“الجملة” التي يريدها الأميركيون ويرفضها خامنئي


إيران لا تناقش تدخلاتها الإقليمية وتفكك لبنان وانقسام سوريا فرصة لها

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

يربط لبنانيون منذ سنوات بين مسار تطورات بلادهم الداخلية وبين المشروع الإيراني لوضع اليد أو نشر النفوذ في عدد من الدول العربية. وازدادت قناعة هؤلاء بهذا الربط مع التعقيدات الأخيرة التي عطّلت البلاد ومنعت تشكيل حكومة تقوم بالحد الأدنى من التدابير لمعالجة الانهيار العام الذي لا يطال الوضع الاقتصادي والمالي والصحي فحسب، وإنما يصيب مؤسسات الدولة جميعاً، التشريعية والقضائية والأمنية. وينسب هؤلاء ذلك كله إلى رغبة إيران الاستراتيجية بالإمساك نهائياً بمفاصل الكيان اللبناني من جهة، وبسعيها الآني إلى تحصين موقعها في المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب في شأن العودة إلى الاتفاق النووي الموقّع عام 2015 والمعروف بـ”خطة العمل المشتركة”.

ولا تبدو هذه الانطباعات والتحليلات بعيدة من الواقع. فالحكومة التي يستحيل تشكيلها حتى الآن، كانت في الماضي تحتاج إلى جهود ومهل لا تقارن بحجم العراقيل التي تتوالد في مواجهة أي خطوة دستورية راهنة. وكانت تجربة منع انتخاب رئيس للجمهورية لمدة عامين بهدف فرض مرشح محدد، نموذجاً عن خطة الوصول إلى الدولة المعطلة ثم المنهارة التي عمل للوصول إليها الفريق اللبناني المرتبط بإيران.

في هذا المناخ من الشعور بفداحة الهيمنة الإيرانية، يصبح طبيعياً النظر إلى تطورات المفاوضات في فيينا وانعكاساتها والموقف الإيراني منها، نظرة ترقب وقلق، خصوصاً مع توقفها بطلب إيراني في انتظار تسلّم إبراهيم رئيسي، المحسوب على المتشددين، منصبه رئيساً لإيران خلفاً لحسن روحاني. ومثار القلق اللبناني، مثله مثل مثار القلق الإقليمي العربي، هو في تطرف الموقف الإيراني الذي سيتكرس مع رئيسي، ما يؤدي إلى ازدياد تمسّك طهران بمكاسبها الإقليمية، وإطلاق مزيد من ممارساتها العدوانية على امتداد المشرق والجزيرة العربية.

في خطابه الوداعي لحكومة روحاني، الأربعاء 28 يوليو (تموز) الفائت، حدد المرشد علي خامنئي المبادئ التي سيلتزمها الرئيس الجديد وحكومته، رافضاً بشكل قاطع ما أسماه “جملة” يصرّ الأميركيون على إدراجها في أي اتفاق “للحديث عن بعض القضايا لاحقاً وإلا لا اتفاق”.

لم يخفِ خامنئي مضمون هذه الجملة وسبب رفضه المسبق لها، فهي تتناول، على قوله، الاتفاق النووي “والقضايا الصاروخية والإقليمية”، ما يعني ربط العودة إلى خطة “العمل المشتركة” بالاتفاق على ضبط الصواريخ الباليستية الإيرانية، وكبح تدخلات طهران في شؤون دول المنطقة.

يرفض خامنئي بشكل قاطع وقف التدخلات الإيرانية والبحث في سلاحه الصاروخي. وهذا مطلب عربي في الأساس، لكن تبنّيه من قبل واشنطن يعتبر تطوراً مهماً في نهج إدارة الرئيس جو بايدن التي كانت تريد العودة إلى اتفاق 2015 من دون البحث في شؤون أخرى. ووصول أميركا إلى إدراج هذه المسائل على جدول المفاوضات، ليس بعيداً من النقاشات الدائرة في واشنطن، داخل الكونغرس وخارجه، والتي تتمحور حول دور إيران ومدى صوابية قرار الرئيس السابق دونالد ترمب في الخروج من الاتفاق معها، وقرار بايدن العودة إلى هذا الاتفاق.

