خسرت اليابان أكثر مما ستكسب من الألعاب الأولمبية


كانت طوكيو تأمل أن تجعلها أولمبياد 2020 بلداً في متناول الآخرين من الممكن الوصول إليه بطريقة تكاد تكون غير مسبوقة. لقد خاب هذا الأمل، ولعل الفرصة المقبلة من هذا النوع لن تسنح قريباً

ماري ديجيفسكي كاتبة @IndyVoices

كانت لندن في مثل هذه الأيام، قبل تسع سنوات، توشك أن تستضيف دورة الألعاب الأولمبية الصيفية. ولكن ساد التوجس، بدلاً من الإثارة والحماسة.

أعرف هذا شخصياً لأنني قد قضيت أشهراً وانا أجادل كتابياً وعبر الأثير أيضاً، بهدف دعم أولمبياد لندن 2012، ولكن من دون جدوى تقريباً. فقد كانت اليد الطولى حينذاك للمتشائمين ممن يبشرون بالويل والثبور وعظائم الأمور.

وأشاع هؤلاء أن الأمور لن تسير على ما يرام وسيقع خطأ حتماً. فلندن ستواجه اختناقاً مروريا يسد أبوابها، أو أن أحداً لن يأتي إليها. وستكون المرافق غير لائقة بالمناسبة، كما لن يفوز فريق المملكة المتحدة بكثير من الميداليات وسيهطل المطر في لندن (وهذا ماحصل حقاً في الأيام القليلة الأولى). وحين استُدعي الجيش مباشرة بعدما اعترفت شركة “جي 4 أس” الأمنية فجأة، بعجزها عن استقطاب العدد الكافي من الموظفين لتأدية أعمالها كلها، بدا وكأن المتشائمين كانوا على حق، وأن لسوداويتهم ما يبررها.

ثم جاء حفل الافتتاح بمشاهده الاستعراضية المذهلة (التي اشتملت على هبوط ممثل يؤدي شخصية الملكة بالمظلة، ونشر ممرضات خدمة الصحة الوطنية عشرات الأسرة الخاصة بها على المسرح)  و”يوم السبت العظيم” (حققت فيه فرق المملكة المتحدة انتصارات) الذي يعصى نجاحه الخيال والتوقع، وبات الباقي مجرد تاريخ.

تظل لندن 2012 واحدة من أفضل المناسبات لبسط نجاحات “القوة الناعمة” في تاريخ المدينة، وفي سياق الاستعدادات للأولمبياد جرى تطوير كثير من ستراتفورد في شرق العاصمة، وتحويلها إلى منطقة مختلفة. وللأسف، بدلاً من أن يكون أولمبياد طوكيو 2020 تحفة من النجاح يعود على اليابان بكثير من الفائدة، هاهو يتحول إلى عبارة عن نسخة معاكسة من لندن 2012.

وما كان يَعد بأن يكون واحداً من الألعاب الأولمبية الأفضل من حيث التخطيط، والتنظيم في السنوات والعقود الأخيرة، قد حرفه “كوفيد 19” عن مساره كلياً وبمختلف الأوجه. وليس من الممكن إطلاقاً ضمان أن تمضي الألعاب كما هو مقرر لها، وأن تُجرى المباريات كلها.

وقال مسؤول لايقل أهمية عن توشيرو موتو، رئيس اللجنة المنظمة نفسه،  بأنه لا يستطيع استبعاد الإلغاء إذا كان هناك ارتفاع مفاجئ وحاد في أعداد الإصابات بفيروس كورونا. وأوضح أنه، اعتماداً على ما يحصل “سنفكر في ما يجب أن نفعله”. وكان التحذير في محله. ونظراً للارتفاع في عدد حالات الإصابة بـ”كوفيد”، قلصت الخطط الخاصة بحضور الجمهور أكثر فأكثر. وفي البداية، جرى منع الزوار الأجانب فقط، ثم خُفض عدد جمهور المتفرجين في كل حدث منفرد. وقد تقرر بعد ذلك إجراء كل المسابقات أمام  كاميرات التلفزيون فقط.

