عن معنى أن تصبح الصين قوية

شرح عن السياسة الخارجية الجديدة في بكين

يان كزويتونغ 

في مارس (آذار) 2021، تصدر كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيتشي عناوين الأخبار، حينما أخبر مسؤولين أميركيين خلال قمة عقدت في ألاسكا أنهم “ليسوا مؤهلين كي يتحدثوا إلى الصين من موقع قوة”. وحتى بعد سنوات من تزايد حدة التوتر بين بكين وواشنطن، بدت الملاحظة قاسية بشكل غير عادي، لا سيما من دبلوماسي متمرس، وكذلك جاءت المناسبة جديرة بالملاحظة أيضاً، إذ تحدث يانغ في أول اجتماع دبلوماسي رفيع المستوى بين الصين والولايات المتحدة أعقب دخول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، لذا بدا الأمر كأنه تحذير لا لبس فيه إلى الإدارة الجديدة.

في الداخل الصيني انتشر تصريح يانغ على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وانسجم مع اعتقاد عدد من الصينيين بأن بلادهم بدأت تسمع صوتها على الساحة العالمية، وكذلك قرأت وسائل الإعلام الدولية التعليق بوصفه تعبيراً عن الصين بعد وباء كورونا، بمعنى كونها طموحة وصريحة في مطالبتها بالريادة العالمية.

في الواقع يعبر تصريح يانغ عن تحول نوعي في بكين، يتمثل في اعتقادها بأن الصعود إلى مكانة القوة العظمى يخولها دوراً جديداً في الشؤون العالمية، لا يمكن له أن يتوافق مع الهيمنة الأميركية المطلقة، ولقد تحطمت آمال بكين الأولية في أن تسعى إدارة بايدن إلى تخفيف التوترات معها، وباتت تنظر إلى محاولات بايدن لعزل الصين دبلوماسياً على أنها تهديد خطر يستدعى العمل على جبهات متعددة، بهدف جعل البلاد أقل تأثراً بالعداء والضغط الأميركيين.

في المقابل، لا تعني الثقة التي اكتسبتها بكين حديثاً أنها ستتحدى واشنطن في المجالات جميعها، على الرغم من أن الصين ترفض قيادة الولايات المتحدة في بعض القضايا، إلا أنها كدولة نامية ستحصر المنافسة في المجالات التي تشعر أنها تملك فيها ميزة على أميركا، على غرار مكافحة “كوفيد-19” والحد من الفقر وتعزيز التجارة والبنية التحتية الدولية والتنمية وأنظمة الدفع الرقمية وتكنولوجيا الاتصالات من “الجيل الخامس” في شبكات الخليوي، إضافة إلى أمور أخرى. وفي المجالات جميعها ستجعل الصين في مرحلة ما بعد الوباء صوتها مسموعاً بعزم أكبر من ذي قبل، وستصد بقوة أي محاولات لاحتوائها.

هوية الصين المزدوجة

ذات مرة تضمّن معنى كون الصين “أكبر دولة نامية” في العالم، وهذا لقب شائع في بكين، أنها تتفوق من حيث القدرات على نظرائها المباشرين في الوقت الحاضر، ويعني ذلك المصطلح أن قوة البلاد تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى التناقض الصارخ بين النجاح الصيني والفشل الأميركي في الحرب ضد “كوفيد-19″، حيث تكبدت الصين أقل الأضرار من بين جميع القوى الكبرى خلال الوباء، بل إنها الاقتصاد الرئيس الوحيد الذي حقق نمواً خلال العام الماضي. ومع حلول نهاية 2020 ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي إلى 71 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ارتفاعاً من 66 في المئة في 2019، ويملك صناع السياسة في الصين ثقة في قدرتهم على سد الفجوة المتبقية في العقد المقبل، ففي نظرهم مرت الصين بمراحل النهوض والاغتناء وباتت الآن تتقدم إلى مرحلة أن تصبح قوية، في حين أن النظام الأحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة بدأ يتلاشى، بل يسهم صعود الصين والانحدار النسبي للولايات المتحدة في تسريع وتيرة زواله، وسيحل محله نظام متعدد الأقطاب يقع في محوره العلاقات الأميركية – الصينية.

