عبد السلام حيدر
من الموضوعات التي تتكرر كل سنة، في موسم الحج طبعاً، موضوع: من هو الذبيح؟ هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ وهو سؤال مهم لنا كمسلمين. ورغم ذلك تناقضت مواقف علماء المسلمين حول الموضوع. فمنهم من قال إسحاق ومنهم من قال إسماعيل. والدراسات لا تتوقف حول الموضوع.
ورأيي أن تحديد الذبيح يعتمد على نقطة انطلاقك كباحث أو مفسر، فإذا كنت تأخذ بالإسرائيليات وتنطلق من التوراة ستجد أنها تقول وبوضوح إنه إسحاق؛ ففي الفقرة الثانية من الإصحاح 22 من “سفر التكوين” (كتاب موسى الأول) تقول بوضوح إن الله سبحانه قال لإبراهيم: (خُذ ابنكِ وحيدكَ الذي تُحبه إسحاق..). لكن المشكلة هنا أن إسحاق لم يكن ابناً وحيداً قط. فالتوراة بالصيغة التي بين أيدينا تناقض نفسها؛ لأنها هي التي قالت إنه رزق بإسماعيل أولاً، وإن إسماعيل كان في الرابعة عشرة من عمره حين ولد إسحاق (سفر التكوين 13). فحتى لو كانت أمه أَمَة مستعبدة فهو ابن إبراهيم وهو الذي كان وحيد إبراهيم مدة 14 سنة قبل مولد إسحاق الذي لم يكن وحيداً قط في البنوة لإبراهيم.
وهنا تتضح المشكلة الرئيسية للتوراة؛ فنحن نعرف أن موسى (عليه السلام) مات على الأرجح في القرن 13 ق. م. بينما لم تجمع التوراة ويجري تحريرها وتنقيحها إلا في القرن الثالث قبل الميلاد، أي أن هناك حوالي ألف سنة تعرض خلالها العبرانيون لأهوال عدة أبيدوا فيها وأسروا. وفي فترة الأسر أو السبي البابلي اهتم أنبياؤهم بأصول الديانة الموسوية وإعادة التذكير بها والاقتداء بمفاهيمها الأساسية. ومن أهم أحداث هذه الفترة “تحرير وتنقيح أسفار موسى الخمسة”، وأولها سفر التكوين الذي مر ذكره.
وهذا (التحرير) جعل بعض الدارسين يتحدث عن ضياع النص الأصلي للتوراة، وأن ما بقي منها مليء بالتبديلات والتغييرات والتحويرات، وأن معرفة الأجزاء الموحى بها أصبحت مهمة في غاية الصعوبة. والاحتمال الأرجح لديهم أن ألفاظ الوحي الأصلية قد ضاعت في خضم عمليات التحرير والتنقيح التي خضع لها النص الأصلي المعطى لموسى (عليه السلام). وهذا ما قد يفسر بعض تناقضات التوراة والخلل الذي أصاب بناءها العام، وتعدد أساليبها. وبعد العودة من السبي بفضل قورش (الفارسي) تم جمع أسفار التوراة وتثبيت نصها بعد تحريره مرة أخرى بواسطة (عزرا الكاتب) وكان كاهناً لا نبياً. وأصبح نصه قانونياً عام 330 ق.م تقريباً، فلم يسمح بالإضافة إليه بعد هذا التاريخ.
ورأيي أن أغلب علماء المسلمين، قبل ابن حزم على الأقل، لم يلموا بهذه التطورات بشكل مقبول، وهذا واضح في تفسيراتهم وأقوالهم، وهو أمر ما زال مستمراً للأسف، وقد رأيت عدة حلقات لعالم مغربي يجلس وحوله المئات ومع ذلك جهله في هذه النقطة تحديداً مضحك. وإذا مر به شيء يخص التوراة لجأ لذات الخرافات القديمة الموجودة في التفاسير. ولو قرأ الرجل أي دراسة حديثة عن التاريخ النقدي للكتاب المقدس لاستراح وأراحنا من كل هذا اللت والعجن. المهم أن عدداً لا بأس به من علماء المسلمين -قديماً وحديثاً- تابع التوراة وقال إن إسحاق هو الذبيح. ولم يلاحظ أن التوراة في نسختها المحررة تتعمد تشويه إسماعيل كي تقدم عليه إسحاق، وذلك لسبب قومي (عنصري).