 أما بالنسبة لحفل الافتتاح، فمن المتوقع أن يحضره بالفعل عدد أقل من 1000 متفرج، علماً أنه سيُقام في ستاد يمكنه أن يستوعب جمهوراً مؤلفاً من 70000 شخص. وعمد الرعاة التجاريون على تقليص حجم معارضهم، كما ألغوا  إعلاناتهم التلفزيونية، ما يوحي بأنهم يجدون في المشاركة أعباءً ومسؤوليات قد تؤثر سلباً على سمعتهم بدلاً من أن تكون شيئاً مفيداً لهم. ومن بين هؤلاء، تويوتا، وهي الراعي الأكبر للأولمبياد.

وانسحب كبار ممثلي الشركات والأعمال من حفل الافتتاح أيضاً، متذرعين بغياب الجمهور. في غضون ذلك، واجه حفل الافتتاح صعوبات خاصة به أيضاً. فقبل أقل من 24 ساعة على البدء، أُقيل المدير بسبب شريط فيديو سُجل قبل 23 سنة تظهر “مزحة” أطلقها المدير نفسه حول المحرقة النازية. اعتذر كينتارو كوباياشي عن “اختياره الغبي للكلمات في ذلك الوقت”، معرباً عن أسفه. وقد استقال في وقت سابق اثنان آخران لهما علاقة بحفل الافتتاح، نظراً لتصرفات طائشة منفصلة قاما بها. وجاء كل هذا بعد استقالة يوشيرو موري، الذي كان وقتذاك رئيس اللجنة المنظمة، في فبراير ( شباط) الماضي، بعدما قال ما معناه إن جميع النساء ثرثارات يتحدثن كثيراً.

ترك هذا كله انطباعاً لدي، مفاده أنه على الرغم من مكانة اليابان العالمية، فإن بعض كبار المسؤولين سيستفيدون بعض الشيء من الإلمام أكثر بالمعايير العالمية في يومنا هذا. وربما كان الأكثر إحباطاً من أي شيء آخر هو المدى الذي ذهب إليه العامة في اليابان في فقدان ثقتهم بالمشروع برمته، بعدما كانوا يوماً متحمسين بصورة هائلة للتباهي ببلادهم أمام العالم في سياق الأولمبياد.

وإذ اقترب موعد انطلاق الألعاب الأولمبية في طوكيو، فقد وجدت استطلاعات رأي، أن يابانيين يزيد عددهم على نصف الشعب كله أرادوا إلغاء المناسبة الاستعراضية المؤسفة من أساسها، وذلك لخشيتهم من أن تتحول إلى مصدر عظيم لنشر العدوى بالفيروس. ولم يكد يمر يوم واحد منذ بدأ الرياضيون يتوافدون على طوكيو من دون اكتشاف إصابة عدد غير قليل من المشاركين المحتملين في الأولمبياد، بالفيروس. ولعل هذا يجعل الناس يشعرون أن مخاوفهم كانت في محلها.

وبصورة عامة، إذا كانت اللجنة الدولية الأولمبية قد شعرت بالأمل في أنه من الممكن تخفيف الخسائر، بكل أنواعها، من خلال تأجيل طوكيو 2020 لسنة أخرى، فيبدو أن العكس تقريباً هو الصحيح. ربما كانت الجائحة آخذة بالتراجع في العالم الغربي، إلا أنها ماضية بالتفشي على نطاق أوسع في الشرق الأقصى. والحقيقة أن التأجيل مرة أخرى لم يكن مطروحاً على الإطلاق.

قد يمكن للرياضيين ممن استعدوا، من حيث التدريب والطموح أيضاً، للمشاركة في الألعاب الأولمبية التالية، أن يتكيفوا مع الوضع من جديد في حال حصول تأخير لسنة أخرى. وسيؤدي بروز تطورات أكثر من ذلك إلى تخلي عديدين ممن كانوا يأملون بالمنافسة في هذه الألعاب عن مواقعهم للجيل المقبل، لا سيما أنهم لن يكونوا في وضع يسمح لهم بالمنافسة.

