صباح حراحشة
للوهلة الأولى قد يوحي عنوان هذا المقال بأنه سيناقش فكرتين متضادتين تماما، وهذا التصور يعبر عن إشكالية تنبّيء بوجود حالة تصادم بين الفكرتين، فكيف وجدت هذه الإشكالية؟ وما هي العناصر التي تغذيها وتفاقمها لدرجة خلق صدع عميق بين مكونات المجتمع؟ ثم من هو المسؤول عن إيجادها وما هي الفوائد التي سيحصدها في المقابل؟
هذه المواجهة بين الدين والسياسة هي حدث قديم ولكنه متجدد، تؤججه عملية التنافس على الاستئثار بالحكم، والتي بدأت في تاريخنا الإسلامي منذ حادثة سقيفة بني ساعدة واستمر وجودها في الخلافات المتتالية حتى بدايات القرن العشرين الذي توقفت فيه الخلافة بشكلها السياسي والعسكري على يدي أتاتورك، ولكن الحلم باستعادتها كنموذج للحكم بقي يشكل ركيزة أساسية مشتركة لجميع الحركات والتنظيمات الإسلامية التي نشأت فيما بعد، حيث تبنت كل منها أفكارا وقناعات خاصة شكلت أيديولوجياتها المختلفة في أهدافها وحيثياتها، وفي الطرق التي تتبعها للوصول إلى غايتها النهائية وهي استرداد الخلافة، أو الدولة الحلم، التي ستتحقق من خلالها العدالة، وبالتالي كل الأحلام كاسترداد قوة المسلمين ومكانتهم ودورهم في نهضة العالم، الرخاء الاقتصادي، الأمن، السلام، الحب والوئام بين أفراد المجتمع، لتشكل كل هذه الأحلام مجتمعة الصورة المتكاملة للمدينة الفاضلة أو اليوتوبيا التي لا يمكن أن توجد فعليا على أرض الواقع.
لست أدري من أين ولماذا وجدت فكرة إشتباك الدين مع كل تفاصيل الحياة، حتى وصل الأمر إلى درجة مقلقة بدا فيها أن الدين يقف في مواجهة كل هذه التفاصيل، ويهدف لإثبات تفوقه عليها وأحيانا لإلغائها تماما. فما الهدف مثلا من المواجهة بين الدين والعلم؟ وهل الدين ملزم فعلا بهذه المواجهة أم أن ممارساتنا نحن هي من أثقلت كاهله بهذه المهمة؟ ثم إن هذه المهمة تقوم بناء على تفسيرات وتأويلات رجال الدين والتي قد يثبت العلم عدم صحتها، وبالتالي يتهم الدين بالقصور، وينسى الناس أن المخطئ هو من قدم التفسير الخاطيء والذي يتناسب مع علمه وزمانه وأن النص الديني هو المقدس وليس التفسير البشري للنص. ولكن هل يجب أن يكون رجل الدين عالما في الذرة أو علم الأجنة أو علم الفلك أو غيرها من العلوم؟ الإجابة ببساطة هي لا، إذا لماذا يقحم نفسه ويقحم الدين في مثل هذه المواجهة.
أقحم الدين بالسياسة أيضا بحجة الوصول إلى المدينة الفاضلة، ولكن المشكلة أن القائمين على هذا المشروع جعلوا الدين في مواجهة مع التطور السياسي الذي يواكب حركة التطور الطبيعية للمجتمعات والدول، وهنا يبرز السؤال مجددا: لماذا يجب أن يقف الدين في مواجهة حركة التطور؟ من الذي قرر أن يضعنا في الجبهة المقابلة وفي خلافات مستمرة مع الجماعات السياسية الأخرى؟ ألا يمكن أن نكون مسلمين وديمقراطيين بنفس الوقت مثلا؟ ألا تتشكل الجماعات السياسية في بلادنا من المسلمين وغيرهم؟ ألا يمكن لكل منا مهما كان انتماءه السياسي أن يعمل على خدمة وطنه بضمير يحتكم للدين وطاعة رب العالمين؟ وهل يجب أن تطبق الشريعة بكل تفاصيلها على كل أفراد المجتمع حاليا علما بأن هذا المجتمع يضم أطيافا مختلفة؟ أليس جوهر الدين وجوهر كل الشرائع السماوية هو تحقيق العدالة للجميع؟ إذا لماذا يريد البعض إقصاء الآخرين والاستئثار بالسلطة السياسية وحتى الاجتماعية بحيث يتم إسكات كل من يملك رأيا مخالفا؟ “الدين لله والوطن للجميع” ولا يمكن أن يستوعب الوطن الجميع إن لم تراعي قوانينه ظروفهم واختلافاتهم، فنحن مثلا لو اضطرننا للعيش في دولة غير إسلامية سنشعر بالظلم لو لم تطبق علينا قوانين تلك الدولة بعدالة ولم تمنحنا حقوقنا كاملة.