حتى وقت قريب، نظرت بكين إلى هذا التحول الذي لا يحدث إلى مرة واحدة في القرن بتفاؤل ثابت، وتوقعت “مستقبلاً مشرقاً لنهضة وطنية صينية”، لكن اضطرابات سنوات ترمب، خصوصاً قرار واشنطن في 2017 تصنيف الصين بأنها “منافس استراتيجي”، دفعت المسؤولين الصينيين إلى تقليل حماستهم، ويظهر هذا في الخطة الخمسية الأحدث للصين التي تحمل نبرة أكثر واقعية، من حيث تعدد الفرص في مجال التكنولوجيا والتنمية، وكذلك تحذر من عدم الاستقرار الذي تغذيه “الأحادية والحمائية والهيمنة”، ومع ذلك فإن النتيجة النهائية في نظر بكين لا تزال على حالها، بمعنى أن الصين أصبحت قوة عالمية يمكنها أن تقف على قدم المساواة مع بقية العالم.

في المقابل، ثمة حدود لتأثير الصين عالمياً، وعلى الرغم من كونها قوة عظمى إلا أنها تعتبر نفسها أيضاً دولة نامية، وهي محقة في ذلك بالنظر إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لديها لا يزال بعيداً من نظيره في الاقتصادات المتقدمة. (يضع “صندوق النقد الدولي” نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الصين سنة 2020 عند 10484 دولاراً، المقارنة مع 40146 دولاراً في اليابان، و45733 دولاراً في ألمانيا، و63416 دولاراً في الولايات المتحدة).

كذلك يقصد من لقب “الدولة النامية” الإشارة إلى تحالفات بكين الجيوسياسية، فحتى إذا لحقت الصين بالغرب اقتصادياً، يعتقد أن ولاءاتها ستظل ثابتة إلى جانب العالم النامي، بحسب الرئيس الصيني شي جينبينغ في خطاب ألقاه سنة 2018، معلناً أن بلاده “ستنتمي إلى الأبد لعائلة البلدان النامية”.

وبالتالي ستنعكس هذه الهوية المزدوجة على جميع مناحي السياسة الخارجية للصين في مرحلة ما بعد الوباء. وباعتبارها دولة نامية، لا تزال الصين تفتقر إلى الموارد المطلوبة كي تكون قائداً عالمياً حقيقياً يحظى بمسؤوليات عالمية، خصوصاً في المجال العسكري، لكنها كقوة عظمى لن تحذو حذو الولايات المتحدة، وفي بعض القضايا ستكون المنافسة مع واشنطن حتمية.

لنأخذ مثلاً قضية التنافس الأيديولوجي، فالصين تحرص على عدم وضع العلاقات مع الغرب في إطار حرب باردة جديدة، إذ يعتقد القادة في بكين أن التوسع الأيديولوجي على النمط السوفياتي يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عنيف يعوق النمو المستمر لبلادهم، ولا يتوقعون أن تحظى أيديولوجيتهم بشعبية على غرار ما تحوزه الليبرالية الغربية اليوم، ويفسر ذلك إصرارهم على أن الصين دولة نامية “ذات خصائص صينية،”، إذ تعني تلك العبارة ضمناً أن نظامها السياسي ونموذج حكمها لا يمكن تصديرهما ببساطة إلى بلدان أخرى.

من ناحية أخرى، ستحاول الصين تشكيل بيئة أيديولوجية مواتية لصعودها من خلال التصدي لفكرة أن القيم السياسية الغربية تحظى بجاذبية وصلاحية عالمية، وفي هذا الصدد تعرف الولايات المتحدة الديمقراطية والحرية مثلاً من خلال الممارسة السياسية في الانتخابات والتعبير الفردي عن الرأي، فيما تحددهما الصين عبر الضمان الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، لذا سيتعين على واشنطن قبول تلك الاختلافات في الرأي بدلاً من محاولة فرض وجهات نظرها الخاصة على الآخرين.

