لماذا افتقدت إدارة بايدن استراتيجية محددة في سوريا؟


واشنطن تطوي سياسة ترمب لكن وجود قواتها سيستمر والعقوبات متوقعة

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية @tarek21shamy

منذ تولي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السلطة في البيت الأبيض قبل نصف عام، ظلت سياستها حذرة بشكل ملحوظ حيال سوريا على خلاف النهج الذي اتبعته الإدارات الأميركية السابقة، فلم يعين بايدن مبعوثاً أميركياً لسوريا حتى الآن، ولم يفرض عقوبات على النظام السوري باستثناء عقوبات محدودة على ثمانية سجون سورية، فما السبب وراء عدم بلورة رؤية أميركية واضحة تجاه سوريا، وهل يمكن أن يستفيد بايدن من تجارب سلفه دونالد ترمب في سوريا؟

غياب استراتيجية أميركية

يكاد يتفق الجميع في واشنطن على أن إدارة الرئيس بايدن لم تتوصل بعد إلى استراتيجية جديدة لمعالجة الصراع الدموي المستمر في سوريا، والذي دخل عامه الـ11 قبل أشهر قليلة، فالوجود الأميركي على الأرض لا يشعر به السوريون الذين تفاءلوا في البداية من وعود بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن بقيادة جهد دولي جديد لحماية المدنيين وتقديم حل سياسي حقيقي للصراع، لكنهم الآن يشعرون أن سوريا ليست على قائمة أولويات واشنطن.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية لم تتجاهل سوريا تماماً بعد أن تدخل بايدن بنفسه لمنع روسيا من قطع طريق المساعدات الإنسانية الأخير إلى إدلب، حيث يوجد أكثر من ثلاثة ملايين من النازحين كانوا سيتضورون جوعاً لولا تدخله، وعلى الرغم من إعلان بلينكن فرض عقوبات جديدة على ثمانية من السجون السورية سيئة السمعة، فإن تحركات إدارة بايدن تبدو غير كافية مع استمرار تدهور الوضع على الأرض ومهاجمة الجيشين السوري والروسي المدنيين في إدلب، وشروع نظام الأسد في فرض حصار لتجويع أهالي درعا في استغلال واضح لصمت الإدارة الأميركية وغيابها عن الفعل.

سياسة الانتظار

وبينما يعترف عدد من المسؤولين في الإدارة الأميركية لوسائل الإعلام في واشنطن بأن استراتيجيتهم الدبلوماسية إزاء سوريا لم تُحدد بعد في انتظار استكمال مراجعات سياسية، فإنهم يركزون على الوضع الإنساني في سوريا على اعتبار أن مستويات العنف المنخفضة نسبياً خلال الأشهر القليلة الماضية تستحق محاولة الحفاظ عليها، بخاصة وأن فريق بايدن متفائل مع قدر من الحذر، بوجود فرصة لمزيد من المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن سوريا بعد العمل مع الشركاء والأمم المتحدة لمحاولة التوصل إلى حل سياسي.

ولم يعين الرئيس بايدن حتى الآن ممثلاً خاصاً لسوريا من الدبلوماسيين المتميزين لتفعيل الدبلوماسية الأميركية، ما يرسل إشارة واضحة إلى أن سوريا ليست أولوية حالية للإدارة الأميركية.

كوريا الشمالية على المتوسط

ويخشى كثيرون في المعارضة السورية داخل إدلب وخارج سوريا من أن يشجع استمرار غياب الاستراتيجية الأميركية، النظام السوري وحليفته روسيا على استعادة إدلب بالقوة العسكرية، ما سيدمر أي جهود أميركية لإيجاد حل سياسي، ذلك أن سقوط إدلب سينزع أي سبب للتفاوض لدى نظام الرئيس الأسد، وهذا سيعني المزيد من المآسي والتطرف واللاجئين، والمزيد من عدم الاستقرار، وستصبح سوريا حال إعلان انتصار نظام الأسد، أشبه بكوريا الشمالية ولكن على البحر المتوسط.

وتتمثل المشكلة التي تواجه فريق بايدن في السؤال نفسه الذي واجهه أسلافه وهو، ما الخيارات الأخرى غير التدخل العسكري التي يمكن أن تغير حسابات موسكو والأسد على أرض الواقع؟ فالمزيد من العقوبات التي تستهدف السوريين المتورطين في جرائم حرب والشركات التي تساعدهم، قد يكون مفيداً ولكنه ليس كافياً بالنظر إلى أن الرئيس الأميركي ينبغي أن يوضح للعالم أن الرئيس بشار الأسد لا يمكن أن يشق طريقه بسهولة لينعم بثمار النصر ويعود من جديد إلى المجتمع الدولي.

طي سياسة ترمب

ويبدو أن المراجعة التي تجريها إدارة بايدن حالياً تسعى إلى طي صفحة سياسات إدارة ترمب، التي وسعت أولويات الولايات المتحدة في سوريا من هدفها المحدد بمحاربة تنظيم “داعش”، إلى مواجهة إيران، وحماية النفط السوري من بشار الأسد، لكن إدارة بايدن تركز على ربط السياسة الأميركية بهزيمة “داعش” من دون أي مفاهيم لحماية المنشآت النفطية السورية أو مواجهة وكلاء إيران في مناطق سيطرة النظام، وهو تحول يعكس، بشكل عملي، أهداف الإدارة الأميركية الجديدة في تحول أولوياتها من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي لمواجهة الخصم الصيني، بينما تحاول إصلاح العلاقات المتوترة مع حلفاء أميركا في أوروبا.

