إيران تنتزع التكليف ليس من الحريري بل من الجهد العربي الدولي


يخطئ من يقلل من حجم نفوذ طهران في لبنان والمنطقة ووجهات استعماله

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

حد التقديرات الأبرز لتعقّد الحالة اللبنانية، يعيد سبب هذا التعقيد إلى هيمنة إيران عبر تحالفاتها وأتباعها وحتى وجودها المباشر على لبنان وقرارات سلطته أو ما تبقّى منها. والكلام عن هذه الهيمنة ليس جديداً. إنه يعود على الأقل إلى محطة اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان (2005)، ثم حلول إيران تدريجاً محل السوريين في التحكم بمفاصل الحياة اللبنانية. وقد احتاج ذلك إلى أربع خطوات متتالية بدأت بحملة التصفيات للقيادات مع اغتيال الحريري، ثم إعلان الإمساك بقرار السلم والحرب في حرب يوليو (تموز) 2006، رداً على الحوار الوطني الذي كان يبحث عن دور الدولة في هذه المسألة، ثم تعطيل البلاد واحتلال وسطها في اعتصام انتهى إلى غزوة بيروت والجبل ووضع لبنان في آتون حرب طائفية ومذهبية جديدة (2008)، ما أسس لاتفاق الدوحة وأرسى شراكة إيران الحاسمة في إنجازه، وصولاً إلى انخراط “حزب الله” كفصيل تابع للحرس الثوري في الحروب السورية وحروب “الحرس” الأخرى، في العراق واليمن، واهتمامه بالشيخ الزكزاكي في نيجيريا الذي وضعه النظام الإيراني على لائحة المناضلين من أجل ولاية الفقيه.

يخطئ من يظن أنه بعد هذا المسار من التخطيط والجهد ودفع الأموال، لن تكون إرادة طهران نافذة على ساحل “غرب آسيا”. فإيران أقوى في لبنان منه في سوريا على الرغم من وجودها في ذلك البلد عسكرياً واقتصادياً، وهي احتاجت إلى حزبها اللبناني لتأمين نفوذها في دمشق، فيما بقيت تنظيماتها الأخرى على هامش النفوذ والتأثير. ونفوذ طهران في لبنان “الشيعي” أقوى من نفوذها في العراق. ففي لبنان، تمكنت الخمينية من إنشاء حزب واحد في الوسط الشيعي، لديه ميليشياته وقدراته، بينما تعددت تنظيمات الحشد الشعبي الموالية في العراق ولم ترتقِ إلى مصاف القرار الموحد. وفي اليمن فحسب بدت التجربة الإيرانية متقاربة مع مثيلتها اللبنانية. فعبر مسار طويل من الانقلابات والتحالفات والتصفيات، جعلت طهران من الحوثيين قوة متماسكة تأتمر بتوجيهاتها على ساحل البحر الأحمر وحدود السعودية.

تستخدم إيران مواقع النفوذ المذكورة بهدفين، الأول بعيد المدى قوامه بسط نفوذها الجيو – مذهبي على منطقة المشرق العربي والجزيرة العربية، والثاني قصير المدى ويدخل في باب الاستعمالات الآنية. ففي التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، ومع الدول العربية الرافضة لسياساتها التوسعية، تستعمل طهران هذه المواقع كأوراق لعبٍ، بل كرهائن خاضعة للمساومة بما يخدم مصالح نظام الملالي والمشروع الفارسي الأعمق.

بهذا المنطق، تعاملت إيران مع أزمة لبنان ومشروع تكليف سعد الحريري تشكيل حكومة تسهم في إنهاء هذه الأزمة. لم تنظر إلى لبنان خارج خطَّيْ تعزيز نفوذ مواليها ومواجهة الغرب والعرب، ممثلين بفرنسا ومصر والسعودية. ولهذا استفادت من تحالفاتها التي تضم حزبها المسلح وموقع رئاسة الجمهورية اللبنانية لنسف أي خطوة تتيح عودة البلد إلى مسار استعادة الحياة بالتعاون مع المؤسسات الدولية والعمق المالي والاقتصادي العربي. وفي السياق، لم يكن منع الحريري من تشكيل حكومة موثوقة وفاعلة مجرد نتيجة شكلية لعدم توافق دستوري، بل كان قراراً إيرانياً بنزع التكليف ليس من الحريري فحسب، بل من الدور الفرنسي وانخراط أميركا والسعودية سوياً إلى جانبه في محاولة تغيير المسار المأساوي في لبنان.