واستطراداً، ستحرك القناعة نفسها أيضاً استراتيجية الصين الدبلوماسية في مرحلة ما بعد الوباء. وخلافاً لتصور شائع، لا ترفض بكين القواعد والمؤسسات المتعددة الأطراف في النظام العالمي، لكنها لن تقبل القواعد التي تضعها الولايات المتحدة من دون التشاور مع الصين، وبدلاً من ذلك تريد بكين أن ترتكز المعايير الدولية على تعددية شاملة وحقيقية، ولذا دأبت على استضافة منتديات متعددة الأطراف بمشاركة مجموعة من الدول والمناطق، مثل منتديات التعاون مع الدول الأفريقية والعربية وأميركا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ ودول جنوب شرق آسيا.

وفي غضون ذلك تتوقع بكين من القوى الكبرى الأخرى معاملة ترتكز على المساواة والاحترام المتبادل، ويتضح ذلك من استراتيجيتها الحازمة في استخدام عقوبات انتقامية، فعندما فرضت إدارة ترمب عقوبات على 14 مسؤولاً صينياً رفيعي المستوى إثر عزل نواب من برلمان هونغ كونغ، ردت الصين بفرض عقوبات على 28 مسؤولاً أميركياً بمن فيهم وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو، وعلى نحو مماثل ردت بكين بسرعة على العقوبات البريطانية والأوروبية في شأن قضية شينجيانغ، وفي الحالتين كلتيهما تعتبر الحكومة الصينية أية عقوبات أو انتقاد لسياساتها تدخلاً في شؤونها الداخلية.

ستحصر الصين المنافسة مع الولايات المتحدة في المجالات التي تشعر فيها بالتفوق.

علاوة على ذلك تشهد السياسات الاقتصادية للصين أخيراً تغييراً يحدث بدفع مزدوج من الجائحة التي كشفت عن ضعف سلاسل التوريد العالمية، وكذلك محاولات الولايات المتحدة فك الروابط الاقتصادية مع الصين، وفي الواقع فإن الحكومة الصينية تعتقد أن الحمائية وتباطؤ الاقتصاد العالمي وتقلص الأسواق العالمية سوف يستمر إلى ما بعد الجائحة، لذا تسعى بكين في إطار استراتيجية “التداول المزدوج” الجديدة التي كشف عنها في اجتماع رفيع المستوى لـ “الحزب الشيوعي الصيني” في مايو 2020 إلى تقليل اعتمادها على الأسواق الخارجية، ويتمثل الهدف من ذلك في دعم السوق الداخلية الصينية الضخمة وبناء سلاسل محلية قوية في الإمداد والتوزيع والاستهلاك، وبالتالي تقليل تعرض البلاد للضغوط الاقتصادية الخارجية، خصوصاً من الولايات المتحدة، وسيكون العلم والتكنولوجيا في صلب ذلك الجهد لإرساء أسس التنمية المستقبلية، ومن المأمول أن يؤدي الازدهار المحلي الناتج من ذلك إلى تحسين العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، والمساعدة في تعافي الاقتصاد العالمي.

في سياق متصل، ستسعى بكين أيضاً إلى الحد من احتمالات التعرض للعقوبات المالية الأميركية، ويشمل ذلك الترويج لاستخدام الـ “رنمينبي” (عملتها الوطنية) في التجارة والاستثمار الأجنبيين.

