الربيع العربي بين الديمقراطية و«سلالة الحمير آكلة الدساتير»!

ليس للبرلمان التونسي قبيلة تحميه، بل دستور بلعته «سلالة الحمير آكلة الدساتير» حسب وصف الرئيس التونسي قيس سعيّد في فيديو قديم له، وهو يتندر حول خصائص المستبدين، مستذكرا مشهدا من مسرحية «غربة» لدريد لحام، قبل أن يتبين أن لحام هو الآخر مناصر لسلالة فرعية مفترسة من «الحمير آكلة الدساتير». لكن الرئيس التونسي، الذي ظهر قبل أيام في لقاء متلفز أعقب إعلانه عن تجميد البرلمان المنتخب، كان يشرح بلغته الفصحى المتكلفة – والتي يستلهم إيقاعها على ما يبدو من أجواء فلم الرسالة والحجاج الثقفي – كان يشرح للمشاهدين وهو الأستاذ الجامعي، كيف أنه خير من يفهم بالدستور لأنه أستاذ القانون، ليعطينا مثالا جديدا على التأويل السياسي للقانون وعلى أزمة التعليم الأكاديمي العربي!

المادة 80 التي تنص بوضوح على تعذر المس بالبرلمان من قبل الرئيس، وعلى أن إجراءات الرئيس يجب أن تترافق مع إبقاء البرلمان منعقدا، هذه المادة ليست بحاجة لخبراء قانونيين يفتون كل حسب ميله السياسي، كما هي العادة في بلاد العرب أوطاني، حيث يشعر ضمير كل خبير بالقانون استنادا لمرجعية قيمية أو مهنية حاكمة، فالقانوني الإسلامي الهوى يتفق مع كونه خرقا دستوريا واحتلالا لموقع المحكمة الدستورية من قبل الرئيس، وربما لو كانت الآية مقلوبة والرئيس من النهضة لقال ما قاله الخبير المعادي للإسلاميين الذي يعتبر أن للرئيس صلاحيات حسب الدستور، والدستور أكله الحمار!
في تونس ومصر حيث أسفر الربيع العربي عن أول انتخابات ديمقراطية، وصل الإسلاميون المعتدلون من تيار الإخوان للسلطة، وبطبيعة الحال نالهم ما نالهم من انتقادات بعد أخطاء فادحة ارتكبوها خلال وجودهم في السلطة، وأوزار ورثوها من تراكم مؤسسات دولة فاسدة ومترهلة. وبدلا من إزاحتهم من خلال الانتخابات، وهي الآلية الوحيدة التي تعكس قرار أغلبية الشعب وحجم المعارضة ووزن الأطياف السياسية، فالنظام الأكثر نجاحا الذي ابتكر لتداول السلطة وحل الصراع عليها، هو الانتخابات، التي لا تعني أن الفائز فيها يمثل الشعب لكنه يمثل الكتلة الفردية الأكبر والأكثر تنظيما، والتي ستشكل إدارة تنفيذية للسلطة (حكومة) بعد تأمين نصف الإدارة التشريعية (البرلمان) وعلى النصف أو الجزء الآخر الخاسر القبول بسلطة الأغلبية، مع ممارسة حق الاحتجاج لا الانقلاب. غير ذلك نحن أمام خيار آخر وحيد، الغوغاء، واستبداد فئة بالسلطة تحتكر تمثيل الوطن والشعب والأمة وتورث سلالتها صك الاحتكار.
ما حصل أنه تم اللجوء للمظاهرات والشارع، لادعاء تمثيل الشعب والوطن، وكأن الشعب يقاس رأيه وتمثيله بحجم الحشود وطول الشارع وعرضه، وهي آلية تتبعها القوى السياسية التي لا تملك أغلبية شعبية تؤهلها للفوز بالانتخابات، لكنها تملك قوى الدولة العميقة من مؤسسات أمنية وعسكرية وإعلام، وهكذا تستبدل صناديق الاقتراع بصناديق الرصاص!
ودائما وأبدا كانت الحجج الموتورة للانقلابيين هي «خطر الإسلاميين»، والأخطر أن هناك «متثاقفين» ينظرون لهذا الخطر الداهم الذي يبرر لهم الاستبداد ومصادرة النظام الوحيد المعبر عن قرار المجتمع والمنظم لعملية الوصول للسلطة والمانع للفوضى، رغم أن تيار الإخوان يختلف بمسافة لا بأس فيها عن معظم التيارات الإسلاموية الرافضة للعملية الديمقراطية، كالسلفيين مثلا، فهؤلاء يعتبرون الديمقراطية «كفرا»، بينما الغنوشي مثلا لديه كتاب اسمه «الديمقراطية في الإسلام».

في الحقيقة، كما أراها وليس كما يراها الدستور، إن التخويف من بعبع الإسلاميين لا يعود بالدرجة الأولى إلى خطر وجودهم في السلطة، رغم عدم إيمان الأصوليين منهم بالديمقراطية، لكن السبب الأساسي هو أن التيار الإسلامي يمثل بالنسبة للأنظمة العربية التقليدية خطرا بوصفه المعارضة الأكثر تهديدا لحكمهم، كون التيار الإسلامي الأكثر تنظيما وشعبوية، والدليل فوزه في معظم الانتخابات التي جرت عقب الربيع العربي. ورغم تراجع شعبية الإسلاميين الحداثيين الذين اكتووا مبكرا بنار السلطة وأعباء الفشل الاقتصادي والإداري المتراكمة من عقود قبلهم، رغم ذلك، إلا أن الأنظمة العربية اللاديمقراطية، القبلية والملكية والقومية الخطاب والوطنية، ما زالت تنظر للعملية الديمقراطية كخطر، وبالتالي للفائز المحتمل أو المنافس الأشد بهذه العملية الديمقراطية وهم الإسلاميون، كخطر، وبالتالي تحاول ضربهم أينما وضعوا قدمهم. إن الموضوع يتعلق بذهنية الاستبداد أكثر مما يتعلق بنزاع بين الأنظمة والإسلاميين، بمعنى آخر، لو كان من هم في الحكم إسلاميون، فلربما استبدوا أيضا بالسلطة وبدأوا بالتخويف من بعبع القوميين «المعادين للإسلام» والعلمانيين «الموالين للغرب»، وهذا ما حصل تاريخيا خلال استبداد الإمارات الإسلامية بالسلطة، فالاستبداد لا دين له، لكن العرب تاريخيا كأنهم يدينون بالاستبداد!
لكن لماذا حصل ما حصل مع إخوان مصر وتونس ولم يحصل مع أنظمة مستبدة (الأسد) وبعضها منتخب ديمقراطيا (لبنان والعراق) لكنها لم تتأثر بفعل المظاهرات والاحتجاجات ومخططات الانقلابات؟! لأن أحزاب الإسلام السياسي في مصر وتونس لا تستند لقبيلة أو طائفة كما تستند أحزاب السلطة المرتبطة بالإسلام السياسي الشيعي في العراق ولبنان، ولا تستند لمؤسسات عسكرية أو أمنية تلعب دورا في الهيمنة العميقة في مجتمعات تخلو من الانقسام المجتمعي القبلي والطائفي (مصر وتونس) وهكذا فهم بلا عصبة في بلاد العصائب الحاكمة، الحكومات الديمقراطية في مصر وتونس لا يحميها إلا دستور والدستور في بلادنا تأكله «الحمير» وقد تعاني عسر الهضم أيضا!