ويحذر الدبلوماسي البارز السابق دنيس روس من أنه مع توقف المفاوضات إلى حين تولّي إدارة متشددة جديدة (في إيران)، “ليست هناك فرص مشرقة لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015” على الرغم من احتمال عودة إيران إليه إذا رُفعت عنها العقوبات. ويذهب روس أبعد من ذلك ليحذر من أن الاتفاق المذكور لن يمنع مضي إيران في مشروعها النووي كما أنه لا يضع قيوداً على مشروعها الصاروخي.

فـ”عندما تنقضي الأحكام الرئيسة لـ’خطة العمل الشاملة المشتركة‘ عام 2030، لن تكون هناك قيود على حجم البنية التحتية النووية الإيرانية… وبحلول عام 2023، أي بعد عامين، لن تكون هناك قيود على الصواريخ الباليستية الإيرانية”.

الجديد الذي يُفهم من كلام خامنئي وتصريحات مسؤولين أميركيين أن إدارة بايدن تأمل في التوصل إلى اتفاق متابعة “أطول وأقوى”، وهذا إقرار منها بأن اتفاق 2015 ليس كافياً.

سيزداد الأمر تعقيداً لدى تسلّم إبراهيم رئيسي مهماته في الخامس من أغسطس (آب) الحالي. وملاحظات خامنئي في شأن “الجملة” التي يريدها الأميركيون كافية لإيضاح جوهر الاختلاف وحقيقة النيات الإيرانية.

التقط الإسرائيليون اللحظة التي كانوا ينتظرونها. الثلاثاء الماضي، تسلّم الرئيس الإسرائيلي تقرير معهد أبحاث الأمن القومي INSS الذي يتضمن توصيات وتوجهات الدولة في المرحلة المقبلة.

ويعتبر التقرير أن “إيران تواصل تقدمها في عمليات تخصيب اليورانيوم، وتراكم قدرات نووية تكنولوجية في تشغيل أجهزة الطرد المركزي… وإسرائيل مُطالبَة بضمان وجود خيار عسكري في مواجهة إيران والإعداد لسيناريو يتمثل في عدم التوصل إلى اتفاق معها بشأن مشروعها النووي”. ويلاحظ التقرير أن إيران ستستمر في بسط نفوذها “في العراق وسوريا ولبنان واليمن بما في ذلك عسكرياً من خلال نشر أسلحة بعيدة المدى، من صواريخ وطائرات من دون طيار وتفعيل للميليشيات المحلية…”.

الملاحظة اللافتة للانتباه في تقرير معهد الأمن الإسرائيلي، هي الربط بين التوتر العام مع إيران وبين احتمالات حرب على الجبهة الشمالية مع سوريا ولبنان!

يشير المعهد إلى أن “احتمالات التهديد الأمني لإسرائيل تتصاعد في ظل تفكك لبنان واستمرار الانقسام في سوريا… وهذا الوضع يسمح للإيرانيين بتعميق تدخلهم وبناء آلة حرب تعتمد على قدرات هجومية دقيقة تطال العمق الإسرائيلي”.

تفكك لبنان يبدو بحسب وجهة النظر الإسرائيلية عملاً إيرانياً متعمداً، خطورته أنه يمهّد لحرب مدمرة أخرى في لبنان. وهذا الرأي بالذات هو ما تراه كثرة من اللبنانيين الذين لا يحتاجون إلى مساعدة في تحليل أوضاعهم. فسياق أحداث عقد من الزمن تجعلهم موقنين أن الخطر الجدّي الذي يهدد بلدهم هو ربطه بالمشروع الإيراني وما يترتب على هذا الربط من أثمان في الداخل وعلى الحدود.