في العام الماضي بدأت تجارب على عملة رقمية في عدد قليل من المدن الكبيرة، إذ من الممكن أن يتيح ذلك الابتكار يوماً ما للصين وشركائها التجاريين إجراء معاملات دولية خارج نظام الحوالات المالية العالمي الـ “سويفت” الذي يخضع فعلياً للسيطرة الأميركية، ويشكل مصدراً رئيسياً للنفوذ الجيوسياسي الأميركي، وبالطبع لن تنكفئ الصين على نفسها في الداخل بشكل تام، بل ستواصل تنفيذ حملتها العالمية الضخمة للبنية التحتية المسماة “مبادرة الحزام والطريق” على الرغم من تباطؤ التقدم فيها أثناء الجائحة. ونظراً إلى أن استراتيجية “التداول المزدوج” تعزز السوق المحلية وليس الروابط العالمية، باعتبارها محل التركيز السياسي الأساسي لبكين، ستعتمد مشاريع “مبادرة الحزام والطريق” من الآن فصاعداً على طلب السوق أكثر من الاعتبارات السياسية، وكذلك ستواصل الصين أيضاً السعي إلى تعزيز التعاون التكنولوجي مع الدول الأخرى، شرط أن تتمكن من مقاومة الضغط الأميركي الهادف إلى فك الارتباط مع الصين في هذه الجبهة.

على النقيض من ذلك، لن تشهد الاستراتيجية العسكرية للصين تغييراً كبيراً في عالم ما بعد الجائحة، وفي هذا الصدد تسعى بكين إلى تحويل “جيش التحرير الشعبي” إلى قوة قتالية من المستوى العالمي جاهزة لخوض الحرب في أي لحظة، مع التركيز على الجودة أكثر من الكمية والقدرات الإلكترونية أكثر من البراعة التقليدية وأنظمة الأسلحة القائمة على الذكاء الاصطناعي أكثر من المهارات القتالية الفردية، ومع ذلك ستبقى مهمة “جيش التحرير الشعبي” متمثلة في الردع وليس التوسع، ويظهر ذلك في الموازنة العسكرية للصين في 2021، وهي أكبر من موازنة القوى الكبرى الأخرى لكنها تبقى أقل من ثلث ما تنفقه الولايات المتحدة على الدفاع، إضافة إلى ذلك التفاوت في الموازنة يفتقر الجيش الصيني إلى الخبرة، إذ لم يشارك “جيش التحرير الشعبي” في اشتباك بالنيران المباشرة منذ 1989، ولم يخض حرباً حقيقية منذ 1979، ونتيجة لذلك تظل بكين حذرة من المواجهات العسكرية المباشرة وستواصل رفضها الانخراط في التحالفات العسكرية التي يمكن أن تجرها إلى حرب لا داعي لها، وللسبب ذاته حرصت الصين على عدم السماح للصراعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وعلى الحدود الصينية – الهندية بالتطور إلى اشتباكات بالذخيرة الحية.

الجيش الصيني أثناء إحدى المناورات في مياه مضيق تايوان

الجيش الصيني أثناء إحدى المناورات في مياه مضيق تايوان (رويترز)

منافسة مفيدة

في البداية، أنعش انتخاب بايدن آمال المسؤولين الصينيين ووسائل الإعلام في إمكان أن تعيد واشنطن النظر بشكل أساس في سياساتها تجاه الصين، لكن سرعان ما تلاشى هذا التفاؤل، إذ تبين أن سياسيات بايدن في نواح عدة تمثل استمراراً لنهج المواجهة الذي اتبعه سلفه، ونتيجة لذلك فمن غير المرجح أن تشهد العلاقات الأميركية – الصينية انخفاضاً في حدة التوتر والمنافسة السائد خلال السنوات الأخيرة.

وفي ذلك الصدد، فإن اندفاع إدارة بايدن إلى تعددية حصرية ضد الصين، أي محاولاتها تشكيل تحالفات في قضايا محددة مثل التكنولوجيا وحقوق الإنسان، لا بد من أن تكون مصدراً خاصاً للتوتر خلال السنوات المقبلة، وتعتبر بكين ذلك النهج أخطر تهديد خارجي لأمنها السياسي وأكبر عقبة أمام نهضتها الوطنية، وتشكل التحالفات التكنولوجية المناهضة للصين بقيادة الولايات المتحدة عقبة في طريق بكين نحو التفوق التكنولوجي، وكذلك ستشجع تحالفات أيديولوجية مماثلة الانفصاليين في هونغ كونغ وتايوان والتيبت وشينجيانغ، وتستهدف هذه التحالفات مصالح جوهرية لن تقدم الصين تنازلات في شأنها.