ولكن إذا كنت تنطلق من القرآن كمرجعية، فعن طريق المقارنة والاستنباط ستقتنع مع القسم الثاني من المفسرين أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق. فمثلاً في سورة الصافات، حيث تذكر قصة الذبيح للمرة الأولى والأخيرة، نجد أن إبراهيم (عليه السلام) بعد نجاته من النار دعا ربه فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ). وهنا يقول الحق سبحانه: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ).
فأنت ترى هنا أننا أمام بشارتين منفصلتين واحدة في أول هذا النص القرآني والثانية في آخره. فثبات إبراهيم واستعداده للتضحية بنفسه قابله أن بشره الله بابنه الأول وقال عنه إنه (غلام حليم)، أي أنه ذكر وأنه سيكبر حتى يبلغ الحلم ويكون حليماً. فلما بلغ هذا المبلغ رأى إبراهيم أنه يضحي به رغم أنه ابنه الوحيد، وهذا أمر جلل لذا تصفه السورة بقولها (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ) ولاحظ كم عدد التوكيدات في الآية: إن والإشارة واللام والاسمية.. إلخ. وظني أن هذه هي المرة الوحيدة التي يستخدم فيها القرآن كل هذا العدد من أدوات التوكيد في آية واحدة وذلك لوصف عظم الابتلاء كما سبق. ولأن الغلام كان حليماً كانت إجابته تليق به فقال (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). ولاحظ أيضاً عدد التوكيدات التي استخدمها الغلام لتأكيد استسلامه لقضاء الله حتى تعلم أن وصفه بالحلم ليس عبثاً. ولما استسلما لقضاء الله جوزيا خيراً، أما الابن فقد افتداه الله بذبح عظيم وأكثر نسله ثم أكرمه بالنبوة، وأما الأب (إبراهيم) فقد بشره الله بابن ثان وسماه وبوضوح (إسحاق) فقال: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). فإسحاق كابن ثان ليس هو الابن الأول أي ليس (الذبيح)، ولاحظ أن الآية تصف إسحاق منذ البداية بأنه نبي، والنبوة لا تكون قبل الحُلم. ولو بشره بأن إسحاق سيكون نبياً ثم أمره بذبحه لكان هناك تناقض، ولقال إبراهيم لنفسه كيف يقول لي مرة إنه سيكون نبياً ثم يقول لي أخرى اذبحه وهو لم يصبح نبياً بعد! ويؤكد هذا أيضاً ما جاء في (سورة هود)؛ حيث قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ). فقبل أن يولد إسحاق قيل له إنه سيعيش حتى يتزوج وينجب ابناً اسمه يعقوب. فلا يستساغ أن يقول له بعد هذا اذبحه! لأن هذا سيقلل من جدية الابتلاء بذبح الابن الوحيد. فمرة أخرى نجد القرآن يقول وبوضوح إن الذبيح ليس إسحاق ولكن ابن آخر سبقه. وهل يوجد غير إسماعيل؟!
بالطبع أنا هنا لا أتطرق إلى السنة، لأن القرآن يكفي هنا ولا يحتاج إلا لعقل يقارن ويفهم. زد على ذلك كله -رغم أنني تعبت خلاص من الكتابة- أن حادثة الذبح مركزية في الإسلام، وتنبني عليها عبادة مهمة هي الحج أحد أركان الإسلام، بينما الأمر غير مهم لبني إسرائيل حيث لا تنبني عليه أي عبادة مهمة عندهم. فمن الطبيعي أن تحدث الحادثة للأب الأعلى للمسلمين. وكما أن المسلمين يهرولون في نفس المكان الذي هرولت فيه هاجر فهم يذبحون أيضاً في نفس المكان الذي ذبح فيه إبراهيم الفداء. والله أعلم بالطبع. وكل عام والجميع بخير.