدبلوماسي إلى بكين في عام 1972.

التباين في استخدام القوى العظمى للتخريب يعتمد أيضاً على ميزتها النسبية، تختار الدول التخريب إذا بدا جذاباً بالنسبة إلى الأدوات الأخرى الموجودة تحت تصرفها. ففي حال كان من الممكن كسب النفوذ بشكل علني وغير مكلف، فإن التخريب يفقد بعض بريقه. في بداية الحرب الباردة، شعرت الولايات المتحدة أن لديها خيارات قليلة جداً للتأثير على الاتحاد السوفياتي، لذلك كان التخريب يلوح في أذهان رجال الدولة الأميركيين حينها. وفي وقت لاحق، مع توسع الأجندة الدبلوماسية والتجارية، كان لدى واشنطن مزيد من الأدوات لممارسة الضغط على موسكو.

وفي عصر القطب الواحد، مع تقدم الديمقراطية، رأت الولايات المتحدة حاجة أقل إلى التخريب. ورأى صانعو السياسة أن تمويل المنظمات غير الحكومية لنشر الديمقراطية أفضل بكثير من وضع تلك المهمة على الـ”سي آي إيه”. وكما اعترف ألين وينشتاين، المؤسس المشارك للصندوق الوطني للديمقراطية (NED)، في عام 1991، “كثير مما نقوم به اليوم، قامت به سراً قبل 25 عاماً وكالة الاستخبارات الأميركية.”

أخيراً، يمكن أن يؤدي ظهور تقنيات جديدة إلى خلل في حساب التكاليف والفوائد (التي ترتجى من خطوة ما) مؤقتاً، من خلال تقديم فرصة جديدة لتجربة التخريب. أدى إتقان يوهانس غوتنبرغ صناعة الآلة الطابعة في منتصف القرن الخامس عشر إلى ثورة في التوزيع الجماعي للمعلومات والأفكار، بما في ذلك وقوع حدث كان مدمراً بشدة للسلطات الكاثوليكية، أطلق العنان للإصلاح البروتستانتي، مارتن لوثر علق كتابه “95” أطروحة “على باب كنيسة في فيتنبرغ في عام 1517. بعد بضعة عقود، جاء اختراع البارود القوي بشكل متزايد ومسدس الزناد الدولابي (wheel-lock) ليسمح للقاتل بالوصول إلى هدفه بشكل فريد ومميت. لقي ويليام الأول من هولندا هذا المصير في عام 1584، ما دفع الملكة إليزابيث الأولى إلى حظر الأسلحة النارية الميكانيكية على بعد 500 ياردة من القصر الملكي.

ولكن مع مرور الوقت، أصبحت الأهداف “اللينة” الحديثة أكثر صلابة. تسبب الكتيب المطبوع بظهور الرقابة والدعاية المضادة، كما المسدس (في ظهور) الدروع والحراس الشخصيين. هذه الحلقة المفرغة كررت نفسها عبر التاريخ. كان هناك وقت اعتقد فيه المسؤولون الأميركيون أن البث الإذاعي سيكون أداة فعالة لتقويض الاتحاد السوفياتي. ثم جاءت آلات زيروكس، ومن بعدها أجهزة الكمبيوتر الشخصية. لكن في كل مرة، كانت موسكو قادرة على الرد، مشوشة البث الإذاعي ومتحكمة في الوصول إلى آلات النسخ وغيرها من التقنيات. فالبندول (رقاص الساعة) يتأرجح دائماً إلى الخلف.

