أثر هجمات الميليشيات العراقية والإجلاء الأميركي من الخليج على إيران

 تدعو التطورات للتساؤل هل تحل الولايات المتحدة أزمات المنطقة أم تديرها فقط لأنها أزمات مزمنة ناتجة عن طبيعة تفاعلات منطقة الشرق الأوسط؟

هدى رؤوف كاتبة

تتسارع في الآونة الأخيرة التطورات في الشرق الأوسط، على النحو الذي يخدم المصالح الجيوسياسية لإيران. هذه التطورات تصب في النهاية لصالح وضع لطالما سعت إليه، يتمثل بشكل رئيس في خلو منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما منطقة الخليج العربي من القوات الأميركية التي اعتبرتها مصدر تهديد لها.

أخيراً أعلنت إدارة جو بايدن عزمها على سحب القوات الأميركية من أفغانستان الجار الحدودي لإيران بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، كما تزايدت هجمات الميليشيات العراقية ضد الولايات المتحدة في القواعد العسكرية في كل من العراق وسوريا. فضلاً عن إعادة الصين تموضعها في المنطقة من خلال عدد من التحركات التي تستهدف ترسيخ وجودها كبديل للانسحاب الأميركي، فقد زار وزير الخارجية الصيني عدة دول خليجية بجانب إيران وتركيا، ومنذ أيام زار سوريا واستقبله رئيس النظام بشار الأسد بعد حلفه اليمين، وهو ما يطرح تساؤلات عن الوجود الصيني في سوريا.

التطورات تلك تدعو للتساؤل، هل تحل الولايات المتحدة أزمات المنطقة أم تديرها فقط لأنها أزمات مزمنة ناتجة عن طبيعة تفاعلات منطقة الشرق الأوسط؟ وهل يعد الانسحاب الأميركي من المنطقة تخلياً عن أمن حلفائها أم هناك بدائل أخرى أكثر فاعلية؟ وهل سياسة جو بايدن رادعة لإيران والميليشيات التابعة لها؟ وهل ستؤدي إلى استقرار المنطقة أم سنشهد مزيداً من التوترات؟

البعض اعتبر أن استمرار هجمات الميليشيات العراقية بالتزامن مع مفاوضاتها غير المباشرة مع الولايات المتحدة في فيينا، يشير إلى تلاشي نفوذ إيران على الميليشيات، بسبب مقتل سليماني والمهندس العام الماضي، بسبب المصالح المختلفة والضغوط المالية في طهران.

لكن في تصورنا أن هناك أسباباً أخرى لاستمرار تلك الهجمات، أحدها أن إدارة بايدن على العكس تماماً من إدارة سلفه دونالد ترمب، الذي لم يكن مضموناً انتقامه ورد فعله، وكان مقتل قاسم سليماني أحد الدلائل على عدم توقع خطواته.

أما إدارة بايدن فجاءت بأجندة مرتبطة بالعودة إلى الاتفاق النووي واحتواء إيران وتقليص الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وعدم استخدام الأداة العسكرية، لذا في مواجهة هجمات الميليشيات لم ترد إلا في شهر فبراير (شباط) الماضي بضرب إحدى قواعدها في سوريا.

ومنذ مجيء إدارة بايدن تعرضت القواعد الأميركية في العراق إلى نحو ثماني هجمات بطائرات مسيرة، إضافة إلى 17 هجوماً صاروخياً.

لذا فإن الهجمات المستمرة تفيد إيران من خلال استمرار الضغط على الولايات المتحدة بالتزامن مع مفاوضات فيينا، لكن مع اقتراب موعد الجولة الأخيرة من المفاوضات طلبت طهران التأجيل إلى حين إجراء مشاورات في الداخل، تلتها بإعلان رفض مجلس الأمن القومي الإيراني الاتفاق مع الولايات المتحدة بحجة الامتثال لقانون أصدره مجلس الشورى الإيراني، يطلب من الحكومة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، ما لم ترفع واشنطن العقوبات عن إيران. هذا الموقف الإيراني لا ينم عن مماطلة فقط بل محاولة لكسب الوقت من جهة أخرى لدفع الولايات المتحدة وتسريع نقل قواعدها من منطقة الخليج العربي.

