في أعراض مرض الثقفوت العربي


طغيان الخطاب السياسوي على الكتابة الإبداعية والفكرية جعلها رهينة الموسمية العابرة

أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1

ما هو “الثقفوت” العربي؟

“الثقفوت” ظاهرة مرضية تصيب المثقف والثقافة العربية على حد سواء، وهو مرض فيروسي يصيب العقل الذي ينتج أبنية النظام الفكري والمخيال الذي يحتضن التهيؤات والأشكال والرؤى واللغة العربية التي يُفَكر بها وفيها.

ويمكننا تحديد أعراض مرض “الثقفوت” العربي كما يلي:

من علامات مرض “الثقفوت” العربي أنه لا يتحدث ولا يتحدد إلا بمرجعية دينية، فالأيديولوجيا الدينية حاضرة وضاغطة بشكل طاغٍ في مجالات التفكير العام في الفلسفة، وفي الرياضيات والعلوم الطبيعية والإعلام والرياضة البدنية، فالمجتمعات العربية، دينية ولو مظهرياً، لذا فكتابة “الثقفوت” العربي في مثل هذه الحقول سجينة قاعدة الأيديولوجيا الدينية.

أمام هذا الحصار الأيديولوجي الديني الظاهري، ولتبرير الوجود، يجد “الثقفوت” العربي نفسه رهين الأيديولوجيا الدينية الزائفة فيضطر للاستثمار في أسلوب “النفاق” الثقافي الذي يتستر في غلالة “الاحترام” المشبوه الذي بموجبه يتم تقليم أظافر النقد والعقل والاختلاف.

إن الأخلاق المزيفة المتسترة في الأيديولوجيا الدينية والمعممة والمكرسة بالشعبوية والدجل تمارس عملية كبح للفكر العقلاني، وبالتالي تعمم مرض “الثقفوت” الذي حول العلماني العربي إلى مخلقٍ بالٍ “ديني” حتى وهو ينقده أو يخاصمه.

لقد حول “الثقفوت” العربي كل مظاهر الثقافة إلى حالة دينية، فالعالم لا يرى عندنا إلا من خلال ثقب الديني، أستغرب أن تحضر ملتقى فلسفياً في بلد عربي يتناول أعقد المشكلات الفكرية؟

“الثقفوت” العربي قائم على عكازات فكرية كبيرة لكنها من قش أو تبن في الكتابة العربية بشكل عام، فكرية أو إعلامية أو إبداعية، نعثر على أكبر كمية من الأسماء الثقيلة في الفكر الإنساني كاستشهادات أو عكازات نصية، أسماء من الغرب والشرق، من اليسار واليمين، من العلمانيين والدينيين واللادينيين، من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس واللغويين والألسنيين والمؤرخين والنقاد من كل تيار ومن كل فضاء، ولكن حين نركز على طبيعة هذه الاستشهادات لا نجدها متمفصلة مع بنية الكتابة وبنية التفكير، بل لا تعدو أن تكون ظاهرة تزويق “ثقفوتي”، الغرض منها هو “الإبهار” وممارسة “الإبهام” على القارئ البسيط الذي يعتقد أن كل كلام “غامض” هو علامة من علامة “الفكر الكبير” أو “التفكير العالي”!

يستحضر “الثقفوت” العربي وبشكل هوسي أسماء كبيرة كنيتشه، وجاك دريدا، وليفيناس، وهابرماس، ودو سوسور، وباختين، وكريستيفا، وإدوارد سعيد، وتشومسكي، ومحمد أركون، وبول ريكور، وجورج غادامير، وكأنه يريد أن يؤكد، من خلال هذا الاستشهاد، انخراطه في الفكر العالمي؟

يتم الاستشهاد بهذه الأسماء وغيرها كثيراً جداً، مع العلم أن غالبية هؤلاء الفلاسفة غير مترجمين إلى العربية أو مترجمين بشكل جزئي غير ممنهج، وحتى وإن وجدت ترجمات بعض كتبهم فهي في غالبيتها مشوشة، ومتناقضة في المفاهيم والمصطلحات والصياغات بين هذا المترجم وذاك.

إن مرض “الثقفوت” ناتج أيضاً عن ضعف اللغات الأجنبية، فنادراً ما نجد المبدعين والمفكرين، إلا القلة القليلة، يقرؤون باللغات الأجنبية الكبرى التي تحوي ترجمات الخيرات الفكرية العالمية، وهذا عائد في الأساس إلى تدني تعليم اللغات الأجنبية في الجامعات العربية وشمال أفريقيا بشكل عام، وأعتقد أيضاً أن الفضاء الثقافي والفكري والإبداعي العربي الذي تغيب فيها الترجمة، ليس نتاج قضية تقنية لسانية فقط بل أيضاً لأسباب سياسية ناتجة عن غياب الديمقراطية والخوف من التنوع والتعدد.