 ثم إن هناك التقويم الرياضي الدولي الذي يجب أخذه في الاعتبار، إذ ستُجرى كل من الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية في أعوام مختلفة، وتفصل إحداهما عن الأخرى سنتان. يجري عادة تخصيص كأس العالم لكرة القدم وبطولات العالم لألعاب القوى، والتخطيط لها قبل عشر سنوات من موعدها. وهذا يعني أن إجراء تغيير وحيد في البرنامج من شأنه أن ينشر الفوضى في التقويم برمته. كان لا بد من إقامة أولمبياد طوكيو هذا العام أو إلغائه نهائياً. وستنتقل الشعلة الأولمبية إلى باريس في عام 2024.

لكن لن ينطلي الأمر على أحد. فهذه المباريات ستكون في مثابة محاكاة ساخرة  لتلك الحقيقية. صحيح أنها ستبقى هناك منافسات حامية مليئة بالحيوية، كما سيجري كسر أرقام قياسية وتسجيل أخرى جديدة وميداليات يتسابق المشاركون على الفوز بها. ولكن سيكون من الصعب أن يعتقد المرء أن خلو المرافق التي ستتم فيها المباريات من الناس لن تقوض تجربة المشاركين. كما أن من الصعب تخيل أن غياب المتفرجين لن يثبط معنويات أولئك الذين يتابعون المباريات على شاشات التلفزيون  حول العالم.

لكن ستكون طوكيو واليابان أكبر الخاسرين. فالألعاب الأولمبية، وخصوصاً الصيفية منها، هي بمثابة النافذة التي تطل من خلالها مدينة ما، أو دولة وشعب على العالم كي تُعرف بما تتحلى به من ميزات. كانت اليابان حتى وقت قريب جداً، لا بل ربما لا تزال إلى حد ما، دولة يصعب على الغربيين الوصول إليها. كان من الصعب التنقل بيسر حالما تصل إلى هناك، وذلك لأسباب  ليس أقلها اللغة وأبجديتها واللغة المختلفة والطريقة المميزة لتوزع مساحاتها الحضرية. ولقد كان ولا يزال من الصعب فهم اليابان، كبلد متقدم للغاية اقتصادياً وتكنولوجياً، ومفاهيم مختلفة للغاية حول سلوكه، وتذوقه للجماليات، وموقعه في العالم وفي المجال الروحي.

 لقد استثمرت اليابان مبلغاً هائلاً في أولمبياد طوكيو 2020. فهي كانت ترغب في أن تتباهى بنفسها أمام العالم، وتجعل الأجانب يشعرون أنهم موضع ترحيب فيها، وتيسر لهم سبل التنقل في أرجائها. كانت اليابان تأمل في الحقيقة أن الألعاب الأولمبية ستجعلها بمعنى من المعاني بلداً في متناول الآخرين من الممكن الوصول إليها بطريقة تكاد تكون غير مسبوقة. لقد تبدد هذا الأمل، ولعل الفرصة المقبلة من هذا النوع لن تسنح في وقت قريب جداً.

زادت المدن تردداً على مر السنوات في ترشيح نفسها للفوز بفرصة تنظيم الألعاب الأولمبية. ولا شك في أن وقوع الاختيار على بلد ما سيجعله متميزاً ويعزز مكانته. لكن التكاليف تشكل رادعاً لعديدين، لا سيما أن المهمة تنطوي على مجازفات، بالتعرض لمقاطعة سياسية (موسكو، ولوس أنجليس)، أو لهجوم إرهابي ( ميونخ وأتلانتا)، أو قد تلقى المناسبة نوعاً من الضيق والتبرم من جانب سكان المدينة أنفسهم، على الرغم من المتعة التي قد يحظى بها الزوار. وللأسف، فإن طوكيو 2020/21 ستكون نمطاً قائماً في حد ذاته، فهي الألعاب الأولمبية في زمن الجائحة التي نُظمت على الرغم من كل الصعاب، لكن ربما كان ينبغي ألا تجري على الإطلاق، لو أننا كنا نعيش في عالم أكثر حكمة .

© The Independent