أولويات بايدن

ولا يخفى أن الأولوية الرئيسة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط تتمثل في التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي والتفاهم على ترتيب رفع العقوبات التي فرضها ترمب، وهذا لا يعني أن سوريا لم تعد أولوية للأميركيين، لكن سياسة الإدارة الجديدة لم تعد مرتبطة بطموحات إقليمية أوسع، مثل جهود ترمب لإسقاط النظام الإيراني عبر فرض عقوبات أو معارضة تغيير حلفاء الولايات المتحدة من الدول العربية سياستهم بالتواصل مع دمشق.

وتدرك الإدارة الأميركية أن النظام السوري، على الرغم من أنه هش وغير كفوء، فإنه يحظى بدعم روسيا وإيران، وصمد في وجه تمرد المعارضة لمدة 10 سنوات، وأنه على الرغم من عدم سيطرته على كامل البلاد، فإن المعارضة أضعف من أن تشن عمليات هجومية لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها في السابق.

وفي حين تواجه سوريا كارثة اقتصادية ناجمة عن انهيار القطاع المصرفي اللبناني، وتأثير فيروس كورونا، فضلاً عن العقوبات الأميركية، والجفاف الشديد الذي قلل من المحاصيل الزراعية، وتدمير البنية التحتية، تركز الولايات المتحدة على مصالحها المتمثلة في هدفين مزدوجين، هما زيادة المساعدة الإنسانية والاحتفاظ بالوجود العسكري الأميركي لمحاربة “داعش”.

البقاء في سوريا

وأوضحت إدارة بايدن لموسكو صراحة أنها تنوي البقاء في سوريا، وأرسلت وفداً رفيع المستوى للقاء قادة “قوات سوريا الديمقراطية” لنقل قرارات السياسة الأميركية، وهو جهد يتضمن تواصلاً مع تركيا لزيادة المساعدة في تحقيق الاستقرار، مع إدراك واشنطن أن تركيا وروسيا لديهما علاقة منفصلة خاصة بهما في سوريا، وقد سعت إدارة بايدن إلى الاستفادة من هذه العلاقة، لا سيما في ما يتعلق بقضية مساعدة الاستقرار وإيجاد حل وسط بشأن تسليم المساعدات بين المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا والنظام.

في المقابل، فإن موسكو لا تزال ملتزمة بالرئيس الأسد وحافظت على سياسة ثابتة تجاه سوريا تركز على تدريب وتجهيز القوات المسلحة السورية، وتوفير الدعم الجوي والعمليات الخاصة لها، وحماية النظام السوري دبلوماسياً في الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى، وهو جهد أتى ثماره في ساحة المعركة، فالنظام يشعر بالأمان، حتى لو كانت البلاد في حالة مدمرة وغارقة من الانهيار الاقتصادي، فقد حالت موسكو دون انهيار دولة إقليمية شريكة لروسيا.

وجود مفتوح في الشمال

ويبدو أن السياسة الجديدة لإدارة بايدن في سوريا، ستركز على وجود أميركي مفتوح في الشمال الشرقي لضمان استمرار استهداف “داعش” في البلاد بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية”، “قسد”، بينما ستلتزم الإدارة بتوفير الأموال للمساعدة في تحقيق الاستقرار في إدلب، ولن تتخذ واشنطن أي إجراءات لإسقاط النظام السوري.

ومثلما عملت إدارة ترمب بهدوء مع روسيا لإيجاد حل دبلوماسي للصراع في سوريا كي يؤدي التقدم في أهداف واشنطن إلى تخفيف تدريجي للعقوبات، يتصور البعض أن بايدن قد يستخدم النهج نفسه لتغيير سلوك النظام من دون أن يكون بالضرورة في الصورة، غير أن واشنطن وحلفاءها لم يحرزوا سوى تقدم ضئيل في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن سوريا أو تغيير سلوك نظام الأسد، وأدى تباطؤ الرئيس الأسد إلى فشل جولات متعددة من محادثات الإصلاح الدستوري في جنيف، بينما لا تقدم نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في 26 مايو (أيار) الماضي، سوى أسباب قليلة للتفاؤل بشأن استعداد الأسد للسماح بوجود معارضة سياسية.

هل من عقوبات جديدة؟

وفي حين لا يزال من غير الواضح كيف ستتعامل إدارة بايدن مع الوجود الإيراني المستمر في سوريا وأنشطة نظام الأسد العديدة غير المشروعة الأخرى التي تشكل تهديدات استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها والمجتمع الدولي، يبدو من المرجح أن الرئيس الأميركي سيتوقف عن محاولة عزل نظام الأسد في ظل توقعات أن تعمل بعض الدول العربية على تطبيع العلاقات مع دمشق وتقديم المساعدة في إعادة الإعمار.

ومع ذلك، لا تزال العقوبات هي أفضل أدوات السياسة الخارجية لدى واشنطن، ففي الأشهر الستة الأخيرة من ولاية ترمب، فرضت إدارته عقوبات على 113 فرداً وكياناً، لكن لم يكن لها تأثير يذكر على سلوك النظام حتى الآن، ولهذا سيتعين على إدارة بايدن أن تستخدم العقوبات بشكل مختلف إذا كانت تأمل في تحقيق نتيجة مختلفة.

ويطالب كثيرون من الخبراء في واشنطن بضرورة الإسراع بتعيين مبعوث خاص لسوريا مكلف بتطوير استراتيجية سياسية متماسكة، يدعمها مجتمع الاستخبارات الأميركية، لعزل النظام السوري والحد من التأثير الخبيث لإيران وروسيا، لأنه من دون مثل هذه الاستراتيجية، سيكون من المستحيل تحقيق تسوية دبلوماسية قابلة للتطبيق في سوريا، وستستمر واشنطن في النضال مع التهديدات المنبثقة من سوريا لسنوات أخرى مقبلة، وسيفقد السوريون جيلاً آخر في صراع لا نهاية له.