كل قديم يصبح جديداً مرة أخرى

عند النظر إلى أحداث عام 2016 في سياق هذا التاريخ الطويل، فهي لا تبدو استثنائية. الولايات المتحدة، التي توهمت شعوراً بالأمن الزائف بسبب هيمنتها بعد الحرب الباردة، تخلت عن حذرها وتجاهلت التحذيرات لتعزيز البنية التحتية الحيوية قبل الانتخابات. جاءت تقنية جديدة (الإنترنت) لتولد خللاً مؤقتاً، مقدمةً سلاح تخريب جديداً ورخيصاً وقوياً في متناول قوة عظمى قرينة (ند لها). في أعقاب ذلك، تجد الدولة المستهدفة نفسها الآن تكافح لتقوية دفاعاتها وابتكار طرق جديدة للانتقام ورفع تكاليف التخريب. يشير التاريخ إلى أن الأمر يتطلب إضعافاً شديداً لإحدى القوى العظمى اليوم لجعلها عرضة للتخريب حقاً. باستثناء الحرب أو الثورة أو انهيار الدولة، من غير المرجح أن تصل أي من القوى العظمى (الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا) إلى أدنى مستوى وصلت إليه فرنسا، على سبيل المثال، بعد حربها مع بروسيا، عندما كان بسمارك قادراً على التدخل بشكل فعال. يجب أن تصبح القوى العظمى ضعيفة بشكل غير عادي لكي يتمكن التخريب ضدها من تغيير قواعد اللعبة.

ومع ذلك ، فإن درجات أقل من التأثير والتدخل ستكون أكثر انتشاراً في المستقبل مما كانت عليه في ربع القرن الماضي، وذلك لأن العالم عاد إلى طبيعته بعد فترة شاذة (خارجة عن المألوف) من الهيمنة الأميركية غير العادية. بعبارة أخرى، استعاد التخريب المكانة التي تليق به بين الأدوات المختلفة لفن الحكم. لكنه يحظى أيضاً بدعم من الاتجاهات الحديثة الأخرى. أولها هو الطابع الأيديولوجي المتزايد الذي تتخذه المنافسات الحالية، مع وجود قضايا على المحك لا تتضمن المصالح الوطنية للقوى المتعارضة فحسب، بل أيضاً أنظمة الحكم الخاصة بها. كما كانت الحال في الحروب الدينية في القرن السادس عشر أو الحرب الباردة في القرن العشرين، فعندما ينظر الخصوم إلى بعضهم بعضاً على أنهم غير شرعيين (فاقدون للمشروعية)، فإنهم سيقبلون التخريب بسهولة أكبر. ومن الاتجاهات الأخرى أيضاً، بروز قوى تزرع الشقاق والانقسام في الولايات المتحدة. وستؤدي مجالات الخلاف الجديدة حول المساواة السياسية والاقتصادية إلى مضاعفة عدد المجموعات المتضررة، وإلى بروز نقاط ضعف وحرمان أخرى. طالما أنها لم تمد جسور المصالحة مع الرأي العام الأميركي، وما زالت جراح حقبة ترمب غير ملتئمة، ستتاح لأعداء البلاد فرص جديدة للتخريب.

ولكن مجدداً، “طالما كانت الأمور على هذا المنوال. ستعاني الدول دائماً من نقاط ضعف داخلية يمكن أن تستغلها جهات خارجية. فمن دواعي سرور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يستفيد من حقيقة أن “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان في فرنسا، على الرغم من كونه حركة محلية متجذرة بعمق، يصادف أنه يشارك اهتمام روسيا نفسه بإضعاف المشروع الأوروبي. في ثمانينيات القرن الماضي، رأى السوفيات فرصة في دعم نشطاء السلام الغربيين الحقيقيين الذين عارضوا نشر الصواريخ الجديدة في أوروبا، ودعوا إلى تجميد البرنامج النووي. وبالمثل، لم يتردد المسؤولون الأميركيون في الاستفادة من التقاء المصالح مع غلاة الإصلاحيين الليبراليين في الاتحاد السوفياتي بزعامة ميخائيل غورباتشوف. أما روح التلاقي والتوجه نحو بؤرة مشتركة في حقبة ما بعد الحرب الباردة (فكرة أن التاريخ يقف إلى جانب الديمقراطية والقوة الأميركية) فيجب أن تتراجع وتفسح المجال أمام الإقرار الصريح بواقع المنافسة.

