في ختام شهر تموز/ يوليو، وبعد أن تقيأ الرافضون للثورة والعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية والكرامة الإنسانية؛ تقيأوا ما في بطونهم من أوراق اعتماد يُقدمونها لإعلان التبعية والولاء لواشنطن وتل أبيب، وباقي المنظومة الصهيو غربية وأغلب الحكومات المعادية، هذا في وقت يتصور فيه البعض أن مصر كتلة صماء؛ بلا إنفعال أو مشاعر، ولا تتأثر بما يجري فيها وحولها؛ من تدجين وتطويع وتطبيع، مع الاعتياد على حصار السلطات للمواطن، وفرض الخيار الأوحد عليه؛ الخيار الصهيو غربي، وتعميمه على دوائر رسمية وشبه رسمية وشركات ومؤسسات وهيئات؛ من كل لون ونوع، وهي مرحلة أعلى من العنصرية؛ استقرت في قصور المُلك والحُكم، وأحكمت قبضتها على صناع القرار ومنفذي المشاريع غير المجدية والعشوائية.
ومثل هذه البيئة صالحة ومهيأة لنشر أوبئة وعلل طائفية ومذهبية وانعزالية؛ مهتمها جمع وتنظيم وتمويل أمراء وشيوخ الفتن، واختبار قدرتهم على العمل المباشر وغير المباشر لإشعال النيران والصراعات المفتوحة لإعاقة كل ما له علاقة بالاستقلال الوطني والقومي، وإفساد ما هو جامع، وعاصم للإنسان العربي مما هو مخطط له، وإفراغ العقول من الأهداف السامية والمحتوى النبيل، ويقتصر التركيز على جني المال والثروة؛ من أي مصدر؛ مشروع أو مُجَرَّم، وأكبر دليل على ذلك هو ما جرى في الجزيرة العربية والخليج، من الاستثمار في العنصرية والحروب، والقبول عن رضا بتطبيق كل ما هو عاد للإنسان والتاريخ والمستقبل، ويقبلون على ذلك برغبة جامحة وحماس منقطع النظير، وتسابقوا نحو التصفية المتعمدة لكل ما له علاقة بقضية فلسطين وشعبها، دون استنكار التنكيل والإبادة والتهجير القسري.
وكانت النية معقودة على تناول الخطر الانعزالي البادي من تصرفات وأعمال «المشير السيسي» وبيان الفرق بين رحابة واتساع مجالات وآفاق خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وبين الجنوح بعيدا والتماهي مع الأعداء، والتفوق على من سبق، وفي مقدمتهم أنور السادات وقرينته، التي أقام لها «المشير السيسي» موكبا جنائزيا فاق موكب إعادة دفن الملوك القدماء الذي تم من شهور، وهما من فتحا بابا واسعا أمام الرياح الأمريكية العاتية والأعاصير الصهيونية المدمرة؛ بدءا من مباحثات فك الاشتباك الأول عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وتأتي أحداث تونس فتتحول إليها أنظار العالم؛ تتابع ما يجري فيها، وأجد من الضروري قول كلمة عنها؛ قد تلقى ضوءا وتفسر جوانب قد تكون قد غمضت على كثيرين، ونبدأ بموقف شبه عام في مصر لا ينكر فضل تونس في فتح باب الثورة والتغيير؛ بطابعه الشعبي والثوري الأصيل نهاية 2010، وبسرعة البرق انتقلت الشعلة إلى كل أنحاء مصر بعد أسابيع قليلة مطلع 2011، لكن رغم الطوفان الجماهيري الكاسح عانت الثورة المصرية انتكاسة حادة؛ صنعها من استفاد من الثورة الموءودة، وجلس على مقاعد السلطة العليا بعد الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو، وتمثلت الانتكاسة في تمكين الدولة القديمة التي كانت تترنح؛ من وأد ثورة شعبية فريدة، وقد لعبت المخابرات الحربية بقيادة «اللواء عبد الفتاح السيسي» وقتها؛ لعبت دورا كبيرا في إجهاض ثورة يناير العظيمة، ثم استدار على ثورة 30 يونيو/حزيران 2013، وتعامل معها بنفس الطريقة، ويُرَكّز حاليا على يوم 3 يوليو/تموز 2013، وأقل وصف لذلك الدور أنه تغيير مضاد؛ مكنه بمعونه الرئاسة الانتقالية التي تولاها رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور، وتمكن «المشير» من التحكم في مفاتيح ومغاليق دواليب الدولة والحكم.
والسؤال هل ما جرى في تونس كان متوقعا؟ والرد بالإيجاب.. فالرئيس التونسي بدا حكمه مغردا خارج السرب، الذي جمع حزب «النهضة» وعدة أحزاب صغيرة، لها حساباتها في التعامل مع الخارج في لندن وواشنطن وتركيا وباريس وتل أبيب، ومع ذلك صبت تصريحات الرئيس التونسي منذ اعتلاء كرسي الرئاسة في قناة التأييد الواضح للقضية الفلسطينية، في زمن عربي مصهين وغير مُوَاتٍ، وبادر أثناء هبة القدس في مايو الماضي (2021) واتصل باسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»؛ مؤكدا على موقفه الثابت: «أن تونس لن تدخر جهدا للوقوف إلى جانب الأشقاء الفلسطينيين لاسترجاع حقهم المسلوب والذى لا يمكن أن يكون موضوع صفقات أو أن يسقط بالتقادم مهما اشتد الظلم والعدوان… وأشار إلى أن أكبر خطر يتهدد الحق الفلسطينى هو ثقافة الهزيمة والاستسلام؛ داعيا إلى وحدة الصف في الداخل» ومثل هذا القول في هذا الزمن المعتل يستوجب العقاب، الذي قد يصل إلى حد التدخل الصهيو أمريكي فرنسي المباشر لإسقاطه.