مواجهات أخرى أيضا يتصدى لها الكثيرون باسم الدين تتعلق بعلوم الأدوية والطب السريري والطب النفسي والإعجاز العددي والكثير من التفاصيل التي يظن من ابتدعوها أنهم يخدمون الدين ويحافظون عليه ويدافعون عنه، فلماذا نتصدى لهذه المهمات التي أوكلها الله لنسفه وتعهد بها “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”. هو وعد قطعه الله على نفسه ولن يخلف به، وها هو الدين ينتشر في كل بقاع الأرض وقد استمر لأكثر من ألف وأربعمائة سنة دون جهود هؤلاء الذين يتصدون لكل أمر دون علم كاف وبدون أسلوب أو طريقة حضارية تصل للقلوب والعقول، بعيدا عن الفظاظة والتطرف والافتراض بأننا الأفضل لمجرد أننا نتصدى لأمور كان الأجدر بالمتخصصين أن يتصدوا لها بأسلوب علمي فقهي مبني على معرفة حقيقية، فحتى رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة والسلام، كان مطالبا باللين في القول حتى لا يبتعد عنه الآخرون وينفضون من حوله، قال تعالى:”فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ”.
الطرق التي تبنتها كل حركة للوصول لهذه اليوتوبيا خلقت صراعات فيما بينها تطورت لدرجة أن كفرت معظم هذه الحركات كل المنتمين للديانات والمرجعيات الأخرى بالإضافة لتكفير بعضها البعض لينقسم العالم إلى قسمين فقط (نحن، الآخر) على اعتبار أن نحن هي الفرقة التي ستفوز بالجنة بينما الآخر هم الكفار الذين سيكون مصيرهم نار جهنم، وهذا التقسيم هو ما تنتج عنه الصراعات بين كل هذه الفئات على شكل حروب عسكرية أو خلافات عقائدية وفكرية. ومن الجدير بالذكر هنا أن قاعدة (نحن، الآخر) تنطبق على كل انتماءاتنا الفكرية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والدينية وهي الأخطر لأنها تشتبك مع عقائدنا التي نشأنا عليها ونؤمن بها وبالتالي أي صدام بين عقيدة وأخرى سيخلق إشكاليات عميقة تستعصي على الحل.
لنكن صريحين وواقعيين ولتكن لدينا الشجاعة الكافية للاعتراف بوجود مشكلة حقيقية بدأت تهدد مجتمعنا، فلقد تبنينا قاعدة (نحن، الآخر) بكل تفاصيل حياتنا: أردني مقابل فلسطيني، شمالي مقابل جنوبي، مسلم مقابل مسيحي، ومؤخرا طائفة مقابل طائفة أخرى وهلم جرا. هذه الممارسات خلقت صدعا وفجوة تزداد كل يوم، تعززها الكثير من العناصر التي تهدف إلى تجهيل المجتمع وصبغه بهويات دينية لا تعبر حقيقة عن جوهر الأديان، فليس الصراع هدفا للأديان أو الطوائف، بل هدفها الارتقاء بنا وتهذيب نفوسنا والسمو بأخلاقنا. لا شك أن الكثيرين مسؤولون عن خلق هذه الصراعات بين الفرقاء، بعضهم بحسن نية وبعضهم الآخر بسوء نية، وكلاهما يسيء للأديان، ولكن الأكثر إساءة هي الجهات المنظمة التي تعمل بحرفية على إيجاد هذه الخلافات وإشعال وقودها في كل حين، لتحقق أهدافا لا تخدم الأوطان ولا تخدم الشعوب أيضا، بل تخدم أهدافها التي هي في الغالب سياسية واقتصادية، لذلك علينا أن لا نسمح بأن نكون وقودا يشعله أعداؤنا ببساطة لتفريقنا وإضعافنا.
ما تعرضت له فلسطين مؤخرا ألغى وبشكل عجيب كل تحيزاتنا التافهة، وخلق منا كيانا متماسكا يحسب له ألف حساب، فكما استطعنا أن نكسر كل دوائرنا الضيقة من أجل فلسطين، لا شك أننا قادرون على الانحياز للوطن أمام كل من سيحاول تشويه أو اقتطاع أي جزء ولو صغير من فسيفساء تنوعنا الذي شكل أجمل وأغنى صورة لأردننا الأعز.