وتاريخ التخريب حافل بما يدعو للاسترخاء بشأن التقنيات الجديدة. في يوم من الأيام، لا شك في أن مخرباً ما، سوف يستخدم تقنية جديدة تدق ناقوس الخطر مرة أخرى. من الآلة الطابعة إلى الراديو، ومن آلة النسخ إلى الإنترنت، فقد قام التغيير التكنولوجي دائماً بفتح طرق جديدة للتلاعب والتخريب، وأطلق العنان المتجدد للقلق والشكوى.

في السنوات الأخيرة، رفعت وسائل التزييف العميق (مقاطع الفيديو المزيفة التي تبدو حقيقية) مخاطر المعلومات المضللة المقنعة بشكل مخيف. لكن الدول ستجد طريقة للرد، وربما تسخير الذكاء الاصطناعي نفسه المستخدم في إنشاء تقنية التزييف العميق، كأداة لتدميرها.

ستعاني الدول دائماً من نقاط ضعف داخلية يمكن أن تستغلها جهات خارجية

ينبغي على أولئك القلقين بشأن التخريب أن يتذكروا أيضاً أن بإمكان السياسة وفن الحكم إبقاءه تحت السيطرة حتى الآن. التخريب هو استمرار التنافس بين القوى العظمى بوسائل أخرى، وطبيعة الخصومات الناشئة بين الولايات المتحدة، وكل من الصين وروسيا تظهر حاجة مطمئنة لقدر كبير من التعاون. ففي ما يتعلق بالتغيير المناخي، وضبط التسلح، وانتشار الأسلحة النووية، ستضطر القوى العظمى إلى العمل معاً. كثير مما تريد الصين وروسيا تحقيقه على المسرح العالمي سيتطلب مساومة مع الولايات المتحدة وحلفائها. ومن المؤكد أن بكين وموسكو تدركان أنهما إذا اعتمدتا على التخريب لدرجة تدمير مصداقيتهما، فإن إمكانية إبرام الصفقات ستتبدد. ستظل القواعد القديمة لحساب التكاليف والفوائد سارية، ما يمنع انتشار التخريب.

علاوة على ذلك، فالصين وروسيا، باعتبارهما دولتين استبداديتين، تملكان نقاط ضعف فريدة في لعبة التخريب. صحيح أن انفتاح المجتمعات الديمقراطية يجعلها أهدافاً أكثر سهولة، لكن الأنظمة القمعية أكثر هشاشة. والدليل على ذلك محاولات بكين وموسكو اليائسة تقييد حريات الإنترنت. أو خذ في عين الاعتبار حساسيتهما الشديدة تجاه جهود الحكومات الغربية لدعم حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، ومحاربة الفساد في جميع أنحاء العالم. في حين أن معظم الديمقراطيات قد تعتبر هذه المساعي أموراً معتدلة نسبياً، فمن وجهة نظر بكين أو موسكو، هي تبدو تخريبية وتهديدية للغاية. هذا أمر متوقع، لأن الأنظمة الاستبدادية تواجه دائماً مشكلة في المشروعية. فهي تعرف أن معارضة القاعدة الشعبية لنظام حكومتها أكثر انتشاراً من معارضة القاعدة الشعبية للديمقراطية.

يمكن للتاريخ أن يفسر الماضي فحسب ويساعد في تفسير الحاضر، لا يمكنه التنبؤ بما سيحدث لاحقاً. لكن إذا أردنا التنبؤ بمستقبل التخريب إلى حد معقول، شيء واحد يبدو جلياً أكثر من غيره، التخريب سيرافقنا دائماً. فهناك قدر معين من التدخل سيصاحب التنافس إلى الأبد، لأن الدول، سواء اعترفت بذلك أم لا، تجده مفيداً. كما هي الحال مع التجسس، ستظل الحكومات مترددة في تجريد نفسها من أداة قيمة من أدوات فن الحكم، بغض النظر عن مقدار التشدق بالكلام عن المعايير والمجاملات. لم يدخل العالم عصراً جديداً من التخريب. فهو لم يترك القديم قط.

*جيل كاستنر باحثة مستقلة مقرها لندن.

**ويليام ك. وولفورث أستاذ في دراسة الحكومات في دانيال ويبستر بكلية دارتموث.

مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2021