واستطراداً، ففي مواجهة محاولات الولايات المتحدة تشكيل مثل تلك التحالفات بدأت بكين بالفعل في تعزيز شراكاتها الاستراتيجية الثنائية، فمثلاً بعد أسابيع من الاشتباك العلني بين الممثلين الأميركيين والصينيين في قمة ألاسكا في وقت سابق من هذا العام، شرعت بكين في حملة دبلوماسية واسعة النطاق، إذ أرسلت وزير دفاعها إلى البلقان ووزير خارجيتها إلى الشرق الأوسط، حيث وقع المسؤول الأخير على 25 اتفاقاً من بينها اتفاق تعاون استراتيجي لمدة 25 سنة مع إيران، وتعهدت باستثمار 400 مليار دولار في تلك البلاد، وعلى الصعيد الداخلي استقبلت الصين وزراء خارجية إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، ووقعت على بيان مشترك مع روسيا أغفل، خلافاً للتقاليد، التأكيدات المعتادة بأن التعاون الصيني – الروسي لا يستهدف أي طرف ثالث. (في السنوات المقبلة من المرجح أن تكون موسكو شريكاً مهماً لبكين في التصدي لتسييس قضايا حقوق الإنسان، وفي ترويج نماذج بديلة عن الديمقراطية والتعددية غير الأيديولوجية). كذلك بعث الرئيس الصيني برسالة إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، عبر فيها عن رغبته في تعزيز علاقات بكين مع بيونغ يانغ.

وبصورة عامة لا تزال بكين تأمل بأن تتمكن من حصر التوترات مع واشنطن في المجال الاقتصادي وتفادي تطورها إلى اشتباكات عسكرية، ومع ذلك يتزايد خطر نشوب صراع حول تايوان على وجه الخصوص، وتؤكد أحدث خطة خمسية لبكين التزامها بالسعي إلى تحقيق السلام والازدهار عبر مضيق تايوان، ومنذ فترة طويلة حالت تلك السياسة من دون اندلاع حرب أميركية – صينية محتملة على الجزيرة.

لا تزال سياسة الصين الخارجية بعد الجائحة في مراحلها الأولى.

وعلى الرغم من تمسك الصين بمبدأ التوحيد السلمي للبلاد حتى الآن، إلا أنها قد تتخلى عنه إذا أعلنت تايوان استقلالها بحكم القانون، وكلما دعمت الدول الأخرى سياسات تايوان الانفصالية ينفذ “جيش التحرير الشعبي” مناورات عسكرية بهدف ردع تايوان، وفي غضون ذلك تأمل بكين بالتوصل إلى تفاهم ضمني مع واشنطن بأن الحفاظ على السلام في مضيق تايوان يعتبر مصلحة مشتركة.

ولا يعني هذا أن التعاون مع واشنطن غير وارد، إذ أعربت بكين عن استعدادها للعب دور نشط في إصلاح أنظمة الحوكمة العالمية ومساعدة الاقتصاد العالمي في التعافي بعد الجائحة، ومعالجة التحديات العابرة للحدود بالتنسيق مع واشنطن. وفي هذا الصدد، التقى مبعوث الصين للمناخ شي جينهوا بالفعل نظيره الأميركي جون كيري، وأشار وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أن الصين لا تعارض جهود إدارة بايدن في إعادة إحياء الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران سنة 2015، وناقش الدبلوماسيون الأميركيون والصينيون خططاً بشأن اعتراف كل طرف بلقاحات “كوفيد-19” التي أنتجها الطرف الآخر لأغراض السفر الدولي، وفي غضون ذلك عبرت الصين عن انفتاحها على إجراء مفاوضات تجارية على أساس ما يسمى باتفاق المرحلة الأولى التي وقعتها إدارة ترمب في 2020، وأشار بعض المسؤولين الأميركيين كوزير الزراعة توم فيلساك إلى أن الصين أوفت حتى الآن بتعهداتها في ذلك الاتفاق.