وذكرت بعض المصادر أن «النهضة» قد تمكنت بالدهاء في التعاطي مع الوضع الجديد. وتسللت إلى مفاصل الإدارات التونسيّة. وتدهور مستمرّ للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وللفوضى الإدارية الواسعة. وانتشر البؤس والتخلّف، وأشارت كثير من الأصابع إلى مسؤولية «النهضة» الفعلية عن ذلك، وبدأت تونس تعيش أزمة اقتصادية حادة منذ الاستقلال عام 1956.
ووطنية ومبدئية رئيس الجمهورية التونسية لا تعيبه، والعيب هو في التلون حسب الطلب، وفي الأكل على كل الموائد، والتربص بصاحب المبدأ الوطني والأخلاقي والإنساني. وتاريخ الرئيس التونسي الأكاديمي والحقوقي يشهد على نزاهته واستقامته؛ عمل أستاذا بجامعة تونس، وأمينا عاما للجمعية التونسية للقانون الدستوري، فضلا عن شَغْلِه منصب رئيس قسم القانون الدستوري بجامعة سوسة، وعمل خبيرا قانونيا لجامعة الدول العربية، وللمعهد العربي لحقوق الإنسان، وهذا رفع رصيده الوطني والسياسي والأكاديمي والشعبي، وزاد من وزنه بين العامة والمثقفين.
واتخذ قيس سُعَيد من فلسطين بوصلة هادية له فيما يتخذ من مواقف وقرارات، وذلك عكس، من يضبطون ساعاتهم على التوقيت الفرنسي والأمريكي، أو توقيت تل أبيب، ونفذ تدابير قانونية ودستورية وتنظيمية مكفولة بنص الدستور، الذي منحه حق التدخل، وحرص على تجميد مجلس النواب وليس حله، وهي الحدود المسموح بها دستوريا لرئيس الجمهورية إذا ما واجه أزمة أو ظرفا استثنائيا.
والسؤال الذي بدا أكثر تداولاً: هل ما قام به سُعَيِّد يؤكد مسار الثورة التونسية الذي ألهم الشباب العربي على اختلاف أعماره، وتنوع ثقافته وتعدد منابته وبيئاته، ولا يَنطبق على ما قام به وصف «انقلاب على الدستور» والأقرب إلى الصحة إنه عمل دستوري استثنائي، يواجه الاحتمال المتزايد للخطر الطائفي والمذهبي؛ في بلد لم يواجه مثل هذا الاحتمال من قبل، وبدت القرارات ملائمة ومستجيبة لحراك متطلع للقضاء على الفساد؛ المتغلغل في أروقة الحكم والدولة.
وكثيرا ما لمح الرئيس التونسي إلى ممارسات حركة «النهضة» الإسلامية؛ وهي الامتداد التونسي للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وتبدو وقد أسكرها ما بدا ها من حضور بعد ثورة يناير التونسية، ولم تسع للاندماجه ومشاركة القوى التونسية الحية؛ الجامعة للوطنيين والعروبيين والديمقراطيين؛ لكنها أعطت أولوية مطلقة لمشروعها الخاص، ولم تقبل بالتعاون أو التنسيق مع المشروع الوطني الجامع؛ سياسيا واجتماعيا وفكريا؛ على الأصعدة القومية والإقليمية والدولية كافة، ووالاقتراب من الدول والشعوب العاملة من أجل التحرر والعدل الاجتماعي والديمقراطية والوحدة القومية.
هذا وطلبت الإدارة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، وقد بدأ بوصف الوضع التونسي بالأزمة؛ طالبا من الرئيس التونسي «احترام الديمقراطية وإجراء حوار مع الأطراف السياسية» وتناسي العوار الأمريكي وجرائم بلده ومآسيها، وما خلفت من قتل ودمآر في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا وليبيا، ودورها المخرب في أغلب أقطار «القارة العربية».. ولم يتصرف سُعَيّد كما تصرف السيسي، المتجاوز للدستور دوما، ويستبدله بطلب تفويضات؛ شخصية؛ تمثل تحايلاوتجاهلا، فطن اليه الجمهور واعتقد لن تتكرر!!.
واستند الرئيس التونسي إلى الفصل 80 من الدستور، ويسمح بتدخل رئيس الجمهورية في «حالة خطر داهم» وعليه اتخاذ «التدابير اللازمة لتلك الحالة الاستثنائية، واستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن التدابير في بيان إلى الشعب» وهو ما تم بالفعل.
وأحدث ذلك دوياً مسموعاً، حسب تصريحات قوى وأطراف معارضة ومناوئة، والنص الدستوري من وجهة نظرهم يحتمل التأويل، والتأويل في صالح الإجراءات،؛ وعمل تقديري، وكان القلق من الخطر الذي قد يشكله رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، فلم يستشارا قبل اتخاذ الإجراءات، وغياب المحكمة الدستورية، وصرح رئيس الوزراء هشام المشيشي إنه سوف يسلم سلطاته إلى الشخص الذي يحدده الرئيس قيس سُعَيد، مؤكدا بذلك على رفض لعب دور «العنصر المعطل» فيما يحدث للبلاد في الوقت الراهن!!