هل الشعر سبب من أسباب مرض “الثقفوت العربي؟”

العرب أمة الشعر، هكذا يتعلم الفرد العربي منذ أن يدخل المدرسة، هو حليب الأمومة الثقافي الأول الذي يرضعه، ليس لأن العربية بها شعراء كبار، فالشعراء الكبار موجودون في جميع ثقافات العالم الأدبية، وليس لأن العرب يحتفون من دون غيرهم بالشعر، فهناك أمم تحتفي بالشعر بشكل كبير يفوق احتفاء العرب به، ولكن لأن المجتمع العربي يحتفي بالشعر على طريقته الخاصة، وهو احتفاء ديني أساساً، وفي ظل هذه المصادرة التي يمارسها الشعر على الحقل الثقافي والإبداعي، يتكئ “الثقفوت” بشكل عام على ثقافة الشعر بمفهومه الديني ليسوغ رؤيته للعالم، فالشعر يغادر مجال ثقافة الذي هو مجال الحرية والاختلاف ليصبح في حدود المقدس الديني، وقد يعود هذا أيضاً لارتباط اللغة العربية بحمولتها التقديسية التي صبغها بها الفكر الفقهي المتجذر والمتراكم بشكل تكراري منقول.

ونظراً لطغيان الثقافة الشعرية ليست كقراءة أو كثقافة سؤالية إنما كحالة سيكولوجية، فقد أسهم هذا الوضع في تكريس مرض “الثقفوت” بتحويل الفكر والتفكير من حالة العقلانية والوجودية إلى حالة “شعرية” أو “متشعرنة”، فـ “الثقفوت” العربي يقارب العالم من خلال الشعري، أو المتشاعر، وهو ما يجعل الكتابة العربية بشكل عام تتميز بطغيان أسلوب الرذاذ اللغوي الذي ينزلق على المعنى ويفتقد للتأمل الفلسفي والسوسيولوجي، يتأكد هذا في النصوص “المتشعرنة” السردية العربية التي حين تتم ترجمتها إلى لغات أجنبية لا تثير القراءة ولا تخلق فعل المشاركة الفكرية مع الآخر، وهو ما يحصل للروايات الحائزة على جوائز عربية والتي تعرف رواجاً تجارياً وقرائياً معتبراً في البلدان العربية وشمال أفريقيا، فبمجرد ترجمتها إلى اللغات الأجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية لا تثير الالتفات النقدي ولا القرائي المطلوبين، وتبقى حبيسة أقسام اللغات الشرقية في الجامعات الأوروبية والأميركية ولا تمثل أي حدث ثقافي معتبر، أعتقد أن “تشعرن” الثقافة العربية هو واحد من مسببات مرض “الثقفوت”.

“الثقفوت”: الخوف وهاجس الكتابة الضبابية؟

يعيش المجتمع العربي الثقافي والإبداعي حالة من الخوف المرضي، حيث الرقيب الفكري السياسي لا تنام له عين، والسجون لا تطلب إلا من مزيد، وهذه الحالة البوليسية التي أنتجت هوساً سياسياً في حقل الإبداع، أسقطت الكتابة في السياسة السياسوية التي تعني المدح أو الهجاء، وهي حالة قريبة من الحالة “الشعرية” في مخيال “الثقفوت” العربي، حيث إن 70 في المئة أو أكثر من الإنتاج الشعر العربي يتراوح ما بين المدح والهجاء.

إن طغيان الخطاب السياسوي على الكتابة العربية الإبداعية والفكرية جعلها رهينة الموسمية العابرة، انطلاقاً من ذلك فهاجس الخوف كرس ظاهرة “الثقفوت” الذي يختلق أعداء سياسيين ويتحارب معهم على الطريقة الدونكيشوطية، وعلى الرغم من الكتابة الغارقة في السياسي لا نعثر على رواية سياسية جميلة كبيرة في الأدب العربي، رواية استطاعت أن تحقق مكانة وازنة في المجتمع الأدبي الإبداعي العالمي.

إن مرض “الثقفوت” العربي أنتج عطبين أساسيين في الحقل الفكري والإبداعي هما: الخوف من العقل والاحتماء بالإيمان، وغياب الحوصلة “synthèse” في الفكر العربي.