في حال استمرار المنافسة، ومن الأفضل اعتبارها سباقاً وليس مباراة ملاكمة، بمعنى أن يبذل كل جانب قصارى جهده للتقدم على الآخر من دون أي نية لتدميره أو تغييره على نحو دائم، وفي 2019 قبل أن يصبحا مسؤولين رفيعي المستوى في مجال الأمن القومي في إدارة بايدن، طرح كبير مسؤولي شؤون آسيا في “مجلس الأمن القومي كورت كامبل، ومستشار الأمن القومي حالياً جيك سوليفان أفكاراً في ذلك الإطار، وكتبا في هذه المجلة أن “الخطأ الأساس الكامن في التقارب يكمن في افتراض قدرته على إحداث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصاد والسياسة الخارجية في الصين”. وأوضحا أن الهدف الأكثر واقعية يتمثل في السعي إلى إيجاد “وضع مستقر من التعايش الواضح بشروط مواتية لمصلحة الولايات المتحدة وقيمها”. واستطراداً، فليس ذلك الرأي ببعيد جداً من أمل وانغ في أن ينخرط كلا الجانبين في “منافسة مفيدة” على أساس “تحسين القدرات الذاتية وتنوير الجانب الآخر، بدلاً من الهجمات المتبادلة واللعبة الصفرية، وإذا لم تكن بكين ولا واشنطن تنويان إخضاع الآخر، فسيكون التنافس بينهما شرساً، لكن أكثر اعتدالًا من صراعات القوى العظمى الوجودية التي شهدها العالم في القرن الـ 20.

كيف ستسير تلك المنافسة عملياً؟ من ناحية ستتكشف عن ساحات صراع جديدة وعلى رأسها الفضاء الإلكتروني، ونظراً إلى أن المجال الرقمي يستحوذ على حياة الناس بشكل متزايد، فسيصبح الأمن السيبراني أكثر أهمية من الأمن الإقليمي، وبالفعل تعرف حصة الاقتصاد الرقمي من الناتج المحلي الإجمالي للقوى الكبرى نمواً سريعاً، مما يجعله مصدراً أساساً للثروة الوطنية، وسيؤثر السباق في الريادة في شبكات الجيلين الخامس والسادس للخليوي على طبيعة السباق بشكل متزايد، وفي الوقت الحالي يبدو أن الصين تحتل الصدارة، وبحلول فبراير (شباط) 2021 استحوذت الشركات الصينية، بما في ذلك شركة التكنولوجيا العملاقة “هواوي”، على 38 في المئة من براءات الاختراع المعتمدة في الجيل الخامس للخليوي، بالمقارنة مع حوالي 17 في المئة للشركات الأميركية. (ومع ذلك ففي مناطق أخرى لا تزال المنصات الرقمية الأميركية متقدمة على نظيراتها الصينية، وتمثل المنصات الرقمية الأميركية حوالي 68 بالمئة من الاقتصاد الرقمي العالمي من حيث رأس المال السوقي مقارنة مع مجرد 22 في المئة للشركات الصينية).