إذ إن تزايد هجمات الميليشيات العراقية ضد الوجود الأميركي في العراق، فضلاً عن تقييم الإدارة الأميركية لوجودها العسكري بالشرق الأوسط، الذي يدور نحو تقليص عدد القوات الأميركية والقواعد بخاصة القريبة من إيران، التي تجعل الوجود الأميركي في مرمى هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة للميليشيات العراقية، كل ذلك لا يدفع الولايات المتحدة إلى تقليص الوجود الأميركي في المنطقة فقط، بل أيضاً التخلي عن بعض القواعد الموجودة في قطر ونقلها إلى الأردن.

بالطبع لا تملك إيران القوة الكافية لدفع الولايات المتحدة إلى نقل قواتها من الخليج، فهذه السياسة ترجع إلى تقييمات الإدارة الأميركية والدليل الاستراتيجي للأمن القومي الأميركي، لكن ما نود قوله هنا هو كيف توظف إيران وتستفيد من أية متغيرات لخدمة مصالحها.

ويبدو أن إيران كانت تعمل من أجل هذا الهدف، فمنذ شهور كانت تظهر ميليشيات شيعية بالعراق لا ترتبط بالحشد الشعبي المعلن ولاءه لإيران، وخلال هذه الفترة تجلت وظائفها، ومنها مجموعة سرايا “أولياء الدم”، لكنها أعلنت مسؤوليتها عن عدد من الهجمات المناهضة للولايات المتحدة في العراق.

البعض يعتبرها جماعات تابعة لإيران، وآخرون يعتبرونها نتاج التوترات بين مختلف الميليشيات التابعة لإيران نفسها. لكن بالنظر إلى النتيجة المترتبة على نقل الولايات المتحدة بعض قواعدها من منطقة الخليج للأردن، فالنتائج تصب في صالح إيران التي لطالما دعت إلى إخلاء الخليج العربي من الوجود الأميركي، حتى يتسنى لها لعب دور شرطي الخليج مرة أخرى، واستعراض قوتها العسكرية، في الوقت الذي توظف فيه الغطاء الدبلوماسي الذي توفره المفاوضات النووية لتكثيف أنشطتها الإقليمية الأخرى والرامية إلى الضغط على الولايات المتحدة عبر ميليشياتها.

أما عن الرد الأميركي على هجمات الميليشيات فقد نفذت ضربات جوية ضد الميليشيات المدعومة من إيران بالقرب من الحدود العراقية السورية، مستهدفة منشآت عملياتية وأخرى لتخزين الأسلحة رداً على هجمات بطائرات مسيرة على قواتها في العراق، حيث قصفت الولايات المتحدة ثلاثة مواقع للميليشيات، منها اثنان في سوريا وواحد في العراق.

كما أُعلن عن أن حلف الناتو وافق على زيادة عدد القوات في العراق من 500 إلى 4000، والمعروف أن مهمة الناتو في العراق هي مهمة تدريبية واستشارية، تهدف إلى إصلاح قطاع الأمن، لكن الأمين العام لحلف الناتو تحدث عن أن التوسع هدفه القضاء على فلول تنظيم “داعش”، ومن ثم قد يرى البعض أن توسع الحلف جاء لمواجهة هجمات الميليشيات العراقية وكبديل للانسحاب الأميركي من العراق.

في النهاية قد ترى إدارة بايدن أن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط أو تقليص الوجود الأميركي بالخليج العربي يهدف إلى منح واشنطن هامش الرد على إيران وميليشياتها من دون وجود ضغط تخوفها من تعرض قواعدها للهجمات، لكن في حقيقة الأمر هذا يفسح المجال لإيران لاستعراض قوتها في الخليج، كما يتماشى مع رؤيتها لأمن الخليج، الذي تعتبره أنه يجب أن يكون خالياً من الوجود الأميركي.

كما قد تعتبر واشنطن أن إضافة إسرائيل إلى قيادة العمليات المركزية بدلاً من القيادة الأوروبية قد يكون رادعاً لإيران، وربما هو كذلك، لكنه سيزيد من تحفز إيران ومناوشاتها، لذا ربما كان على إدارة بايدن بذل جهد أكبر من أجل ردع إيران التي تماطل الآن ليس من أجل الاتفاق النووي فقط، بل من أجل إخلاء منطقة الخليج العربي من الوجود الأميركي، وفي الوقت ذاته تسعى روسيا والصين جاهدتين لملء هذا الفراغ.