في غضون ذلك، سيأخذ التعاون الدولي على نحو متزايد شكل تحالفات تتعلق بقضايا محددة بدلاً من المؤسسات الدولية أو حتى الإقليمية الحقيقية، وفي بعض الأحيان قد تنتمي بكين وواشنطن إلى الأندية نفسها، على غرار الحال في ما يتعلق الأمر بمنع انتشار الأسلحة السيبرانية وأنواع معينة من أدوات الذكاء الاصطناعي. وعلى المدى الطويل يمكن للقوى الرقمية العظمى أن تتقاسم مصلحة تقديم وفرض بعض الأنظمة الضريبية الدولية بهدف حماية شركاتها الخاصة من ضرائب مفرطة قد تفرضها عليها بلدان أخرى، لكن في معظم الأحيان ستعمل الصين والولايات المتحدة على بناء فرق متنافسة، وستقرر الدول الأخرى إلى أيهما ستنضم بحسب كل حالة على حدة، ووفقاً لما يخدم مصالحها الوطنية بصورة أفضل، وسترحب معظم الحكومات بهذا الاتجاه بعد أن تبنت بالفعل استراتيجيات احترازية كي تتجنب الانحياز إلى إحدى القوتين.

بطبيعة الحال، سيجلب النظام الدولي القائم على الأندية تعقيدات خاصة به، ومثلاً ستكون الدولة المنضمة إلى تحالفات تقودها واشنطن وأخرى تقودها بكين شريكاً أقل جدارة بالثقة بالنسبة إلى القوتين كلتيهما، ويمكن أن يعاقب أعضاء في التحالف نفسه بعضهم بعضاً بسبب الإجراءات التي تتطلبها عضويتهم في أندية أخرى، ومثلاً تنتمي أستراليا والصين إلى “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” التي تشكل اتفاقاً تجارياً بين عشرات الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وفي المقابل، أدت النزاعات حول حقوق الإنسان أخيراً إلى قيام أستراليا بإلغاء صفقتها مع الصين المتعلقة بمبادرة “الحزام والطريق”، وقد ردت الصين عبر تعليق الحوار الاقتصادي مع استراليا. وبصورة مماثلة، دأبت دول أوروبا الشرقية على إبلاغ الدبلوماسيين الصينيين بأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تجبرها على الوقوف ضد الصين في الأمور السياسية، ومع ذلك تتعاون الدول نفسها مع الصين في الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر انتهاك لقوانين الاتحاد الأوروبي، مبررة ذلك بمشاركتها في “التعاون بين الصين ودول وسط أوروبا وشرقها”، وهو منتدى دبلوماسي في تلك المنطقة أطلقته الصين.

وبالتالي فمن المرجح أن تؤدي صراعات كتلك إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي وتسريع تفكك العولمة في العقد المقبل، لكنها أفضل من تقسيم العالم إلى كتل جيوسياسية متصلبة، وطالما بقيت الدول الفردية أعضاء في أندية على جانبي الصراع فلن يكون من مصلحتها وضع كل بيضها في جانب واحد، وتالياً سيقود ذلك التشكيل الثنائي القطبي إلى بعض التوتر، لكنه بشكل عام سيكون أقل خطورة بكثير من منافسة شاملة على غرار “الحرب الباردة”.

لا تزال سياسة الصين الخارجية بعد الجائحة في مراحلها الأولى، وفي أحيان كثيرة عمدت بكين إلى تعديل سياساتها كي تتلاءم مع الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة، متبعة نهج دنغ هسياو بينغ في “عبور النهر بتحسس الحجارة”، ولن تكون الحقبة المقبلة مختلفة، بل ستحدد الإنجازات والإخفاقات مسار الصين وخياراتها، ومع ذلك ستتكون خلفية تلك التعديلات من مشهد عالمي متغير بشكل جذري، إذ لن تكون القرارات الأحادية الجانب، من قبل واشنطن ومختلف التحالفات والائتلافات الخاصة بقضايا معينة، مجدية على غرار ما كانته في أوقات سابقة، ومع استعداد عدد من الدول إلى العودة للحياة بعد الجائحة، يتعين عليها أن تتصالح مع هذا الواقع الجديد.

* يان كزويتونغ أستاذ متميز وعميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغهوا.

مترجم من فورين أفيرز، تموز (يوليو)/ أغسطس (آب) 2021